صفحات الرأي

ثلاثة مقالات تناولت التكفيريين والانتحاريين

سلالةٌ منتخَبة هم الانتحاريون العرب/ فاروق يوسف

للروائي الصيني مويان الحائز جائزة نوبل عام 2012 رواية عنوانها “جمهورية الخمر”. لا يحتاج المرء إلى خيال متّقد لكي يهتدي إلى مكان تلك الجمهورية، إذا ما أضيفت كلمة “الحوريات” إلى اسمها. فالحكاية الدينية لا تخفي ميلها إلى أن تتخذ من الخمر والحوريات عنصرين أساسيين في البناء اللامرئي لـ”جنة” عرضها السموات والأرض، أعدّت للمؤمنين.

واضحٌ أن نبرة الخطاب الذكوري لم تتسع في غوايتها للنساء المؤمنات إلاّ باعتبارهن مادة للإغراء، وهذا ما تفعله اليوم الكثير من شركات الدعاية. فحتى معجون الحلاقة الرجالي لا يذهب إلى المستهلك إلا من خلال العطر الذي تشمّه امرأة جميلة وهي تمدّ يدها إلى وجه رجل حليق.

خلاصة الوعد الإلهي

غواية الأنوثة المتاحة في كل لحظة والمتحررة من شروطها الواقعية، لم تكن يوماً محط استفهام لدى رجال الدين، فهي تمثّل خلاصة الوعد الإلهي الذي تنتهي إليه حياة صالحة يمضيها الرجل في العبادة، في انتظار ما تبقى. بعكس الاستفهام، تماهى الشيطان مع تلك الغواية لتكون وسيلة لنشر الشر على أرض، هي في حقيقتها حاضنة لفساد، لا يمكن القضاء عليه إلا بظهور المهدي، الإمام الغائب لدى الشيعة، الذي يدعو الكثيرون منهم ربّهم أن يعجّل بظهوره، ما يؤكد رغبتهم في أن تحلّ القيامة سريعا، ليكونوا شهوداً على يوم القيامة باعتبارهم آخر البشر الفانين.

لم تكن الرغبة في الموت إلاّ صناعة فقهية، اجتهد الكثيرون عبر القرون في صوغ الأسباب التي لا تجعلها ممكنة فحسب، بل وميسرة. فالطريق إلى الله كما يزعم فقهاء الظلام لا يمكن أن يكون سالكاً من غير تضحيات، لا يبذلها المرء من أجل إصلاح ما فُسد من طريق الحوار والاقناع، بل من طريق الاستدعاء العاجل للموت. وهو موت لا يعترف بمفهوم الضحية، ذلك لأنه يؤسس لعلاقة سرمدية جديدة تتخطى الدنيوي إلى فضاء آخروي رحب بين انتحاري أو استشهادي أو فدائي، لا فرق، وبين عدد من القتلى الذين تقوم الملائكة بمهمة إحصائهم والتأكد من هوياتهم من أجل ترحيلهم إلى الجنة.

وإذا كان النبي العربي قد قال “مَن قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذّب به يوم القيامة” (هو نفسه رفض الصلاة في حياته على مسلم أقدم على الانتحار)، فإن الانتحاريين العرب وقد قرروا الانتحار بنا وبمستقبل أجيالنا كانوا قد وجدوا في الفكر التكفيري ضالّتهم التي تنجّيهم من ذلك العقاب الذي تنبّأ به محمد. بل الأدهى من ذلك، أن اللعبة لم تستثنه، أقصد النبي، لأن كل شيء يمر من خلاله. وكل شيء يجري من أجل أن يرضى. ذلك لأن الطريق إلى الله لن تكون موجودة إلاّ من خلال شفاعته.

خفة الكائنات اللغوية

“الأخوان المسلمون” مثلهم مثل أفراد كل الجماعات الدينية المتشددة يعرفون الطريق إلى الله. وهو طريق من هواء. لم يخترع “الأخوان” ذلك الطريق، بقدر ما عبّدوه بحجارة لغوية، كان المرء المغرر به ينزلق عليها بخفة واستسلام أخوي. فهذه الحاجة مجلوبةٌ هي الأخرى من عالم غيبي، خفّته تبشر بأجنحة من ورق شفّاف، ورق لم تستخرج عصارته من مادة أرضية. عجينة خيالية من رؤى الجنّ تسيل على جباهٍ إنسية.

بعد ثمانين سنة من تأسيس جماعة “الأخوان المسلمين” في مصر صار من المؤكد وفق أدبيات تلك الجماعة أن هناك اليوم مئات من منتسبيها قد استقرت الحال بهم في الجنة. هم اليوم ينعمون بشرب الخمر وممارسة الجنس المباح مع الحوريات وقطف الفواكه التي تتدلى من الشجر، فلا يحتاج المرء إلى الوقوف من أجل قطفها. كسلٌ متخيَّل يليق بصحراويين متأملين كانت تدمّرهم لحظة سراب غير منصف، هي في حد ذاتها خيانة شعرية.

لم يبعث أحد من الميتين “الأخوانيين” برسائل من عالم الآخرة تنبئ الأحياء عن أحوالهم في ذلك العالم المتخيل، ولم يستفهم أحد من أولئك الأحياء عن مصير المغادرين الذين صاروا بمثابة ارقام بعد أن شحبت صورهم. يبدو أن قدرا هائلاً من الاطمئنان هو ما يجعل ذلك السكوت أمراً مقبولاً.

الانتحاريون سلالة منتخَبة

الانتحاريون، وهم سلالة “أخوانية” منتخبة، يعرفون أنهم سيتناولون مباشرة طعام الفطور أو الغداء أو العشاء مع النبي، أو على الأقل مع زوجته السيدة عائشة، وفق توقيت وصولهم المباشر إلى الجنة. وإن حضروا بين الوجبات فما عليهم سوى أن يقوموا بغسل الصحون. وهي مهمة تشرّف مَن يقوم بها. يتذكر الشيعة في هذا الصدد قنبراً وهو خادم الإمام علي.

لن يمرّ الانتحاريون بالقبر ولا بعذابه المرير. لكل واحدٍ منهم ملاكه الطيّب الذي سيكون واقفاً في انتظاره، ما إن تنفضّ جموع القتلى والجرحى والإطفائيين ورجال الشرطة والعوائل المفجوعة التي لن تسمح لها فجيعتها بالإنصات إلى أصوات رفيف أجنحة الملائكة التي ستحمل الانتحاريين مثل كذبة مباشرة إلى عالم، لن يكونوا فيه إلا خدماً لفكرة “أخوانية”، يصونها الولاء من كل دنس دنيوي.

بفضل “الأخوان” والمرجعيات الشيعية أيضاً، اكتشف المسلمون أن الصلاة والصوم والزكاة والحجّ أفعال لا قيمة لها في الآخرة، من حيث قدرتها على تحديد المكان الخالد الذي يذهب إليه المرء بعد الموت. فلا الجنّة مضمونة لمن يؤدي تلك الفرائض، ولا الذهاب إلى النار سيكون مصيراً مؤكدا لمن قضى حياته ممتنعاً عن ادائها. هنالك شرط اقترحه ذات يوم حسن الصباح، صاحب قلعة آلموت، وقيّد به حشّاشيه، صار اليوم بمثابة فرضية معتمدة من أجل التطهر من نجس هذه الحياة الفانية.

فالقتل الذي نصّت على تحريمه كل الشرائع، من ضمنها شرائع ما يسمّى بالأديان التوحيدية، صار مسموحاً به وموضع ترحيب وإقبال، بل إنه صار الأسلوب الوحيد من أجل الوصول الآمن والمؤكد إلى الجنة.

“اقتل” وليس “لا تقتل”.

لقد حدث تغيير جذري في التعاليم الإلهية. لم تعد مسلّة حمورابي قادرة على أن تقول ما هو مطلق في عدالته الانسانية. حمورابي، الملك البابلي رفع يده مذ وضع الله يده على الوجود. كان الله اختراعاً إنسانيا مذهلاً، بسببه توقفت الساعة عن الحركة مئات السنين. صار الانبهار بلحظة الخلق الساحرة يجسّد حقيقة الوجود الإنساني كله. صار الإنسان ملحقاً بآلية خلقه المفترضة. بسببها صار علينا أن نصدّق كل ما يمكن أن يقال عن أسباب وجودنا العبثي باعتبارنا كائنات وجدت لكي تعبد خالقها الموجود في كل مكان. وهي كذبة، لم يتفاعل معها الإنسان إلا في حدود ضيقة، ذلك لأن خياله لم يكن مؤهلاً للخضوع لها وطاعتها إلى العمى. لقد خلقنا الله أحراراً. حرّيتنا لا تقبل التجزئة بين ما نريده وما يريده الله. سيكون لدينا خيارٌ واحد: أن نقتل أو لا نقتل.

لقد اخترع كهنة الديانات التوحيدية (الفقهاء) طريقاً وحيداً للوصول إلى الله، وهو الطريق الذي لا يمكن التأكد من وجوده إلا من طريق الايمان بالغيب. إنه موجود في مكان ما من هذا العالم، غير أننا لا نستطيع الوصول إليه إلا إذا كنا مغيَّبين.

ملك الحشّاسين حسن الصباح طرحها مجسدةً قبل ألف عام.

كل الأحزاب الدينية تسعى إلى تأسيس مملكة آلموت، بالطريقة التي تنسجم مع رؤيتها لمستقبل عالم أحادي. عالم لا يمكن المرء أن يرى فيه الآخر المختلف إلاّ ميتاً. إنكم ميتون وهم ميتون. صيحة يمكنها أن تكون موجودة في كل لحظة عيش متداع. لغة الموت تسبق كل لغة ممكنة. لا معنى لهواء يخلو من رائحة الموت. كان علينا أن نكذب من أجل أن نصدّق أننا كنا في لحظة ما، أحياء أو رهائن في حياة لم نفهم معانيها. الحياة الحقة لا تتحقق إلاّ هناك. في الموت الذي يقترحه علينا موت الآخرين باعتبارهم هبات يقدّمها الممكن إلى المستحيل. بما يعني الإنسان إلى الله. وهذا ما يعني تفوّق الإنسان على الله، وهو المقيم في لحظة استغنائه عن كل ما يملكه الآخرون. بالنسبة إلى الله، لن يكون هناك آخر. وهو سؤال لا يمكننا الاستغناء عنه في ظل ازدواجية المعنى: إما أن تكون موجوداً من أجل أن تَقتل وأما أن تُقتل من أجل أن تكون موجوداً؟

القاتل والقتيل معاً إلى الجنة

في هذه الحال، يذهب القاتل والقتيل معاً إلى الجنة.

لذلك يصرّ “أخوان” مصر، ومعهم أتباع كل الحركات الاسلاموية (شيعية أكانت أم سنية)، على أنهم كانوا على حق، ولا يزالون على هذه الحال، وسيبقون كذلك. لا مكان للصواب والخطأ في فلسفتهم. هناك دائماً ضفتان: ضفة الحقّ التي يقفون عليها، وضفة الباطل التي يقف عليها الآخرون. هناك، ما بين الضفتين، نهر، ستكون نتيجة عبوره مضمونة. قاتلاً أم قتيلاً، مَن يعبر ذلك النهر من المجاهدين (وهي تسمية فيها الكثير من التضليل) سيكون طريقه سالكاً إلى الجنة.

وفق هذا المنطق، كل الجماعات الدينية، بغض النظر عن مظاهر الاعتدال التي يتزيّن بها البعض منها، لا تتوانى عن تبنّي الفكر الانتحاري، الاستشهادي، من أجل أن تصل إلى أهدافها السياسية الوعرة. هي في ذلك، لا تجد نفسها ملزمة شروطاً معينة تحدد من خلالها هيئة العدوّ الذي يستحق القتل شرعاً، بل هي تخترع تلك الشروط انطلاقاً من صورة عدوّها الحاضر أمامها.

فقد يكون شعباً بأكمله هو ذلك العدوّ. هذا ما جرى في الجزائر في تسعينات القرن الماضي، وهذا ما تشهده مصر اليوم. لا بدّ أن يكون ذلك العدوّ هو عدوّ الله، وفق التصنيف الذي دفع جماعة مسلحة في لبنان إلى أن تطلق على نفسها تسمية “حزب الله”، وهذا ما وجد له صدى في العراق. فهناك في ذلك البلد المنكوب، الكثير من الأحزاب التي يدّعي كل واحد منها أنه الأقرب إلى الله. وهي تسمية تستند إلى وعد قرآني بالانتصار. مَن يَقتل ومَن يُقتل من تلك الجماعات، لا بدّ أن يكون تلقائياً، فرداً في الفرقة الناجية التي تذهب إلى الجنة من غير أن يفتح الملائكة دفاترها الملوثة بآثام القتل.

محنة العالم العربي اليوم

ألا يعني هذا كلّه أن العالم العربي يعيش اليوم محنةً هي أشدّ هولاً من محن القرون الوسطى التي عاشتها أوروبا في ظل محاكم التفتيش الكنسية؟

كانت الكنيسة يومذاك تحارب الهرطقة. أما إسلامويونا فإنهم يتوجهون بحربهم ضد مجتمعات أشبعتها أنظمة الاستبداد قهراً وفقراً وذلاً وجهلاً واضطهاداً وقمعاً. إنهم يكملون المسيرة بنا في اتجاه عمر مديد من العبودية. وهي عبودية صار حجاب (نقاب) المرأة هويتها والمتاجرة بـ”الله” عنوانها الصريح الذي لا يقبل التحدي أو الالغاء.

فالعراق الذي صارت الملايين من شعبه تذهب مشياً إلى أضرحة الأئمة (المعصومين) مذ حلّت نكبة الاحتلال به، لا يخلو سنتيمتر منه من مصيبة يرعاها أتباع آل البيت بأدعيتهم ويحرسها تنظيم “القاعدة” ببنادقه الموشّاة بالشهادتين. بعد أكثر من عشر سنين من الاحتلال (التحرير من وجهة نظر إسلامويي الحكم) غرق البلد كله في طوفان ما إن أنزلت السماء أمطارها، فكان ذلك الطوفان بالنسبة إلى أهل الحكم الفاسدين بشرى بقرب ظهور الأمام الغائب.

يقال إن نوحاً يبني سفينته من جديد في إحدى مدن العراق ليقود العراقيين إلى مكان آخر. مكان لن يكون فيه للعراق وجود يذكّر بمآسيه. ولكن نوحاً لن يغادر عصرنا إلا وقد أصطحب في طريقه عدداً من السوريين واللبنانيين والمصريين ممّن أبلوا بلاء حسنا في تدمير فكرة الحياة ليكون كل شيء خالصاً في خدمة الموت.

النهار

الانتحاريون لصوص الأرواح/ رامي زيدان

يقف المرء حائراً وقلقاً في تفسير ما حصل أمام السفارة الإيرانية في بئر حسن ببيروت، ليس فحسب لأن السفارة كانت هدفاً لعملية إرهابية انتحارية مزدوجة، مدمّرة وفاتكة، بل لأن ذلك يستدعي الأسئلة الآتية: ما الذي يجعل شابين في مقتبل العمر، يختاران تفجير نفسيهما في السفارة الإيرانية بالذات؟ ما الذي يجعلهما يلجآن الى اختيار هذا الأسلوب الوحشي لتحقيق هدف ما، أو للانتقام لواقع ما؟ هل هو “الواجب الجهادي”، أم أن هذين الشابين هما نتاج الأزمات السياسية والصدمات المتكررة التي تحصل في لبنان والمنطقة؟! وهل فكّر السياسيون في جوهر ما حصل وسيحصل، أم أن هدفهم الأوحد هو التوظيف السياسي للأحداث وتعميق الشرخ والانقسام؟

الحيرة والقلق كبيران في لبنان، لأن الانتحاريين، لم تطل شظاياهما السفارة الإيرانية ومحيطها فحسب، بل أصابت كل شخص في لبنان، وفجرت كل الخطط الأمنية التي كانت متبعة، سواء من الأجهزة اللبنانية أو من ميليشيا “حزب الله”. فالمراقبة لا تنفع مع الانتحاري، ولا تنفع الاجراءات الأمنية المكثفة والمشددة. هو أشبه ما يكون بلصّ الأرواح. إنه الشبح المتنقل في اللامكان، وفي كل مكان. يمكن رصده، ولكن من الصعب ردعه أو إيقافه. فهو يتخلى عن حياته في سبيل ان يفجّر الآخرين أو ينتقم منهم بكبسة زر. هو أيضاً مثل أسلحة الدمار الشامل، بل أشد فتكاً ورعباً. إنه مثل “الأسلحة الذكية”، إذا جاز التعبير، لأنه يختار هدفه بدقة، ويجعل الآخرين من حوله مجرد أشلاء متناثرة وحرائق ملتهبة ومباني بكماء خاوية ونفوساً مضطربة.

لا يمكن قراءة التفجير الإرهابي الذي طال السفارة الإيرانية بمعزل عما يجري في لبنان من “حرب طائفية باردة”، أو بمعزل عما يفعله النظام السوري المدعوم بقوة من ايران، من تصفيات دموية وقتل بالبراميل المتفجرة. كما لا يمكن قراءة التفجيرات الانتحارية بمعزل عن الحرب نفسها وما تحمله من تداعيات، ولا يمكن قراءة هذه الظاهرة بمنأى عن الفكر التكفيري “القاعدي” أو الذي يشبهه بطريقة مقنّعة، أو الفكر التخويني والإلغائي. الفادحة الكبرى أن الصراعات الإقليمية جعلت الكثير من الشبان مشاريع انتحاريين، ذلك أن الانتحاري ليس الذي يفخخ جسده ويفجر الآخرين فحسب، بل هو أيضاً ذلك الذي يذهب إلى الجبهة تحت مسمّى “الواجب الجهادي”، أو تحت مسمى “جبهة النصرة”.

أين الجرأة في قراءة ما يجري؟

قد يكون من المغالاة ربط ما حصل في بئر حسن بـوعد “الحور العين”، فالقضية أبعد من ذلك بكثير. من السذاجة أيضاً ربط الانتحار بالنص الديني والفقهي، وخصوصاً النص الاسلامي الذي يحرم بشكل مطلق قتل النفس، لكن بعض الجماعات المتطرفة تستطيع تجنيد الشبان من أجل العمليات الانتحارية، كما استطاعت الجماعات العلمانية من قبل أن تقوم بالفعل نفسه. سمعنا وسنسمع إدانات واستنكارات كثيرة للتفجير المزدوج في بئر حسن. لقد أتحفنا وسيتحفنا غلاة “حزب الله” بالكثير من الخطب والمحاضرات والمواعظ عن صواب خياراتهم في محاربة التكفيريين قبل مجيئهم الى لبنان، كما أتحفنا وسيتحفنا غلاة 14 آذار بأن مشاركة “حزب الله” في الحرب السورية استدرجت الويلات الى لبنان. لكن لا أحد من هؤلاء جميعاً سيجرؤ على قراءة الأمور كما هي. سيقول بعض السياسيين إن فكر “القاعدة” أصبح في عمق لبنان بعد تفجيري السفارة الإيرانية، لكن ماذا عن تفجيرَي مسجدَي السلام والتقوى في طرابلس؟ إلى أيّ فكر ينتمي منفّذوهما؟ وإلى أيّ فكر ينتمي منفّذو عشرات الاغتيالات السياسية والأمنية، عدا محاولات الاغتيال في لبنان؟ أليس هؤلاء أخطر من تنظيم “القاعدة” وإن كانوا بلون آخر؟

المحنة أن كل المنطق الإتهامي قائم على واقع قبلي، ولعبة “إرهاب بزيت وإرهاب بسمنة”. ليس هناك جرأة في قراءة الوقائع كما هي في لبنان. لن يعترف “حزب الله” بأنه يمارس التعسف والعنجهية حيال الطوائف الأخرى، ويمارس سطوته كما لو أنه الحاكم بأمره، في حين أن الآخرين مجرد أهل ذمة. ولن يعترف “حزب الله” بأن بعض أفراده متهمون بعمليات اغتيال، وهو صنّفهم في خانة “القديسين”.

من جهته، لن يعترف “تيار المستقبل” بهشاشته أمام تنامي التطرف في محيطه. فهو يتصرف كالخائف والمذعور على دوره، ويحاول مراعاة ما يجري، لكنه يتحمل مع “حزب الله” وباقي القوى مسؤولية ما يجري. إن الإحداث التي نشأت منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 مروراً بحرب تموز 2006 و7 أيار 2008 وإسقاط حكومة سعد الحريري ثم تركيب حكومة نجيب ميقاتي، وأحداث عبرا وطرابلس، فضلاً عن الصراعات الاقليمية، هي عوامل كافية لنشأة جيل شبابي مضطرب وغير سويّ، ومفتقر إلى الرشد. ثمة فئة من الشبان تشعر بالنشوة والانتصار والعنجهية والطيش، كأنها لا ترى في الدنيا غير نفسها. ثمة فئة أخرى تشعر بالأزمة والذل والظلم، وهي بلغت الذروة في هذا الشعور، وأصبحت تفرز انتحاريين، وقد تجلى ذلك في عملية بئر حسن.

بيئة حاضنة أم تاريخ طويل؟

في ظل “البازار” السياسي والإنقسام المذهبي الحاصلين في لبنان، نقرأ تفسيرات وتعليلات كثيرة عن تفجيرَي بئر حسن، عن المنتحرَين وبيئتيهما وعائلتيهما ومدينتهما وسلوكياتهما وتوجهاتهما العقائدية، وعمن جنّدهما وموّلهما. سيخرج كثيرون ليلقّنونا دروساً عن وجود تنظيم “القاعدة” في لبنان وعن انتشار التكفيريين. وستكون القضية مسلسلاً بمئات الحلقات والسيناريوات، وخصوصاً أن لبنان زاخر بمئات وسائل الإعلام والمواقع الالكترونية وأباطرة الـ”توك شو” الغريبي الأطوار في التحليلات والاستنتاجات، ربما المدفوعة الثمن. بعضهم يتصرف كأنه المحقق والقاضي ورجل الأمن والسجّان، ولديه قدرات خارقة في كشف الحقائق والنيات وتوجيه الاتهامات ذات اليمين وذات اليسار.

من السذاجة ربط تفجيرَي بئر حسن الانتحاريين بما يسمى “البيئة الحاضنة”. فليس هذا النمط من العمليات وليد اليوم في لبنان، وليس انتحاريا السفارة الإيرانية هما أول من لجأ إلى هذا الأسلوب الحربي المقرون بالهول والوحشية، وليس تنظيم “القاعدة” الوكيل الحصري لهذه الأعمال المرعبة والإرهابية. دعاة “الحداثة” السياسية كانوا السبّاقين إلى مثل هذه الأفعال تحت مسمّى العمليات الثورية والعنف السياسي والواجب الجهادي والاستشهادي، مستندين في ذلك الى تنظيرات سياسية ماركسية وفوضوية وماوية وخمينية. في أرشيف الذاكرة سلسلة طويلة من العمليات الانتحارية، ينتمي أصحابها إلى عقائد متناقضة ومضادة ومتباعدة (شيوعية، ثورية، فلسطينية، اسلامية، بعثية، قومية…). من منا لا يتذكر تفجير السفارة العراقية في بيروت في بداية الثمانينات، عندما استخدمت الأجهزة الإيرانية، بدعم من “حزب الدعوة” العراقي انتحارياً لتفجير السفارة العراقية في بيروت، فدُمّرت السفارة وقُتِل السفير العراقي وقسم كبير من الديبلوماسيين والعاملين فيها، وسقطت أيضا بلقيس الراوي زوجة الشاعر نزار قبّاني التي كانت تعمل هناك. بعد تفجير السفارة العراقية، فُجّرت السفارة الأميركية في بيروت وقُتل في العملية التي نفّذت في نيسان 1983 عدد كبير من العاملين في السفارة، إضافة إلى مواطنين لبنانيين أبرياء كانوا يمرّون أمامها أو يقيمون في محيطها. توالت العمليات الإيرانية في لبنان. ففي الثالث والعشرين من تشرين الأول 1983، فجّر مقر “المارينز” قرب مطار بيروت، بواسطة انتحاري، كذلك فُجّر بالطريقة نفسها، مقرّ قيادة الوحدة الفرنسية التي كانت تعمل في إطار القوة المتعددة الجنسية (أميركية، فرنسية، بريطانية، وإيطالية).

لجأت إيران إلى العمليات الانتحارية كوسيلة حربية ضد الغرب. وفي أثناء الحرب الإيرانية – العراقية في الثمانينات من القرن الماضي تدفق شلال الدم الإيراني عندما قام فتى لا يتجاوز الثالثة عشرة من عمره بتفجير نفسه على مقدمة دبابة عراقية بواسطة حزام ناسف، وقد احتفلت طهران بهذا الفتى.

لا تقتصر العمليات الانتحارية على الإيرانيين في لبنان، فالحزب الشيوعي له رصيده في هذا المجال، والحزب السوري القومي الاجتماعي، وحزب البعث، في عمليات انتحارية ضد اسرائيل، قرابين لنظام الأسد (مع فارق جوهري في الأهداف بين انتحاريي “القاعدة” والانتحاريين ضد اسرائيل). لا تقتصر هذه الظاهرة فقط على الشرق الأوسط أو العالم الإسلامي أو الشعب الفلسطيني بالتحديد، لأنها بدأت كظاهرة عسكرية عند شعوب وانتماءات أخرى مثل الطيارين اليابانيين “الكاميكاز” في الحرب العالمية الثانية ونمور التاميل في سري لانكا، وهي جماعة ماركسية- لينينة ينتسب أعضاؤها إلى عائلات هندوسية، لكنهم شديدو المعارضة للدين. هذا، بالطبع، إذا تركنا خارج دائرة الاهتمام الآن أعمال العنف التي عُرفت بها مجموعة “بادر ماينهوف” في ألمانيا، والجيش الإيرلنديّ في بريطانيا، ومنظمة “إيتا” في إسبانيا، أو منظمة “الألوية الحمراء” في إيطاليا، وعَلمانيين فلسطينيين أواخر الستينات. هنا يضيع التفكير، إذ ثمة من يبرر بعض العمليات الانتحارية باعتبار أنها تحصل ضد “العدو”. السؤال: من هو العدو؟ كل فريق يبرر أفعاله الارهابية ويضعها في خانة النبل والسمو والجهاد والاستشهاد، أما النتيجة فغالباً ما تكون واحدة.

لا يمكن تبرير التفجير الذي حصل أمام السفارة الايرانية، لكنه لا ينفصل في وجه من وجوهه، عن الخطب السياسية التي ساهمت في طحن الوعي الاجتماعي والثقافي، ولا ينفصل عن صراع الهويات الدينية التي تستحضر شعارات عمرها عشرات القرون الغابرة، من “لبيك يا زينب” إلى “يا عمر”. هو جزء من الحرب الدائرة في سوريا التي تلسع نارها لبنان، خصوصاً بعد مشاركة عناصر لبنانية في القتال الى جانب النظام الأسدي أو ضده. ولعل أبرز تحليل للعمليات الانتحارية في خضم الحرب، ما كتبه عالم الإناسة طلال أسد (لا يمت بصلة للرئيس السوري) في كتابه “التفجيرات الانتحارية” عن “المركز الثقافي العربي”، يتطرق إلى أمور غاية في الخطورة في إطار الحرب الأميركية على الإسلام والمسلمين، ويحاول إزالة اللبس عن بعض المفاهيم، ويناقش سقوط الأبرياء خلال العمليات الانتحارية، بالمقارنة مع سقوط الأبرياء في الحرب النظامية، سواء أكانت هذه الحرب عادلة أم ظالمة، على اعتبار أن النتيجة واحدة في الحالتين وهي “سقوط أبرياء”. يؤكّد أسد من خلال منهجيته في التحليل أنّ الإرهاب والتفجير الانتحاريّ ليسا أشدّ عنفاً، ولا أكثر قتلاً للأبرياء من الحروب التي تخوضها دول ليبيرالية أو ديكتاتورية على السواء. ذلك “لأنّ الحرب، عادلة أكانت أم ظالمة” تفعل ما يفعله “الإرهاب”، و”قسوة أيّ جيش رسميّ أو جماعة إرهابية ذاتُ صفات مشتركة كثيرة”. غير أنّ “الدول القوية لا يتمّ إخضاعها أبداً لمحاسبة (…) وأنّ الضعفاء المهزومين فقط يمكن تجريمهم بجرائم الحرب كما بالجرائم التي هي ضدّ الإنسانية”.

ردّاً على كثيرين ممن يكتبون عن الإرهاب، يقول أسد إنّ “التفجير الانتحاريّ المدروس ليس حادث غضب غير قابل للتحكم”، بل هو “القتل الذي يردّ على الظلم بانتهاك القانون”، إنه “الفعل العفويّ حين تكون أبواب الوسائل السياسية المشروعة مسدودة”. بالطبع كل اعمال العنف مدانة بالنسبة لي ككاتب وصحافي، ولكن حين أتأمل في الواقع السوري ولغة البراميل المتفجرة والتجويع والحصارات والتشرد، لا أستغرب أن يثمر هذا الواقع عشرات الظواهر التي تجرّ الويلات على المجتمعات. وحين أتأمل في السياسة اللبنانية وما يكتنفها من خلل في التوازن السياسي والطائفي وشعور بالقهر والاسئثار والفوضى، ربما لا أستغرب أن يصبح بعض الشبان المتشددين أو الضعفاء قنابل شبحية، أو قد يتحولون عصابة، كجماعة الأسير، أو انتحاريين أو ما شابه.

نتيجة واحدة: سقوط الأبرياء

بين ما تفعله براميل طائرات الاسد المتفجرة وما فعله تفجير الانتحاريين في بئر حسن، ثمة نتيجة واحدة: سقوط أبرياء. يبقى الفرق بين إرهاب الدولة وإرهاب الهجمات الانتحارية، أن الأخيرة تثير الاشمئزاز لأن منفِّذ الهجوم، بمبادرته هذه، يمنع أوّلاً بأول تنفيذ أيّ آلية قضائية لمعاقبته: إذ إنّه يموت مع ضحاياه. وعندما يجمع في عمل واحد، الجريمة والعقاب، يجعل العقوبة مستحيلة ويعطّل قيام عدالة جوهريّة تستند إلى معاقبة الجاني. فهو لن يبقى قادراً على دفع ثمن فعلته.

في الدراسات السيكولوجية أن الانتحاري يعتبر نفسه ممثلاً للمجموعة، فيفقد بذلك فرديته، وهو عندما ينتحر فإنما يحاول تحصيل حق المجموعة ليرفع من شأنها، بغض النظر عمن يقــتل من الجهة الأخرى، والمجتمع الذي يعيش فيه الانتحاري هو عــادة مجتمع يعاني من صدمات متكررة بحسب ما يقول البروفسور فاميك د. فولكان الذي يعتبر أنه يصعب هنا الخوض في نقاش حول المبادئ الأخلاقية أو الدينية التي تؤيد هذه العمليات أو تعارضها، لأنه سيبقى ثمة خلاف في الاجتهاد حولها، ولكن ما يجب مناقشته والتوافق عليه هو الجدوى السياسية لهذه العمليات.

النهار

عن الكفر والتكفيريين/ محمود الزيباوي

قررت وزارة الأوقاف المصرية في الأسبوع الماضي أن تكون خطبة الجمعة “في موضوع خطورة التكفير والتخريب والفتوى بدون علم، وذلك في مواجهة التحديات الخطيرة التي تواجه المجتمع من الجماعات التكفيرية التي تتبنى الإرهاب والاغتيال منهجاً منظماً لها”. ودعت الوزارة إلى “مواجهة دعاة العنف والتخريب والمتسرعين في الفتوى بغير علم أو وازع من دين صحيح أو ضمير إنساني حي”، ورأت في بيانها الرسمي “أن من يسلك هذه المسالك التكفيرية أو التخريبية أو يقدم على الفتوى بدون علم لن يجني إلاً حسرة وندما وسوء عاقبة”.

تترد عبارة “التكفير” في زمننا الحاضر، وتتحوّل إلى مصطلح يصعب تحديد معناه بشكل واضح. تتحدث وسائل الإعلام عن “التكفيريين” الذين ينتمون إلى جماعات عدة، وترصد صعودهم المستمر في أنحاء العالم الإسلامي، غير أن صورة هؤلاء تبقى غامضة. ما هو الكفر؟ ومَن هم التكفيريين؟ في “لسان العرب”، نجد تعريفاً مطوّلاً بـ”الكفر” يحدد معانيه المتعددة. هو في الدرجة الأولى “نقيض الإيمان”، وهو كذلك “نقيض الشكر”، و”جحود النعمة”. و”قتال المسلم كفر، وسبابه فسق”، كما نقل الرواة عن النبي. “الكفر على أربعة أنحاء”، بحسب أهل العلم: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق. أما كفر الإنكار، فهو كفر من “يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد”، وكفر الجحود هو كفر من “يعترف بقلبه ولا يقرّ بلسانه”. وكفر المعاندة “هو أَن يعرف الله بقلبه ويقرّ بلسانه ولا يَدين به حسداً وبغياً”. يبقى كفر النفاق، وهو كفر من “يقرّ بلسانه ويكفر بقلبه ولا يعتقد بقلبه”.

في زمننا الحاضر، يقودنا الحديث عن الكفر إلى مقالة شهيرة للشيخ محمد عبده نُشرت في مجلة “المنار”، وهي واحدة من مقالات محمد عبده التي أعاد محمد رشيد رضا جمعها في كتاب شهير صدر في مطلع القرن العشرين بعنوان “الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية”. يتساءل محمد عبده: “متى أولع المسلمون بالتكفير والتفسيق ورمي زيد بأنه مبتدع وعمرو بأنه زنديق؟”. يجيب: “نقول الآن إن ذلك بدأ فيهم عندما بدأ الضعف في الدين يظهر بينهم، وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله، تلك الفتن التي كان يثيرها أعداء الدين في الشرق وفي الغرب لخفض سلطانه وتوهين أركانه. وتصدّر للقول في الدين برأيه من لم تمتزج روحه بالدين، وأخذ المسلمون يظنون أن من البدع في الدين ما يحسن إحداثه لتعظيم شأنه تقليداً لمن كان بين أيديهم من الأمم المسيحية وغيرها، وأنشأوا ينسون ماضي

الدين ومقالات سلفهم فيه، ويكتفون برأي من يرونه من المتصدرين المتعالين، وأخذ المسلمون يظنون أن من البدع في الدين ومقالات سلفهم فيه ويكتفون برأي من يرونه من المتصدرين المتعالين. وتولّى شؤون المسلمين جهّالهم، وقام بإرشادهم في الأغلب ضُلاّلهم، في أثناء ذلك حدث الغلوّ في الدين، واستعرت نيران العداوات بين النُظّار فيه، وسهل على كلٍّ منهم لجهله بدينه أن يرمي الآخر بالمروق منه لأدنى سبب. وكلّما ازدادوا جهلا بدينهم ازدادوا غلوا فيه بالباطل، ودخل العلم والفكر والنظر، وهي من لوازم الدين الإسلامي، في جملة ما كرهوه، وانقلب عندهم ما كان واجبا من الدين محظورا فيه”.

يرى محمد عبده أن ظاهرة التكفير خارجة عن الإسلام، ويُنكر حدوث اقتتال بين الطوائف الإسلامية “بسب الاعتقادات الدينية”، ويؤكّد أن الحروب الداخلية في زمن العباسيين منشأها “طمع الحكّام وفساد اهوائهم”، فالحروب بين الخوارج والسلفيين والأشاعرة هي في رأيه “حروب لم يكن مثيرها الخلاف في العقائد وإنما أشعلتها الآراء السياسية في طريقة حكم الأمة”، وحروب الحكومة العثمانية مع دولة ايران من جهة، ومع الوهابيين من جهة أخرى هي كذلك حروب سياسية. لا يرى الشيخ الإصلاحي في التكفير إلا ظاهرة عرضية جاءت تقليداً لما شاع في الأمم المسيحية وغيرها، ويقول من هذا المنطلق إن المسلم ابتكر “اسم زندقة وتزندق ومتزندق وزنديق” من جيرانه المسيحيين، “إذ كانوا يقولون هرتقة وتهرتق وهو هرتوقي، أو ما يماثل ذلك”.

جامعة ومانعة

في كتابه “أصول النظام الاجتماعي في الإسلام”، يقدّم الشيخ الإصلاحي التونسي محمد الطاهر بن عاشور رأيا آخر يبدو أقرب إلى الواقع التاريخي الإسلامي. يؤكد الشيخ أن مبدأ التسامح هو مبدأ حديث، فالعلاقات بين أصحاب الأديان والعقائد والمختلفة قلّما كانت متسامحة، إذ “كان أهل الأديان منذ عُرف التاريخ يجعلون الدين جامعة ومانعة”، فهم “يجعلونه جامعا للمتديّنين به في المودة وحسن المعاشرة والعصبية”، ويجعلونه كذلك “مانعا من الامتزاج والمعاشرة والمودة مع المتدينين بغير دينهم، ثم تشبّ بينهم بحكم التولد والتدرج صدف الكراهية ثم البطش بأولئك المخالفين، وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة”. المنتسب لعقيدة من العقائد كان في أغلب الأحيان يحسّ “من ضلال مخالفه بإحساس يضيق به صدره وتمتلئ منه نفسه تعجباً من قلة اهتداء المخالفين إلى العقيدة الحقة، وكيف يغيب عليهم ما يبدو له هو واضحاً بيّناً”.

جاء في كتب الحديث: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار. قيل يا رسول الله من هم؟ قال الجماعة”. شاع هذا الحديث في زمن الخلافة العباسية يوم افترق الناس مللاً ونحلاً، وخرجت من كل ملة فرقة تقول إنها وحدها “الجماعة” الناجية. دخلت السلطة الحاكمة في هذا السجال، وباتت مؤسسة الخلافة نصيرة هذه “الجماعة” التي تغيرت هويتها بين زمن وآخر. في عهد المأمون، انحازت الدولة إلى مذهب المعتزلة وناصرته، وأعلنت أن القرآن مخلوق وإن كان منزلاً، وأن عقيدة القدر لا تلغي الحرية الإنسانية. اضطهدت الدولة في تلك الحقبة المسلمين من أهل السنّة والجماعة الذين لم يقبلوا الاعتزال، فكانت “المحنة” التي استمرت حتى عهد المتوكل الذي هجر الاعتزال ورفع المحنة، و”أحسن الصنيع لأهل السنّة، بخلاف أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمّه المأمون” الذين “قرّبوا أهل البدع والضلال من المعتزلة وغيرهم”، كما كتب ابن كثير في “البداية والنهاية”.

وضع الإمام الشافعي عبد القاهر البغدادي كتاباً باسم “الفرق بين الفرق”، واعتمد أسلوب التكفير في تعريفه بعقائد الفرق الباطنية، وأكّد أن ضرر هذه الطوائف “على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس عليهم، بل أعظم من مضرّة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم، بل أعظم من ضرر الدجّال الذي يظهر في آخر الزمان، لأن الذين ضلّوا عن الدين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم إلى يومنا أكثر من الذين يضلّون بالدجّال في وقت ظهوره، لأن فتنة الدجّال لا تزيد مدتها على أربعين يوماً وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمل والقطر”. في المقابل، تواصلت الحرب بين السنّة والشيعة من عصر إلى عصر، ومن عهد إلى عهد، ونقل جورج طرابيشي في الجزء الثاني من كتابه “هرطقات”، طائفة من أخبار هذه الحرب التي دارت، ولا تزال بين كبريي طوائف الإسلام منذ أكثر من ألف عام.

انشغل أهل العلم والكلام بهذه المعارك، وانقسمت الفرقة الواحدة فرقاً متحاربة تكفّر كلٌّ منها الأخرى. في “البصائر والذخائر”، تطرّق أبو حيان التوحيدي إلى تكفير المعتزلة بعضهم للبعض الآخر، “لخلاف عارضٍ في بعض فروع الشريعة”، ورأى أن “أبو هاشم يكفر أباه أبا علي الجبّائي وأبو علي يكفّر ابنه”، و”أن أختاً لأبي هاشم تكفّر أباها وأخاها، وأما أصحاب أبي بكر بن الإخشيذ، كالأنصاري وابن كعب وابن الرّمّاني وغيرهم، فكلّهم يكفّرون أبا هاشم وأصحابه”، وتساءل: “وما أدري ما هذه المحنة الراكدة بينهم، والفتنة الدائرة معهم. أين التقوى والورع والعمل الصالح ولزوم الأولى والأحوط؟”. انقسم أهل السنّة بدورهم فرقاً متحاربة، وذهبوا إلى حد تكفير بعضهم البعض. روى البخاري في “التاريخ الصغير” أن سفيان لما نعي أبو حنيفة النعمان قال: “الحمد لله، كان ينقض الإسلام عروة، ما وُلد في الإسلام أشأم منه”. شنّ الحنابلة حرباً على الأشعرية من موقع المدافعين عن الأفكار السلفية، ووقع الأشعرية يومها ضحية للحرب التي استهدفت المعتزلة والفرق التي عُرفت باسم “الروافض” و”المبتدعة” و”الباطنية”. أحرقت كتب الإمام الشافعي أبي حامد الغزالي بتهمة الابتداع المخالف للسنّة. ونودي في دمشق: “من اعتقد عقيدة ابن تيمية حلّ دمه”، كا نقل ابن حجر العسقلاني في “الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة”. ابن تيمية هو اليوم الإمام السلفي الأول، وفتاويه سند المنادين بتكفير سائر فرق الشيعة، كما أنها سند القائلين بضلال المعتزلة والأشاعرة والشافعية.

بين الأمس واليوم

في نهاية القرن التاسع عشر، دعا الشيخ محمد عبده إلى الخروج من منطق التكفير، وقال: “لم يَدَعِ الإسلام لأحد، بعد الله ورسوله، سلطاناً على عقيدة أحد، ولا سيطرةً على إيمانه، على أن الرسول كان مبلِّغاً ومذكِّراً، لا مهيمناً ولا مسيطراً”، “وليس للمسلم، مهما علا كعبه في الإسلام، على آخر، مهما انّحطَّت منزلته فيه، إلا حقّ النَّصيحة والإرشاد”. استعاد الشيخ الآية القرآنية: “ولتكنْ منكم أُمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون” (آل عمران 140)، وأضاف معلّقاً: “وتلك الأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والإنذار والتحذير، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتتبَّع عورة أحد، ولا يسوِّغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسّس على عقيدة أحد”. تحولت دعوة محمد عبده إلى دعوة عامة تبنّتها الدولة المصرية. في حزيران من العام 1899، عيّن الإمام الإصلاحي مفتياً للديار المصرية، وبهذا المرسوم استقل منصب الإفتاء عن منصب مشيخة الجامع الأزهر، وبات الشيخ محمد عبده أول مفتٍ مستقل لمصر، وبقي في هذا المنصب حتى وفاته في الاسكندرية عام 1905 عن سبع وخمسين سنة.

نبذ الأزهر منطق التكفير، وسلك طريقاً جديداً في العلم والمعرفة، وجعل من جامعته جامعة حديثة تتبنى مناهج العلم الأكاديمي الصحيح. في مقالة كتبها بالفرنسية عام 1948، تحدث طه حسين عن ثلاثة مستشرقين إيطاليين شغلوا منصب التدريس في الأزهر في زمن الملك فؤاد، ألفونسو ناللينو الذي درّس علم الفلك عند العرب، وجيرالدو ميلوني الذي عرض تاريخ الفلسفة اليونانية والإسلامية والصلات التي تربط التراث الفلسفي الإسلامي بالثقافة اليونانية، ودافيد سنتلانا، وهو أستاذ اللغة السريانية. حيا الأديب العربي الدور الكبير الذي لعبه هؤلاء الأساتذة في تاريخ الأزهر، وقال: “لقد أصبحنا ندين بالامتنان العظيم لهؤلاء الأعلام الذين درسوا في بلادهم لغتنا وجغرافيتنا وتاريخنا وأدبنا، والذين جاؤوا إلينا ليقدموا لنا عصارة بحوثهم. لقد بثّوا الحيوية في عقولنا ووسّعوا آفاقنا وشحذوا حسّنا النقدي ومدّوا نطاق معارفنا إلى ما لا نهاية، فبفضل حبّهم للغتنا ولبلادنا وعطفهم الذي لا يكلّ على شباب مولع بالمعرفة ومنهجهم في البحث الذي علّمونا إياه أتاحوا لنا أن نهدم الأسوار التي كنا نعيش خلفها حتى ذلك الحين في عزلة تامة عن العالم”. كان ذلك في المرحلة الممتدة من عهد الخديوي عباس حلمي الثاني إلى عهد الملك فؤاد. سار الأزهر على المنهاج نفسه في العقود التالية، وأرسى لغة جديدة ومنطقاً جديداً في مصر. امتد شعاع هذه السياسة إلى الخارج، وبلغ المشرق والمغرب. بعده تبدّلت الأحول، وتغيّر وجه الأزهر، كما تغيّر وجه مصر.

تحذّر وزارة الأوقاف المصرية اليوم في خطبة الجمعة من “التكفير والتخريب والفتوى بدون علم، وذلك في مواجهة التحديات الخطيرة التي تواجه المجتمع من الجماعات التكفيرية التي تتبنى الإرهاب والاغتيال منهجاً منظماً لها”. تبدو هذه الدعوة خجولة عند مقارنتها بالكلام الذي أطلقه محمد عبده في نهاية القرن التاسع عشر، ويبدو الأزهر عاجزاً عن استرداد تلك المكانة الرفيعة التي بلغها في النصف الأول من القرن العشرين. لماذ تراجعت مصر؟ ولماذا فقد الأزهر دوره الرائد في الإصلاح والتغيير والتجديد؟ يحتاج هذا السؤال إلى وقفة أخرى وقراءة متأنية ترصد أسباب هذا التحوّل البائس الذي يلقي اليوم بظلاله على سائر أنحاء البلاد العربية.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى