صفحات الحوار

ثلاثة حوارات مع الكاتب الأفغاني عتيق رحيمي

عتيق رحيمي لـ’المدن’: أنا المنفيّ

ديمة ونوس

 ليست الهوية مجرّد عبث. ليست فكرة مجرّدة ونقطة. إنها تاريخ افتراضي وإرث لم نشارك بصنعه ومجتمع ننتمي إليه وقد ندافع عن قضاياه وقد يودي بنا ذلك الدفاع إلى الإقصاء والتهميش والسجن والمنفى. إنها مسألة معقدة. ما البال إن حمل أحدنا هويات متعددة. وليست أي هويات. بل تلك التي لا تمت بصلة إلى بعضها البعض. كأن تكون أفغانياً في فرنسا. وقد أمضيت طفولتك في كابول ومراهقتك في الهند وشبابك في باريس. عتيق رحيمي الحائز على جائزة “غونكور” 2008 عن كتابه “حجر الصبر”، كان حاضراً في “صالون الكتاب الفرنكفوني”. تحدّث إلى جمهور لبناني متعدد الهويات أيضاً من دون أن يغادر لبنان ويسكن في باريس. تعدد الهويات الذي يأخذ في بعض الأحيان صفة الهويات الضائعة. وقع عتيق رحيمي روايته الأخيرة “اللعنة على دوستويفسكي”، وهي الرواية الثانية التي كتبها باللغة الفرنسية بعد “أرض ورماد” و”ألف منزل للحلم والرعب” و”العودة المتخيلة” الصادرة باللغة الفارسية.

 –                    في العالم العربي، يلجأ الروائي إلى السينما والتلفزيون، ليتمكن من العيش بكرامة. فالكتابة وحدها لا تطعم خبزاً. في الوقت ذاته، الخيال الذي يصنع رواية، يختلف تماماً عن ذلك الذي ينتج فيلماً سينمائياً. كيف استطعت الاستغراق في مهنتين، كل واحدة بينهما تتطلب منك خيالاً منفصلاً؟

بدأت بالكتابة في عمر مبكر في أفغانستان. اتجهت نحو السينما من خلال كتابة مقالات نقدية. عندما تركت أفغانستان في العام 1984، أهملت الكتابة بعض الوقت. في فرنسا، شعرت بالفقدان. خسرت القارئ الذي كنت أكتب إليه في أفغانستان. وعندما أردت تعلم اللغة الفرنسية لم أشأ الالتحاق بمدرسة لتعليم اللغة. قررت الالتحاق بالجامعة فوراً حيث درست السينما وتعلمت اللغة الفرنسية. وعندما تمكنت من اللغة، عثرت على طريقة جديدة للتعبير، عن طريق السينما. في البداية، لم أضع نفسي أمام خيارات صعبة (الكتابة أو السينما). أردت العمل في السينما حينها. إلا أن أخي قتل في أفغانستان في العام 1997. عندها بدأت بطرح الأسئلة حول العلاقة بين السينما والأدب. في الأدب أبحث عن كلمات تحمل مشاعري وعواطفي بينما أبحث في السينما عن مشاعر وعواطف تحمل الكلمات. لكل فنّ طريقته في التعبير عن الأحداث والتفاصيل والشخصيات. ما نحكيه في الرواية لا يمت بصلة لما نصوّره في الفيلم. لكل فن عالمه الخاص. في الكتابة نعمل مع الكلمات ونشتغل عليها ونراكمها. وفي أحيان كثيرة، نكتب دون أن نعرف عماذا سنكتب بالضبط. نرسم قدر أشخاص من دون أن نفكر من أين يأتون وإلى أين سيذهبون. بينما في السينما، يحدث العكس تماماً. نعرف منذ البداية إلى أين سنذهب بهذه الشخصيات. كل التفاصيل مرسومة مسبقاً. السينما ساعدتني على فهم رواياتي بشكل أفضل. في السينما، أجد نفسي مطالباً بتبرير الحبكة وفكفكتها وطرح الأسئلة. ولست أنا وحدي كمخرج من يطرح تلك الأسئلة، المنتج أيضاً يصبح معنياً بطرحها. لماذا وضعت الكاميرا في هذه الزاوية تحديداً؟ لماذا طلبت من الممثل أن ينظر بالطريقة هذه؟ السينما جعلتني أطرح الأسئلة عن روايتي. لماذا كتبتها مثلاً؟ وهذا يمنح لشخصياتي قدراً آخر وأبعاداً أخرى.

–                     لماذا اخترت أن تكون مخرج أعمالك؟ ربما تحتاج روايتك إلى شخص آخر، حيادي، يقف على مسافة من الشخصيات والأحداث. كم أنت مغرور!

بالفعل. معك حق. السينما تجعلني مغروراً. في السينما، أنا طفل مدلل مع مجموعة من الألعاب كقطع الليغو. وهذا يعكس نرجسية الطفل وحاجته للاحتجاج الدائم والتذمر. لماذا الكاميرا ليست في مكانها المفترض؟ لماذا تأخرت الإضاءة؟ لماذا ولماذا…؟ بينما في الرواية، تكونين وحيدة مع أوراقك، وشكوكك، وأسئلتك. لا وجود لمن يساعدك. تموتين في سبيل اختراع كلمة ما وصياغة العبارة المناسبة. نتحول إلى شحاذين في الرواية بينما تجعلنا السينما أطفالاً مدللين. لذلك أنا بحاجة للأمرين.

–                     ولعُك بشخصية شهرزاد يبدو جلياً. وليست المرأة في “حجر الصبر” سوى شهرزاد بطريقة أو بأخرى. شهرزاد تروي قصصاً لتنجو من الموت، لتؤخر موتها. بينما تتحرر المرأة في روايتك عن طريق الحكي. ما علاقة بطلتك بشهرزاد؟

“ألف ليلة وليلة”، حاضر في ذهني دائماً. وغالباً ما أذكره في مقابلاتي. بالنسبة إلى شهرزاد، الحكي، مسألة وجودية. في رواية ستيفان كينغ الشهيرة “ميزيري”، ثمة عبارة أحبها جداً: “هنالك قصص نرويها لنكسب حياتنا، وقصص أخرى كي لا نضيّعها”. بالنسبة إلي، شهرزاد تروي حكايات كي لا تفقد حياتها وليس لكي تكسبها، وثمة فرق. نولد مقموعين وليس لدينا الحق بقول ما نشاء. الكلام يصبح قضية وجودية بالنسبة إلينا. لذلك نكتب قصائد نتحايل فيها على المعنى ونستخدم المجازات بسخاء. لا نقول الأشياء بشكل مباشر بل بالإيحاء والرمزية.

–                     المرأة في العالم العربي تخضع في العموم إلى سلطة الزوج. وعندما يمرض أو يصاب بعجز ما كما هو الحال في روايتك، تنتقم المرأة لنفسها. وتبدأ باستعادة حياتها ومساحتها الخاصة وكيانها. لكنك في الرواية لم تكن عادلاً مع البطل. ولم تكن حيادياً. عندما تتسلق الطفلة والدها وتمسك بلحيته وتحثه على النهوض ب”حا” و”حي” كما تحثّ الدابة على السير!

هل تعتقدين ذلك؟ بالعكس، لقد اشتاقت الفتاتان لوالدهما وكانتا تحاولان اللعب معه وإيقاظه. وهذا يعني أن الأب عندما لم يكن مريضاً وعاجزاً كان يلاعبهما!

–                     لكننا لا نعرف إن كان يلاعبهما فعلاً قبل مرضه!

ربما، لكن الراوي منذ البداية وحتى انتهاء الرواية، لم يقل ولا كلمة واحدة عن الشخصيات. لم يصفهما بأي وصف. لا وجود لحكم القيمة. والغريب أنني كنت أعتقد أن كيفية تعامل الفتاتان مع والدهما هي الفعل الوحيد الذي يبدو في الرواية أقل قسوة مع الرجل. وكأن ذلك الفعل يودي بنا إلى افتراض أنه لم يكن أباً قاسياً أو جلفاً.

–                     لا أعرف إن كانت للأدب مهمة ما أو وظيفة. لكن لا يمكننا تجاهل الأثر الذي يحدثه الأدب في مجتمع ما أو في حياة أشخاص. لماذا اخترت كتابة “حجر الصبر” بالفرنسية؟ لماذا اخترت التوجه إلى الجمهور الفرنسي وليس إلى مجتمعك؟

الأدب له جمهوره وقرّاؤه. وهو يساعدهم على طرح الأسئلة وليس الإجابة عنها. مرة، علمت أن موقعاً إسلامياً نشر دراسة نقدية عن “حجر الصبر” لا تخلو من المديح. فاجأني الأمر وحرصت على قراءة المقال. وكانت خاتمة المقال الذي يمدح الرواية على الشكل التالي: هذا الكتاب يقدّم لنا تبريرات لضرورة أن نتعامل مع المرأة بقسوة وبشكل حازم. هل ترين كيف قرأوا المقال؟ لا يمكننا الحديث هنا عن تأثير هائل للأدب. بالتأكيد ثمة تأثير ما. لولا الأدب، لما كنا الآن نجلس أنت وأنا ونتحدث ونتناقش بأمور مشتركة. أما عن اختياري للفرنسية فببساطة، لأن الجملة الأولى خرجت بالفرنسية. حتى العام 2002، لم أكن قادراً على الكتابة بالفرنسية. كل كلمة أكتبها، كانت تخرج بالفارسية من تلقاء نفسها. كان ثمة روابط بيني وبين أصولي. ثم عندما عدت في العام 2002 إلى أفغانستان، لم أعثر على شيء. فقدت كل صلة. ثمة ما انكسر في داخلي. عندها فقط شعرت بأنني منفي في فرنسا. وبلادي كانت خلال تلك السنوات الثمانية عشر، تعيش مرحلة مرعبة وتاريخاً آخر. عدت ذلك الحين، وشعرت أن شيئاً ما تغير في داخلي. لم يعد لدي عائلة هناك. أخي قتل. أهلي تركوا أفغانستان. لا أصدقاء ولا نقاط ارتكاز. لذلك شعرت حينها أنني منفي وأنني منفي في اللغة خاصة. اللغة الأم التي نبكي بدموعها ونصرخ بكلماتها، تفرض علينا مجموعة محرّمات إن شئنا أن أبينا. لم أكن بحاجة، في الروايتين الأخيرتين “حجر الصبر” و”اللعنة على دوستويفسكي”، إلى أن أتحايل وأوارب. كنت مباشراً لأنني أكتب بلغة ليست لغتي الأم.

مشهد من فيلم “حجر الصبر” الذي يعرض اليوم في طرابلس وبيروت

–                     تقول في مكان ما إن إقامتك في الهند ساعدتك على أن تكون فرداً. وإن العائلة في عالمنا تسحق الفرد وتلغي هويته وتعبث بخصوصيته. في الوقت ذاته، كان القمع في البلدان العربية مثلاً، حافزاً لكثير من الكتاب لاستفزاز الإبداع لديهم، لكشف خبايا المحرمّات والأماكن المظلمة. كيف ترى هذا التناقض؟ هل الحرية هي التي تستفز الكاتب أم القمع؟

هذا سؤال صعب. القمع يجعل الكاتب خائفاً لأنه سيدفع ثمن كلمته. لذلك نرى حضور الشعر قوياً في عالمنا بينما في الغرب، القصيدة ماتت تقريباً. في الرواية، يجب أن نقول كل شيء. الرواية ولدت حول الشخصية الفردية. الرواية لا تحتمل المواربة.

–                     هل تعتقد أنك ستتمكن في يوم من الأيام من التحرّر من قضية بلادك والكتابة عن تجارب لا علاقة لها بالسياسة أو الحياة الاجتماعية في أفغانستان؟

أحب فعلاً وأتمنى أن أستطيع في يوم من الأيام التخفف من هذا الإرث. وألا أسأل في المقابلات الصحافية عن أفغانستان مثلاً! هذا حلم كل كاتب. حتى الآن، مجتمعاتنا وبلداننا هي محط أنظار العالم وفضوله. لكن في البداية علينا الخروج من حالة الإنكار التي نعيشها. وربما الجيل الجديد سيتمكن من الخروج من هذه الحالة.

–                     سؤال أخير حول رؤيتك للثورات العربية والربيع العربي.

هل هي ثورة أم تمرّد؟ أقول إنها بدأت كتمرّد وجودي للفرد. في تونس، أضرم البوعزيزي النار بجسده احتجاجاً على وضعه المزري. لكن للأسف، الأخوان المسلمون والإسلاميون استغلوا حركة التمرد والاحتجاج تلك. لأن الأنظمة الشمولية لم تترك بديلاً غيرها. بالنسبة إلى هذه الأنظمة، يشكل التقدميون أو الشيوعيون والعلمانيون أعداء ألدّ من الإسلاميين.فباستطاعة هؤلاء خلق جيل ذكي ومبدع ومتعلم. وللأسف، ليس ثمة بدل آخر في غياب المثقفين والعلمانيين الذين تركوا بلادهم وهاجروا إلى الغرب. وهذا سيحتاج إلى وقت طويل.

  (*) يفتتح مساء اليوم مهرجان “السينما تقاوم” في “ميتروبوليس” بيروت بالتزامن مع مجمع “بلانيت- سيتي كومبليكس” في طرابلس. وسيعرض في الافتتاح فيلم “حجر الصبر” في بيروت الساعة الثامنة مساء، وفي طرابلس الساعة الخامسة عصراً.

المدن

الروائي الأفغاني الفرنكوفوني عتيق رحيمي: التخلي عن استخدام اللغة الأُمّ رسم لي طريق الحرية!

                                            الروائي الأفغاني الفرنكوفوني عتيق رحيمي زار لبنان للمرة الأولى عبر مشاركته في “صالون الكتاب الفرنكوفوني” في “البيال” في الأسبوع الثاني من هذا الشهر والتقى قرّاءه ووقّع كتبه في إطار من الاحتفالية الخاصة لزيارته، فهو منذ أن نال جائزة غونكور الفرنسية في العام 2008 عن روايته “سينغي صابور” أو “حجر الصبر” أصبح حضوره متوقعاً في بيروت وسط الكتّاب الذين يحضرون كل عام مشاركين في فعاليات “صالون الكتاب الفرنكوفوني” السنوي، إلى ان قرر المجيء مع صدور روايته الجديدة “ملعون دوستويسكي” التي تربعت فوق منصّة خاصة بأعماله الكاملة في المعرض. وعتيق رحيمي المولود في كابول في العام 1962 يحمل أيضاً الجنسية الفرنسية منذ أن قرر الرحيل عن بلاده وطلب اللجوء السياسي عام 1984 وكان قد شهد على حرب أفغانستان ما بين 1979 و1984 وما ان وصل إلى فرنسا بدأ دراسات في “السمعي البصري” في السوربون وأخرج العديد من الأفلام الوثائقية قبل أن يقتبس روايته الأولى “أرض ورماد” إلى السينما عام 2004 وينال عن الفيلم “جائزة كان: “نظرة إلى المستقبل”.

وبعد أن أصدر ثلاث روايات بالفارسية: “أرض ورماد” و”آلاف المنازل للحلم والارهاب” و”العودة المتخيّلة” وكان معروفاً في إطار محلي في بلده، كتب “سينغي صابور: حجر الصبر” بالفرنسية فتشكلت له هذه الرواية النقلة النوعية التي رسمت قدره ومصيره، إذ حاز عنها “جائزة غونكور” واقتبسها أيضاً إلى السينما عام 2011 وأُنجز الفيلم وعرض في شتاء 2013. عن هذا الفيلم بدأنا الحديث مع عتيق رحيمي وقد شرح لنا ظروف كتابة الرواية أيضاً:

[ تعتبر رواية “سينغي صابور: حجر الصبر” نقطة انطلاقتك العالمية مع أنها تغوص على أحداث محلية تجري في بلدك أفغانستان، ما هي ظروف كتابة هذه الرواية، وهل أحداثها متخيلة أم من الواقع؟

ـ أعود بذاكرتي هنا إلى العام 2005 وكنت مدعواً للمشاركة في ندوة أدبية في هيرات غرب أفغانستان وهذه المدينة شهيرة عبر التاريخ باحتوائها عدداً كبيراً من الشعراء المتصوّفين، غير أن الندوة لم تحصل بسبب حادثة هزت الأوساط الأدبية آنذاك وهو موت الشاعرة الأفغانية ناديا انجومان أو بالأحرى مقتلها على يد زوجها بعد أن ضربها هذا الأخير ضرباً مبرحاً أودى بحياتها، وكانت تبلغ 25 عاماً واماً لطفلة صغيرة. هذه الحادثة هزّت كياني وجعلتني أكتب كل أحاسيسي وكل غضبي وثورتي في رسالة نشرتها في فرنسا. ثم رحت أجمع المعلومات حول القضية وعرفت ان الزوج كان قد سجن حين شرب مادة سامة للانتحار الا انه لم يمت بل وقع في غيبوبة. وعرفت حول القصة أن والدة الزوجة هي التي حرّضت صهرها على قتل ابنتها لعدم رضاها على تصرفاتها. ذهلت من هذه القصة وكنت قد سمعت ما يشبهها من قبل حيث النساء حتى لا يعرفن الرحمة تجاه بعضهن البعض في مجتمعنا، فتخيلت حديثاً كان يمكن أن يدور بين الشاعرة لو لم تمت وزوجها أمامها في غيبوبة، بل ليس حديثاً انما هي تحدث نفسها من خلاله. وثمة أسطورة في مجتمعنا حول “حجر الصبر”، وهي أسطورة فارسية عن حجر سحري وأسطوري، فإذا ما حصلنا عليه نضعه أمامنا ونحكي له كل مشاكلنا وأحزاننا ومآسينا وأسرارنا وما أن يمتص كل ما سكبنا فوقه حتى ينفجر وتنتهي الأحزان. أما هذه المرأة التي تخيلتها في روايتي فجعلت من زوجها وهو في غيبوبة “حجر صبرها” وقالت أمامه كل أسرارها وأحزانها، كل ما لا تستطيع أن تقوله له وهو في كامل وعيه. وقد حاولت في نقل هذه الأحداث أن أصوّر وضع كل النساء في المجتمع الأفغاني وأيضاً الباكستاني القريب.

اللغة الأم

[ وصولاً إلى كتابة “حجر الصبر” كنت تستخدم اللغة الفارسية. لماذا انتقلت إلى الفرنسية وماذا يعني لك الخروج عن اللغة الأم؟

ـ هذا الخروج على استخدام اللغة الأم رسم لي طريق الحرية. ليس لأنني استخدمت الفرنسية بل كان يمكن أن تكون أي لغة أخرى، بل ما أقصده هنا هي اللغة الأجنبية التي تجعل الكاتب يتحرر من ثقل اللغة الأم، لأن هذه الأخيرة تحمل كل الممنوعات وكل تفاصيل الحياة اليومية التي نكون قد ألفنا كلماتها وتعابيرها مقرونة بالحياء أو الخجل أو الخوف من عبورها إلى أبعد منها. فحين نكتب بلغة أجنبية نتخطى أنفسنا ومجتمعنا كما نتخطى العائلة والدين والتربية والتقاليد المتعارف عليها.

فقلت في هذه الرواية ما لم أجرؤ على قوله في الكتب الثلاثة التي كتبتها قبلها. فما قالته البطلة في الرواية لم تكن لتقوله لو لم أخرج إلى لغة أجنبية حررتني ككاتب لتتحرر معي بطلتي في الرواية مع انني لم أجعلها كما في القصة الحقيقية ضحية، على العكس، في الرواية الرجل مقاتل أصيب في الحرب وهي تجلس قربه بانتظار أن يستفيق، ولكن في الحالتين، هناك امرأة تجد نفسها قادرة على البوح أمام مصير رجلها الذي هو بين الحياة والموت.

الى السينما

[ هذه الرواية اقتبستها بنفسك إلى السينما. كيف وجدت الفيلم؟

ـ لم أسعَ إلى أن أجعل الفيلم نسخة طبق الأصل عن الكتاب بل على عكس ذلك، فأنا أترك للفيلم أن يعطيني ما وراء الكتاب فيضيء على أمور أخرى لم أكتشفها بعد في إطار الرواية: فالصورة تختلف عن المكتوب ولها خصائصها، وأعشق هذه التجربة التي تكررت معي أيضاً في “أرض ورماد” وقد أكررها مراراً…

[ بطلتك في “حجر الصبر” هي الممثلة الايرانية غولشيفث فاراهاني؟ هل أنت من اختارها؟ وهل جسدت الشخصية كما سعيت إلى اظهارها في الفيلم؟

ـ أبداً، لست من اختارها. كنا أقمنا تجربة كاستينغ لاختيار الممثلين وكانت هي قد تقدمت إلى الدور.

في البداية، كان من الصعب العثور على ممثلة فارسية وتتكلم بالفرنسية أيضاً لتلعب هذا الدور الذي سيحمّلها أيضاً مسؤولية سياسية واجتماعية أكثر منها فنية. وكنت قد فقدت الأمل حين رأيتها عند كلود كاريير: للوهلة الأولى وجدت أنها جميلة كفاية للدور لكن هذا لا يكفي بل العكس خفت أن تكون خارج الدور بجمالها لأنني كنت متطلباً بشدة أمام هذه الشخصية المركبة والصعبة.

ثم رفضتها وهي حتى الآن لا تسامحني على ذلك (يضحك). وكي لا أظلمها رحت أشاهد أفلاماً لها وأحاول أن أعثر على الوجه الآخر الذي كان يمكن أن تقدمه لنا، وحين كنت لا أزال متردداً، جاءت هي وقالت لي بأنها مصرّة على الدور، فوافقت بالدرجة الأولى لأنها تتكلم الفارسية ولكن بلكنة ايرانية وليست أفغانية. فأخذ كل ذلك منا وقتاً طويلاً قبل أن تصير على الطريق الصحيح وفي غضون ثلاثة اشهر كانت قد أصبحت بنظري الاحتمال الوحيد للدور ولم أعد أرى الشخصية إلا من خلال وجهها، فهي ممثلة عظيمة وموحية. وبما انني كتبت الرواية بالفرنسية فهذا يعني انني كنت وعلى لسان بطلتي متفلتاً من كل الممنوعات والحواجز الاجتماعية والنفسية والدينية. ولكن أنا هنا لا أقصد التوجه المباشر في العلاقات الاباحية مثلاً، أبداً فكتاباتي تحمل الجرأة في التعبير، فأنا كأي أفغاني هنا أؤمن بالقول الصريح والأدب الأفغاني حمل عبرمراحله الكثير من التجارب الجريئة، خاصة فيما مضى.

[ بعد النجاح الذي حققته خارج بلادك والجوائز التي كرّست أعمالك الروائية، كيف يُنظر اليك اليوم في أفغانستان؟

ـ لأعطي اجابة دقيقة حول هذا الموضوع يجب أن أحدد شيئاً مهماً وهو أن الناس في أفغانستان بعيدة كل البعد عن هذه الأجواء، والمسائل السياسية والعسكرية تطغى على كل المشاهد الأخرى، فلا أظن أن نجاح رواية أو روائي أفغاني يعني كثيراً للمواطن الأفغاني.

الأدب في أفغانستان

[ ولذا لا نعرف الكثير عن الأدب هناك. هل لك أن تعرّفنا إلى أبرز الأسماء المطروحة أدبياً؟

ـ هناك أسماء كثيرة ولكن سأذكر منها مثلاً الكاتبة زرياب التي صدر لها “سهل قايين” و”تلك الجدران التي تسمعنا” كما أسميّ كاتباً لاجئاً إلى الدانمارك وهو أساسي في الجيل الجديد وهو عسّاف سلطان زادة وصدر له “ضائعون في الهروب”، وأيضاً خالد حسيني الذي كتب “ألف شمس رائعة” و”طائرات الورق في كابول”… وعدد كبير من الشاعرات في أفغانستان.

[ ومن الكتّاب والشعراء القدامى…؟

ـ انهم كثر ولا مجال لذكرهم الآن جميعهم ولكن أحب أن أذكّر بحقبة قديمة جداً وهي غير مكتوبة ومن الأدب الشعبي الأفغاني، فقد كانت شفهية وتنتقل من فم إلى آخر، وتميزت بجرأة لا نعرفها نحن اليوم حتى. فثمة قصيدة أحبها كثيراً وتركت أثرها بي وأنا مراهق حين سمعتها من شدة ما تحمل من جمالية وجرأة في آن. هي لشاعرة وتقول الحبيبة في مطلعها: “قبّلني، ضع فمك فوق فمي ولكن اترك لساني حراً ليقول لك في تلك اللحظة كم أحبك!”. نحن اليوم نقرأ الكتابات الاباحية هنا وهناك الخالية من أي جمالية. فليس المقصود بالجرأة التعرّض للممنوع بشكل مباشر انما قول ما يجب أن يقال بحسّ إنساني عميق…

أثروا فيك؟

[ ومن هم الأدباء الذين تركوا أثراً فيك بعد قراءة أعمالهم في الأدب العالمي؟

ـ في الحقيقة هم قد لا يحضرون الآن في ذاكرتي ولكن هناك عدد كبير من الكتب التي طبعتني. سأبدأ بمن يحضر في رأسي: رواية “العشيق” لمارغريت دوراس،” “منطق الطير” للعطار “العجوز والبحر” لارنست همنغواي..لن أسمّي أكثر ولكن أقول لكِ بأنه حين أحب كتاباً اتركه بجانب سريري ولا أستطيع أن أبعده عني. فعندي عشرات الكتب المكدسة أمام سريري وأعود اليها من وقت إلى آخر.

.. والجديد

[ هل يمكن أن نعرف ما هو الكتاب الجديد الذي تحضره، أو الفيلم الجديد الذي تكتبه؟

ـ أجل، أكتب حالياً ما يشيه التأملات حول فكرة “المنفى”، كما أكتب

فيلماً جديداً وهو أيضاً عن امرأة (يضحك).

[ في أكثر من حديث لك برزت وجهة نظرك حيال الأديان نختصرها بالتالي: في البوذية نحن نستوعب ضعفنا ونكتشف ذلك، في المسيحية نعترف بضعفنا، في اليهودية نسخر من هذا الواقع وفي الاسلام نحارب ضعفنا… هل هو اختصار برأيك للحياة الإنسانية؟

ـ لست من الكتّاب الذين يتناولون الأديان في مؤلفاتهم كمادة أساسية نعالجها أو نحللها، ليست مشكلة الأديان مشكلتي ولكنني حاولت أن أقرأ حاجة الإنسان اليها من دون أن أبسطها بهذا الأسلوب لكنني حاولت أن أشير إلى ضعف الإنسان الذي هو واحد أينما كان. كذلك لا أتطرق إلى السياسة بشكل مباشر في روايتي بل ما تفعله السياسة بالإنسان… فعندما أرسم شخصية ما فأنا أضع فيها كل الخوف والقلق والأحلام والحب والحزن وكل ما ينتج من عيشها في مجتمع ما خاضع لنظام سياسي معين… وهذا يكفي على ما أظن.

[ هل تزور بلدك من وقت إلى آخر؟

ـ أجل بالتأكيد. ومنذ نحو الأسبوعين أو أكثر كنت هناك حيث كنت مشاركاً في لجنة تحكيم مهرجان سينمائي يتناول كل الأفلام التي لها علاقة بحقوق الإنسان. كان كل شيء على ما يرام. والمهرجان نظّمته بعض السيدات والفتيات الرائعات واكتشفت جيلاً شاباً واعياً وواعداً هناك.

.. وكابول؟

[ ماذا تمثل لك كابول اليوم؟

ـ بصراحة هي تذكّرني بفيلم “ستار وارز”: الناس هناك يرتدون أزياء قديمة ويتعاملون مع بعضهم بأساليب قديمة، من القرون الوسطى وأجوائها… وفجأة تلتقي هناك بسيارات عصرية فخمة وتكنولوجيا متطورة في أمور كثيرة اضافة إلى الأسلحة الحديثة التي لا تملكها كل الشعوب… كابول تعيش تناقضاً رهيباً بين القديم والجديد وهذا يصدمني بشكل فظيع.

الألم!

[ هل تظن أن الألم هو الذي ولّد لديك الحاجة إلى الكتابة؟ خاصة انك عشت حرباً طويلة من حروب أفغانستان حين كنت مراهقاً؟

ـ لا أعرف بصراحة لماذا وكيف كتبت، ولكن بالتأكيد أي حادثة أو ظروف يعيشها الإنسان تولّد لديه رغبات في البوح والاعتراف.

وأظن أن هناك دائماً ما يدفعنا إلى الكتابة وخاصة في الحالتين: الحرب والحب. إذا نظرت إلى كل الآداب في العالم تكتشفين أن معظم ما يكتبه الإنسان ينطلق من صراعات وحروب المجتمعات على صعيد عام كما ينطلق من اكتشاف الحب على صعيد خاص. وهناك قول للشاعر الهندي طاغور جاء فيه: “نحن هنا لنبحث ثم نكتشف ثم نتشارك مع الآخر كل ما في داخلنا من مشاعر. وهكذا في اللحظة التي نشعر بان لدينا ما نتقاسمه مع الآخرين في العالم نبدأ الكتابة.

.. ولبنان

[ لنتحدث قليلاً عن زيارتك إلى لبنان، كيف وجدت هذا البلد؟

ـ وصلت مساء أمس، ومنذ أن استيقظت صباحاً وأنا استقبل الزيارات المحددة مسبقاً مع الصحافة، وللمصادفة هن كلهن صحافيات تركن لديّ انطباعاً رائعاً عن لبنان: كلهن مثقفات ومنفتحات ويتعاطين مع الأمور بذكاء ووعي وحرية، وهذا جعلني أفكر بأن البلد الذي تكون فيه المرأة بخير يكون هو بخير.

حاورته: كوليت مرشليان

المستقبل

عتيق رحيمي: السينما كانت تعويضاً عن رغبتي القديمة في الكتابة

بيروت – مايا الحاج

إنها زيارته الأولى إلى معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت، وجاءت متزامنة مع صدور الترجمة العربية لروايته الحائزة جائزة «غونكور» الفرنسية «حجر الصبر» (دار الساقي). هو الكاتب والمخرج الأفغاني عتيق رحيمي الذي عاش حرب أفغانستان من العام 1979 حتى العام 1984، حين انتقل إلى باكستان ومن ثمّ إلى فرنسا طالباً اللجوء السياسي. لكنّ الانتقال من أفغانستان المشتعلة إلى مدينة الأنوار، حيث يعيش منذ نحو ثلاثين عاماً، لم يتـرك فيه الأثر الذي تركته زيارته إلى الهند.

هناك فقط تعلّم أن يقول كلمة لا!… «لن أكون منتجاً تتحكّم فيه الجماعة، بل فرداً يعيش كما يُقرّر هو أن يكون». عن كتابته باللغتين الفارسية والفرنســية، وعن أفلامه المقتبسة عن رواياته، وعن الجوائز والحنين إلى أفغانستان ورأيه بالثورات العربية تحدّث عتيق رحيمي الى «الحياة».

> صدرت أخيراً الترجمة العربية لروايتك المكتوبة بالفرنسية «حجر الصبر». إلى أي مدى تهتم بأن تصل أعمالك إلى القارئ العربي؟

– أن تترجم أعمالي إلى لغات أخرى، هذا أمر يُسعدني طبعاً. وأن تتُرجم إلى العربية فهذا يمنحني سعادة أكبر لأنّ ثمة علاقة تربطني باللغة العربية، فأنا ولدت في بيئة مسلمة وبإمكاني أن أقرأ العربية مع أنني لا أفهم اللغة ولا أتكلمها.

> بدأت الكتابة الروائية باللغة الفارسية، لماذا اخترت أن تكتب «حجر الصبر» بالفرنسية؟

– اختيار اللغة ليس قراراً أتخذه بقدر ما هو مسألة مزاج تفرضها الفكرة أو الموضوع وأشياء أخرى. فالأمر مرتبط عندي بالكتابة وسحرها وغموضها. في معظم الأحيان تلمع جملة ما في رأسي، وإذا بي أرى نفسي منقاداً خلفها، فأروح أكتب رواية كاملة تحت تأثير الجملة الأولى. وفي «حجر الصبر» لمعت في رأسي جملة بسيطة باللغة الفرنسية هي «الغرفة صغيرة». دوّنتها أمامي ومن ثمّ أكملت الرواية بالفرنسية، اللغة التي كتبت بها الجملة الأولى. لهذا عندما يسألني أحدهم إن كنت سأكمل الكتابة بالفرنسية أم بالفارسية لا أعرف بماذا أجيب، لأنني لا أقرّر مسبقاً مثل هذه الأمور، هي تأتي وحدها وأنا ألحق بها.

> الكتابة باللغة الأم تختلف من دون شك عن الكتابة بلغة أخرى، أيّ فرق لمسته بعد تجربتك الإبداعية بلغتين مختلفتين؟

– الكتابة باللغة الأم تخلق لدى الكاتب حاجزاً معيناً يكون من الصعب تجاوزه. فكما يصعب على الإبن أن يتجاوز الحدود أمام أمّه كأن يتفوّه بكلمات بذيئة أو يقوم بحركات معيبة، يصعب على الكاتب تجاوز الخطوط الحمراء بلغته الأم، سواء كانت لغته هي الفرنسية أو الإنكليزية أو العربية أو الفارسية أو أي لغة أخرى. من هنا أقول إن تجربتي في «حجر الصبر» جعلتني أتيقن من أن اللغة الثانية تمنح الكاتب جرأة أكبر سواء في طرح المواضيع أو في رسم الصور أو حتى في انتقاء الكلمات.

> ماذا غيّرت جائزة «غونكور» الشهيرة بك، وهل كنت تتوقعها؟

– عندما كتبت الرواية لم أتوقع أن تترشّح أصلاً، فأنا لم أتوقع الجائزة لأنني لم أفكر بها ولم أحلم بها على الإطلاق. كنت أراها شيئاً بعيداً جداً عني. لكن الرواية نجحت وفازت وشكلت الجائزة مفاجأة جميلة وصادمة في الوقت عينه. ومع أنّ جائزة «غونكور» المرموقة تساعد في انتشار الكاتب وأعماله في فرنسا وفي الدول الفرنكوفونية بعامة، وعلى رغم الدعم الذي منحتني إيّاه رواية «حجر الصبر»، أقول إنّ المحطة الأبرز في مسيرتي والمرحلة التي بدّلت حياتي ككاتب كانت مع صدور كتابي الأول «أرض ورماد». أصدرت الرواية بالفارسية لكنها حظيت بالترحيب والنجاح، وكرسّت إسمي كروائي بعدما كنت معروفاً كسينمائي فقط.

> ما الذي يدفعك إلى الكتابة؟

– أكتب محاولة مني لفهم هذه الحياة. أكتب لأنني أريد أن أفهم حقيقة موت الذبابة وسبب مرض الإنسان وانفعالات امرأة مكبوتة. أكتب لعلني أفهم ما يدور حولنا.

> لماذا قررت الكتابة في الوقت الذي تملك فيه وسيلة أخرى للتعبير هي السينما. هل ما عادت تكفيك السينما لتطرح كلّ أفكارك؟

– ما لا يعرفه كثيرون، أنني بدأت حياتي مع الكتابة ومن ثمّ جاءت السينما كبديل منها. ففي الثالثة عشرة من عمري كنت أكتب الشعر والخواطر والنصوص الحميمة، وبعد زيارتي إلى الهند، حيث عشت مدّة عام ونصف عام تقريباً، عدت مزوداً بقصائد كثيرة نشرتها في أفغانستان وأنا لم أتجاوز السابعة عشرة من عمري. ثم تابعت الكتابة في الصحافة والنقد الفني والسينمائي… لكنّ هجرتي إلى فرنسا جعلتني غير قادر على الاستمرار في الكتابة لكوني لم أكن أتقن الفرنسية، كما أنّ اللغة الفارسية ليست لغة منتشرة هناك. هكذا، درست أنواعاً كثيرة من الفنون كالرسم والموسيقى والصورة، إلى أن تخصصت في مجال المرئي والمسموع في السوربون، وتابعت في مجال الاتصالات البصرية واخترت السينما وسيلة تعبير أخرى تعوضني عن الكتابة. وبعد سنوات في باريس، عدت إلى الكتابة وأصدرت روايتي «أرض ورماد» التي لاقت استحساناً لدى الجمهور والنقاد. وفي هذا السياق أقول إنّ الإنسان قد لا تكفيه وسيلة واحدة للتعبير، لأن لكلّ فن طريقته في الكشف عن حقيقة ما. فإذا أخذنا على سبيل المثل كوباً من الماء نجد أنّ بإمكاننا تصويره من زاوية معينة فوتوغرافياً، لكنه قد يأخذ شكلاً مختلفاً في السينما، ويُمكن أيضاً أن يحمل الكوب نفسه معاني أخرى في قصيدة ما أو في نص روائي… هكذا نجد أنّ أكثر الأشياء بساطة قد تختلف أوجهها ورموزها ومعانيها من فنّ إلى آخر، وهذا ينسحب أيضاً على بقية تفاصيل حياتنا من الأقل أهمية إلى الأكثر أهمية وتعقيداً. وعندما كتبت رواية «حجر الصبر» كنت أسعى إلى أن أعمّق معرفتي بالمرأة وأن أفهمها بطريقة أفضل. ولمّا صورتها فيلماً سعيت إلى أن أعمّق معرفتي بروايتي وأفهمها أكثر.

> اللافت في روايتك «حجر الصبر» هو الحضور القوي للمشاهد البصرية فيها. فهل تعمدت إقحام هذه التقنية بغية تحويله فيلماً في ما بعد؟

– لا أبداً. لو كنت أنوي منذ البداية تحويل هذه الرواية فيلماً لكتبتها بأسلوب مختلف كلياً. لذلك عندما قررت أن أقتبسها عدّلت فيها الكثير من الأمور، فمحوت أجزاء من الرواية وأضفت أشياء أخرى. أمّا عن المشاهد البصرية فهي نابعة من أسلوبي في الكتابة لأنني أعتمد في شكل كبير على الوصف، والمعروف أنّ التوصيف الدقيق يحتّم وجود صور تستدعي بدورها مشاهد سينمائية في مخيلة القارئ.

> تقول إنك كتبت «حجر الصبر» محاولة منك لفهم المرأة. لكنّ قارئ روايتك لا يُمكن أن يكتشف أنّ كاتب العمل رجل إلاّ بعد قراءة اسمك. فهل أنت مسكون بالمرأة إلى هذا الحدّ؟

– إنّه تعليق يُسعدني جداً لأنني قبل أن أباشر في كتابة روايتي كنت أريد فعلاً أن أفهم المرأة وأن أعرف حجم الفوارق بينها وبين الرجل، لكنني لم أكن واثقاً أنني سأنجح. عشت حياتي كرجل واخترتُ أن أختبر حياة المرأة في الكتابة. وأنا أوافقك في تعبيرك أنّ المرأة تسكنني، وكلّ ما فعلته أنني أخرجتها روائياً من دون خوف أو خجل. وعلى رغم أن البطلة هي أفغانية، عمدت في روايتي إلى رصد الحياة المعقدة للمرأة من خلال تصوير عوالمها الداخلية. هي عوالم المرأة نفسها، أينما كانت وإلى أي بيئة انتمت.

> استوحيت قصة الرواية من حياة شاعرة أفغانية قتلها زوجها، وأهديتها روايتك. فهل كنت تعرفها فعلاً أم أنّك سمعت بقصتها وتأثرت بها؟

– بلى، لقد عرفتها شخصياً. كانت شاعرة رائعة وامرأة ذكية ومرهفة. ولمّا علمت بخبر مقتلها وهي بعد في السابعة والعشرين من عمرها تأثرت كثيراً وشعرت بأنني أريد أن أقول شيئاً ما. لم أكن أعلم أنني سأكتب تلك الرواية.

> سافرت إلى فرنسا عام 1984 مطالباً باللجوء السياسي. ما الذي خلّفه فيك ذاك الاختلاف بين الحياة في أفغانستان والحياة في باريس؟

– الأمر كان صعباً جداً في بدايته، ولا شكّ في أنّ الانتقال من بيئة إلى أخرى ترك أثراً في نفسي، لكنّ تجربة فرنسا ليست هي الشيء الذي بدّل أشياء فيّ، وإنما تجربتي في الهند وأنا في السادسة عشرة من عمري. زرت الهند حيث كان يعيش والدي وبقيت فيها مدة عام ونيف تبدلت خلالها حياتي رأساً على عقب. هناك أعدت اكتشاف نفسي. فمن البيئة المسلمة التي نشأت فيها تعرّفت إلى ثقافة أخرى. أدهشتني الثقافة البوذية والحضارة الهندية في شكل عام. هناك قررت ألا أسمح لأحد بأن يُعاملني كمجرد منتج سياسي أو ديني أو قبلي كما كان الحال في ديارنا.

> هل تعرفت إلى الكاتب الأفغاني المعروف عالمياً خالد الحسيني؟ وما رأيك في رواياته التي تحضر فيها الثقافة الأفغانية بقوة؟

– خالد الحسيني صديقي، وأنا أتابع أعماله طبعاً ومعجب بها.

> وما رأيك بروايته «عدّاء الطائرة الورقية» وبالفيلم المقتبس عنها؟

– أحببت الرواية أكثر من الفيلم.

> هل ما زال لديك حنين إلى أفغانستان؟ وهل تزورها من حين إلى آخر؟

– ألبير كامو يقول إن فكر الإنسان هو قبل كلّ شيء نابع من حنينه. فالحنين هو الشعور الذي لا يُمكن أحداً أن يتخلّص منه. وأنا أزور أفغانستان باستمرار، وكنت هناك قبل شهرين تقريباً بمناسبة مهرجان السينما، وكانت لي لقاءات مع شباب مثقفين جعلوني أعيش دهشة حقيقية، وخصوصاً الفتيات القويات والمتعلمات اللواتي يعرفن في الأدب والسينما والموسيقى. أنا متفائل جداً بمستقبل أفغانستان في ظل وجود مثل هؤلاء الشباب المتميزين. فأنا أعتقد أنهم هم ثورة أفغانستان الحقيقية.

> بمناسبة الحديث عن الثورات، كيف ترى إلى الثورات العربية؟

– لا شكّ في أنّ ما حصل، ويحصل، في بعض الدول العربية هو أمر غاية في الأهمية، وقد شكّل نقطة تحول ما في العالم العربي. لكنّ هذا لا يعني أنّ ثمة ثورة في المعنى الحقيقي للكلمة. بل هي أشبه بصرخة غضب شعبية دوّى صداها في كل مكان. وقد نجحت هذه الحركة الشعبية العفوية في أن تُطيح الديكتاتوريين في أكثر من وطن عربي، لكنها عجزت عن أن تستمرّ وأن تبلغ أهدافها اللاحقة لأنها في الأساس لم تكن تحمل أي أهداف متفق عليها. فالتظاهرات الشعبية حدثت بطريقة عشوائية، فنزل الناس إلى الطرق من غير أن يتبعوا فكرة ما أو قائداً يدير الأمور ويُنظمها. فالتظاهرات في الميادين لم تكن تحمل أي رؤية أو وجهة أو مخطط، لذلك أقول إنها ليست ثورة سياسية عميقة بدليل أنّها لم تُثمر شيئاً غير الإطاحة بالشخصيات الديكتاتورية. وأنا أعتقد أنّ المهم في العمل الثوري ليس التخلّص من نظام فحسب، وإنما استبداله بنظام أفضل يعمل على تطوير ما سبق أن خرّبه النظام السابق. والحالة التي وصلت إليها الأمور في الدول العربية لم يكن يتمناها أحد، لكنّها جاءت كنتيجة طبيعية لغياب التخطيط والوعي والتنسيق بين الثوار، إضافة إلى غياب المفكرين والمثقفين عن المشهد العام.

> ما هي الثورة التي تحتاجها المجتمعات العربية والشرقية عموماً بما فيها أفغانستان للنهوض بشعوبها والوصول إلى ما وصلت اليه الدول الغربية؟

– نحتاج أولاً أن نُعيد الإنسان إلى ذاته. العالم العربي والشرقي عموماً يحتاج ثورة ثقافية تعيد الاعتبار إلى الإنسان. ففي هذه المجتمعات غالباً ما ينتمي الفرد منّا إلى عائلته أو عشيرته أو ملّته، من غير أن يتمكّن من أن ينتمي إلى ذاته. يقضي حياته وهم ينظرون إليه كمنتَج ديني أو قبلي أو حزبي، والديموقراطية لا يُمكن أن تولد من أفكار كهذه. من هنا أقول إنّ ما نحتاجه اليوم هو ثورة ثقافية فكرية تُعيد الوعي إلى أهمية الإنسان ككائن أو فرد له دوره وأهميته وخصوصيته.

> كيف تُفسّر الانعزال الذي يعيشه المثقف في الدول العربية كما في الدول الغربية، بعدما كان المفكّر يلعب دور القيادي في الحركات الثورية والنضالية والاجتماعية في القرن العشرين؟

– هذا صحيح، فالمثقف أو المفكر في الغرب كما في الشرق كان له دور بارز في الحياة الاجتماعية والسياسية، وقد ساهم في الكثير من الإنجازات في بلاده وأحياناً في بلدان أخرى. ولكن الآن اختلف دوره، بل يُمكن القول إنّ دوره اختفى، الأمر الذي يُثير الاستغراب إلى حدّ كبير. وأنا طبعاً لا أملك جواباً عن سؤال معقد مثل هذا، لكنني أستطيع تقديم وجهة نظر خاصة قد تكون ساهمت في إقصاء المثقف أو بالأحرى ساهمت في أن يعمل المثقف على إقصاء ذاته. نحن ندخل اليوم في مرحلة جديدة من التطور الإنساني، وبدل أن يكون المثقفون أوّل المتصدين لها، نجدهم في حالة من الانعزال لأنّ ثقة المثقف بنفسه تغيرت واهتزّت. ففي مرحلة ما، كان الإنسان يقول إنّ الأرض مسطحة، فجاء من ثمّ أحد ليقول إنها كروية وينفي حقيقة عاشت مع الإنسان سنوات طويلة. وبعدما كان العالم مقتنعاً بحقيقة أنّ الإنسان هو المخلوق المعجزة، أتى شخص مثل داروين ليتكلّم عن نظرية التطور البشري، فكانت نظريته مثل صفعة أخرى. لكنّ العلماء والمفكرين حاولوا تجاوز الصدمة بالقول إنّ تطور أصل الإنسان ليس مشكلة لأنّ «الوعي» هو المسألة الأهم عند الإنسان. لكنّ فرويد جاء وقال لا، اللاوعي هو محور كل شيء. وتلك كانت صفعة أخرى. ثمّ رأى بعض الفلاسفة والمفكرين مثل هيغل وغيره انّ لا مشكلة في هذا الأمر، لأنّ التاريخ هو الأساس، فجاءت الحروب لتحطّم معنى التاريخ. هكذا ظلّت البشرية تتلقّى صفعات متتالية حتى فقدت كلّ الأشياء أهميتها. انتفت الحقائق المطلقة وغرق الإنسان في عبثيته وراح المفكرون يبعدون شيئاً فشيئاً عن الواجهة.

> كيف وجدت بيروت بعد مشاركتك للمرّة الأولى في معرضها الفرنكوفوني؟

– بصراحة لم أرَ شيئــاً من المدينة حتى الآن لأنني وصلت البارحة ليلاً. لكنني أسمع الكثير عن بيروت وأنا متحمس لهذه الزيارة التي كان من المفترض أن تحدث قبل الآن، لكنّ مشاكل في جواز السفر مرّة وفي تضارب المواعيــد مرّة أخرى حالت دون حضوري. وأنا الآن سعيد لأنني أشارك في الدورة العشرين من المعرض الذي حقق نجاحاً وبات معروفاً في الدول الفرنكوفونية كلّها.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى