بكر صدقيصفحات سورية

ثلاثة مرشحين للرئاسة التركية وحسابات انتخابية معقدة/ بكر صدقي

 

 

بإعلان رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان ترشيحه لانتخابات رئاسة الجمهورية، اكتمل عقد المرشحين الثلاثة الذين سينتخب الشعب من بينهم رئيساً للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية. وكان هذا الانتخاب يتم سابقاً من النواب في مجلس الأمة (البرلمان)، مع صلاحيات بروتوكولية محدودة، سوف تتوسع في النظام الانتخابي الجديد.

تغيير النظام الانتخابي أثر في حسابات الأحزاب السياسية، فشخصية المرشح وما يتمتع به من شعبية سيفوقان في الأهمية الحزب الذي رشحه، فضلاً عن التغيرات المتوقعة في الرأي العام وانعكاس ذلك على خيارات الناخبين.

سبقت أحزاب المعارضة الممثلة في البرلمان الحزبَ الحاكم في تسمية مرشحيها، فتوافق حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية على ترشيح الأمين العام السابق لمنظمة المؤتمر الإسلامي أكمل الدين إحسان أوغلو، في حين رشح حزب السلام والديموقراطية، الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني، رئيسه المشارك صلاح الدين دمرتاش.

كان ترشيح حزب الشعب الجمهوري، وريث الإرث الكمالي، للأكاديمي الإسلامي إحسان أوغلو مفاجأةً خلطت الأوراق في الحسابات الانتخابية. فكان رد الفعل الأولى لبعض شخصيات «الشعب الجمهوري» سلبية، وكذا بعض ممثلي العلويين في قاعدته الاجتماعية الذين استاؤوا من وضعهم بين خيارين إسلاميين لا يستسيغونهما.

غير أن الصدمة كانت أكبر في جبهة رئيس الوزراء الذي لا يكن الود لإحسان أوغلو بسبب موقفيهما المتباين من انقلاب 3 تموز (يوليو) 2013 في مصر. ففي الوقت الذي وقف أردوغان موقف المدافع عن إخوان مصر بصلابة المناضل الإيديولوجي، ولم يفوّت مناسبة إلا ورفع فيها يده بإشارة رابعة العدوية، كان موقف إحسان أوغلو أكثر توازناً بحكم موقعه في المنظمة الإسلامية التي يرأسها والمنقسمة بدولها بين مناصري مرسي ومناصري السيسي. لكن هذه القطيعة الطارئة حديثاً لا يمكنها أن تغطي على واقع أن الثنائي أردوغان وعبد الله غل هما من رشحا إحــسان أوغلو لسكرتارية منظمة المؤتمر الإسلامي.

فإذا تذكرنا أن الخصومة الأكثر ضراوة في الحياة السياسية التركية اليوم إنما هي تلك التي بين أردوغان والإسلامي المعتدل فتح الله غولن، كنا أمام هذه المفارقة العجيبة: الصراعات السياسية في تركيا اليوم تدور بين التيارات الإسلامية حصراً، ولا يغير من ذلك في شيء ترشيح الإسلامي إحسان أوغلو من قبل حزبَي المعارضة وريثي الإرث الكمالي العلماني – القومي. فهذه الإيديولوجيا المتقادمة التي فشلت في كل رهاناتها في علمنة المجتمع وتتريكه القسريين، دخلت طور الأفول مع صعود حزب العدالة والتنمية الذي طبع المجتمع التركي، لأكثر من عقد، بطابعه المحافظ. وإذا كان أردوغان كقائد كاريزمي لتطلعات غالبية المجتمع السنية المحافظة، قد بلغ ذروة مجده الشخصي والحزبي وأخذ، منذ عام، ينزلق منحدراً عنها بسرعة، فالتيار الإسلامي يقدم اليوم بدائل أخرى عنه، وقد أرغم الحزبين الكماليين على ترشيح أحدها.

ولم يكتف رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كلجدار أوغلو بترشيح الإسلامي إحسان أوغلو، بل يمّم شطر ديار بكر يخطب فيها ود الكرد ويعدهم بالمضي قدماً في إيجاد حل سياسي للمسألة الكردية، بعد تاريخ طويل من الجفاء بين الحزب العلماني والناخب الكردي الذي طالما وزع أصواته بين ممثله حزب المجتمع الديموقراطي وحزب العدالة والتنمية الحاكم.

تفاءل بعض المراقبين بهذه المبادرات الجريئة من حزب الشعب الجمهوري، وأخذوا يتوقعون تغييرات جذرية في فكره المتحجر وسياسته الفاشلة، تقوده إلى استعادة شيء من شعبيته المفقودة من أيام المرحوم بلند أجويد الذي كان حقق نقلة كبيرة بتقريب فكر الحزب من الاشتراكية الديموقراطية وابتكر مفهوم «يسار الوسط». وهناك، في المقابل، قراءات أخرى اعتبرت هاتين الانعطافتين الإيجابيتين نحو القطاع المحافظ في المجتمع والكرد بمثابة استسلام أمام الخصوم الإيديولوجيين.

فإذا كانت أحزاب الحكم والمعارضة في الدائرة التركية قد رشحت شخصيتين إسلاميتين، فقد رشحت الدائرة الكردية مرشحها الخاص صلاح الدين دمرتاش المقرب من عبد الله أوجلان. هذه سابقة، قبل أي اعتبار آخر، في الحياة السياسية التركية. فهو أول مرشح سياسي كردي لمنصب الرئاسة الأولى، يحمل ترشيحه من القيمة الرمزية أكثر من جدواها السياسية العملية. فهي تعني تطبيع المناخ الموتور تاريخياً ضد الكرد، بخاصة ضد حزب العمال الكردستاني الموصوف بالإرهاب والنزعة الانفصالية، وسيؤدي هذا الترشيح إلى تعزيز التطبيع المذكور في الرأي العام التركي.

أما في الحسابات السياسية، فدمرتاش يدرك قبل غيره أن الناخبين الكرد وحدهم سيصوتون لمصلحته، بل قسم منهم فقط، وإن كان يتوقع أن يكون القسم الأكبر، ومن المحتمل أن يكون الإقبال الكردي على صناديق الاقتراع كثيفاً بدافع توكيد قوة القاعدة الاجتماعية الكردية. لكن مهما بلغ هذا الإقبال، فهو لن يغير المعطيات الديموغرافية الراسخة، ولن ينجح دمرتاش في الانتخابات الرئاسية، ما لم نتوقع انقلاباً زلزالياً في الرأي العام التركي يدفعه إلى اختيار ممثل المظلومية الكردية بهدف التخلص من حكم أردوغان ذي النزعة البطريركية الثقيلة.

في الحسابات السياسية لترشيح دمرتاش تشتيت أصوات الناخبين بين ثلاثة مرشحين، للحيلولة دون فوز أردوغان من الجولة الأولى بأكثر من نصف أصوات الناخبين، وإرغامه على خوض الثانية التي من المتوقع أن ينافسه فيها مرشح المعارضة إحسان أوغلو، إذا استطاع حزبا الشعب الجمهوري والحركة القومية حشد كتلة كبيرة من الناخبين للتصويت لهذا الأخير.

وهنا تتضاعف قيمة صوت الناخب الكردي لترجيح كفة أحد المرشحين. وهذا ما دفع أردوغان إلى خطب ود الكرد بتقديم مشروع قانون إلى البرلمان يضع إطاراً قانونياً لمفاوضاته مع عبد الله أوجلان حول الحل السلمي للمسألة الكردية، ويحمي مفاوضيه من المساءلة بدعوى التفاوض مع منظمة إرهابية. غير أن حسابات دمرتاش مختلفة: ففي الفترة الفاصلة بين جولتي الانتخابات الرئاسية. فإلى جانب مطالب أخرى، سيفاوض أردوغان على إطلاق سراح أوجلان مقابل منحه أصوات الناخبين الكرد.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى