صفحات الثقافة

ثقافـــة وثقافـــة


عباس بيضون

كان غوبلز يقول حين اسمع كلمة ثقافة، أتحسس مسدسي. كان غوبلز احد منظري النازية المرموقين. وللنازية رأي في الثقافة والفن قوامه مطابقتها او عدمه للروح والقيم الجرمانية، الثقافة إذن ذات غرض عنصري قومي إذا هي ابتعدت عنه صارت منحطة والفن المنحط وجدته النازية في كل فن القرن العشرين. التكعيبية والتعبيرية كما وجدته في أدب ألمان اقحاح منهم توماس مان وبريخت. ليس حظ الثقافة مختلفاً في كل النظم العقائدية فجميعها تخاف من الثقافة، اذاً انها نقيض الإيمان والنظم التوتاليتارية تقوم على الإيمان، الثقافة تعني حرية التفكير وتنوعه باختلاف الأفراد والأقوام واللغات والبيئات. ذلك بالضبط ما يجعل النظم العقائدية ترى في الثقافة الحرة سماً يتلف الروح البروليتاري أو الآري أو الإسلامي أو القومي، لا يعني هذا على الإطلاق نفي الثقافة بل استبدالها بالعقيدة التي لها أيضاً ثقافتها. مع ذلك تبقى الثقافة مخيفة، انها دعوة إلى الانفراد والشطح والانحراف عن ترسيمة القيم القائمة والمفروضة.

المثقفون لذلك متهمون، انهم مارقون وكفرة وأعداء، فالأفكار إذا خرجت عن المسار صارت خطرة. كان غوبلز حارساً للعقيدة وللقيم لذا لم يجد أمامه سوى الحرب، الحرب الحقيقية على ذلك النزوع إلى الحرية والاختلاف الذي هو أسّ الثقافة. ما قاله غوبلز كان سيقوله ستالين او ماوتسي تونغ وقاله بالطبع ومارسه الكمبوديون الحمر. ومارسه خالد بكداش أيضاً. الثقافة بالنسبة للعقائديين من أي لون خطرة. هنا تجتمع التوتاليتارية النازية والشيوعية كما اجتمعتا في كـــتاب حنة أرندت «أصول التوتاليتارية». إذا تكلمنا عن أنفسنا وجدنا كل الحجج المعادية للثقافة. انها بالطبع ضد الصنم القومي لكنها أيضاً ضد دعوى الفطرة والقيم البطولية وبالطبع ضد «أيها الشـــعب أنت الهي» وضد «أبنائنا الفلاحين في ثياب الجنود»، ضد «كل هذه الشــعوذة الشعــبوية التي تعلو لتبرر الرصاص الذي يلقــمه أبنــاؤنا، الفلاحــون في ثياب الجنود، للمتظاهرين الذين ننسى عندئذ عن قصد أنهم أيضاً مواطنونا».

مواطنــونا فحســب لكي لا نقول أخوتنا أو ابناء عمــنا فمــن الواضــح انه ليــس لنا الدم نفسه ولا الروح نفسها ولا الشعور نفــسه، الثقافة أيضاً ضد التعاليم التي تسقط من عل، ضد الإتّباع الأعمى للتعــاليم وللأشخاص. ضد تقديــس الدولة والأمناء العامين لكنها أيضاً ضد المغمغة، ضد المواربـة، ضد التحايل على الفكر وعلى الموقف وعلى الهدف، ضد الخداع النظري وضد التبرير الكاذب. لكن هناك بالطبع مثقفين خونة. هناك مثــــــقفون لا يطيقون عبء الحقيقة ولا يطيقون التحديق المتصل فيها. هناك مثقفون يخافون ويكذبون على الحقيقة علماً منهم بأن الأرض لا تزال تدور. هناك مثقفون ضعاف ينكرون مرات قبل صياح الديك، هناك مثقفون في خدمة العسف ويبنون أهراماً من الحجج لتسويقه. هناك مثقفون يزينون مآربهم الخاصة وربما نعـــراتهم بمزيد من الحجج. هناك مثقفون عمي لكن هناك أيضاً مثقـــفين كذبة يقسمون زوراً ويكررون قسمهم بالزور. هناك مثقــفون كانوا في خدمة الغستابو وستاسي. هناك مثقفون متعاونون ومثقفون متواطئون ومثقفون عيون على زملائهم، ومثقــفون يبيعون أنفسهم وهناك مثقفون للاستبداد ومثقفون للطغيان ومثقــفون لكل آفة. لكن الثقافة التي يتحسس من أجلها غــوبلز مسدسه ليســت ثقافة هؤلاء وليس هؤلاء أهلها. الثقافة التي تخيــف غوبلز هي الثقــافة التي لا تباع ولا تكذب ولا تتحايل ولا تتجسس ولا تكــرز للطغــيان ولا تقســم بالزور. انها أيضاً الثقافة التي لا تتظاهــر بأنها لم تر الدم ولم تعــاين القــاتل.

الثقافة التي لا تقدم حججاً للطغيان وصك براءة للاستبداد. لم يكن غوبلز وحيداً، كان محاطاً بمئات المثقفين. مئات الأساتذة والدكاترة والمتفلسفين والباحثين والأدباء الذين حاولوا أن يبنوا من خليط من كل علم وكل فكر هياكل للعنصرية، وان يطابقوا العلم والفكر مع السياسة النازية وان يضعوا للعنصرية فلسفة صلبة ونظرية ثابتة. لقد كان محاطاً بمثقفيه وهو أيضاً كان، بمعنى ما، مثقفاً لكنه يعرف ان الثقافة الحقيقية تأتي دائماً من مكان آخر.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى