صفحات العالم

ثلاثة مقالات لحازم صاغية عن سورية

 

 

 

 

سوريّا بين الإقليميّ والدوليّ/ حازم صاغية

تتأهّل قوى المنطقة للحقبة الجديدة التي يُرجّح أن تكون حقبة ما بعد الشكل الراهن لسوريّا. وقد نشهد فيها درجة بعيدة من التداخل بين الهموم المحلّيّة للبلدان المعنيّة والتفاعل مع خريطة للمنطقة يجزم كثيرون بأنّها ستعكس انقلابات كبرى.

فالإسرائيليّون لا يمكنهم، بعد اليوم، التفكير بعلاقتهم بالفلسطينيّين وبعموم المنطقة قفزاً فوق التحوّلات التي ستعرفها سوريّا وطبيعة القوى في الطور المقبل، لا سيّما وضع الجنوب السوريّ المحاذي للجولان. وما سوف يضاعف هذا الإلحاحَ الوجودُ العسكريّ الروسيّ في سوريّا والذي تتكاثر الإشارات على أنّه لم ينشأ إلاّ بالتنسيق مع تلّ أبيب.

والأردنيّون لا يستطيعون التفكير بالمستقبل بمعزل عمّا ستؤول إليه حال سوريّا، خصوصاً في ظلّ العلاقات الحميمة التي تربط درعا في الجنوب السوريّ بشرق الأردن، مقابل الحساسيّة المعروفة والمتّصلة بالثنائيّة الفلسطينيّة – الشرق أردنيّة.

أمّا اللبنانيّون فأغلب الظنّ أنّهم متواطئون، من مواقع متعارضة في ما بينها، على تأجيل انتخاب رئيس لجمهوريّتهم إلى ما بعد اتّضاح الصورة السوريّة الجديدة. وحتّى مصر التي يردّد المراقبون أنّها ستكون، في الفترة المقبلة، شديدة الانشغال بأمورها الداخليّة، لا تستطيع في بنائها لسياستها العربيّة أن تتجاهل المركزيّة التي سينطوي عليها التحوّل السوريّ. ومثلما تسعى القيادة الحاليّة في القاهرة إلى استخدام الانتخابات الأخيرة منصّة لهندسة أوضاعها الجديدة، فإنّ التصوّر المصريّ للمشرق، وقلبه سوريّا، هو تعريفاً بعض امتدادات تلك الهندسة. وبدورها فالسعوديّة لا يمكنها الفصل بين مجاري مواجهاتها مع إيران، في اليمن والبحرين وسواهما، وما سترسو عليه سوريّا، والذي لا بدّ أن يعكس صورة الوضع الخليجيّ كما يتلقّى انعكاساته. أمّا العراق ومستقبله فسيكونان بالضرورة الأشدّ تأثّراً، خصوصاً وأنّ “داعش” ربط بين البلدين في موازاة الربط الإيرانيّ الناجم عن دعم النظامين السوريّ والعراقيّ ضدّ سنّة البلدين.

مع هذا فالحقيقة السوريّة لا تبدو على هذا الوضوح كما تبدو في البلدين الأكبر والأقوى في الشرق الأوسط، أي تركيّا وإيران. فالأولى وقد أنجزت مؤخّراً انتخاباتها البرلمانيّة التي شابتها عيوب كثيرة، معنيّة بالهمّ السوريّ على نحو مباشر يتّصل بعضه بحدودها الجنوبيّة، وبعضه بالمسألة الكرديّة، والبعض الثالث بالوعي الإيديولوجيّ الإخوانيّ لـ”حزب العدالة والتنمية” الحاكم.

أمّا إيران فطرف احتلاليّ، بخبرائها ومستشاريها وأشكال دعمها لنظام الأسد، كما عبر “حزب الله” اللبنانيّ وسائر التنظيمات الشيعيّة العراقيّة المشاركة في الحرب السوريّة. وبهذا المعنى، تجد طهران في الاتّفاق النوويّ ما تجده أنقرة في انتخاباتها الأخيرة، أي التأهيل للدخول من موقع قوّة إلى ساحة التفاوض حول المستقبل السوريّ، فضلاً عن محاولات على الأرض توازي التفاوض ويوكل أمرها للقوى الحليفة وتوسيع نفوذها.

لكنْ إذا صحّ هذا التقدير، بقي أنّ القوى الإقليميّة المعنيّة أضعف من أن تؤثّر التأثير الذي ترتجيه. فالأسد استدعى التدخّل الروسيّ لتعويض النقص في الدور الإيرانيّ، سيّما وأنّه لا يزال من غير المحسوم مدى توافق أجنحة السلطة في إيران حول الاتّفاق النوويّ ونتائجه على التوجّهات الإقليميّة. أمّا تركيّا فيُرجّح أن تعاني انقساماً داخليّاً حادّاً لم تفعل الانتخابات الأخيرة إلاّ مفاقمته. وهذا ما سوف يرفع بالطبع أهميّة العنصر الدوليّ في رسم خريطة المستقبل. أوليس في التبايُنين التركيّ-الأمريكيّ والإيرانيّ-الروسيّ ما يشي بذلك؟

الاتحاد

 

 

 

تصدّع الـ»نعم» والـ»لا» المطلقتين/ حازم صاغية

في وسع واحدنا أن يقول اليوم إنّه يؤيّد سياسات باراك أوباما الداخليّة ويعارض سياساته الخارجيّة، لا سيّما في سوريّة. كما يستطيع آخر أن يقول إنّه يرفض سياسات رجب طيّب أردوغان التركيّة، خصوصاً قمعيّتها وثأريّتها، لكنّه يحبّذ سياساته السوريّة، لا سيّما تشدّده حيال بشّار الأسد. لكنْ حتّى هنا، يمكن الذهاب خطوة أبعد في إعمال التحفّظ والفرز داخل سياسات أردوغان السوريّة، بحيث يُدان تسهيله عبور «داعش» والتكفيريّين إلى الداخل السوريّ، كما يُعترَض على تعامله مع الموضوع الكرديّ.

وتصدّع الـ»نعم» والـ»لا» المطلقتين هذا هو ما لم يكن ممكناً في زمن الحرب الباردة، حيث السمة العامّة الوقوف مع السوفيات أو الأميركيّين في الداخل والخارج، وفي السياسة كما في الاقتصاد والثقافة ونظام القيم وطريقة الحياة. فالسير دائماً خطّيّ ولولبيّ من ألف الكلام حتّى يائه، وفي أبجديّة ممتثلة كهذه لا ينفر حرف واحد. وفي الجبهة السوفياتيّة على الأقلّ، كان الموقف يتعزّز بذاك التأويل المترابط شكليّاً الذي يهبط بصاحبه هبوطاً آمناً من العالميّ فالإقليميّ فالمحلّيّ من دون أدنى اعتبار لتمايز الظروف والمستويات.

وإلى انتهاء الحرب الباردة تضافرت العولمة والمشروع الأوروبيّ، كما باتت السياسة، تفاوضاً وتسوياتٍ، تتخلّل النزاعات المؤرّثة، كالإرلنديّ والتركيّ-اليونانيّ والعربيّ-الإسرائيليّ، بحيث غدت الإشارات القوميّة إلى «حروب الوجود» أقرب إلى الإنشاء النزق للمتمرّنين.

هكذا نشأت أيضاً، مع نهاية الحرب الباردة، مصالحات بين السرديّات والأحكام التي بدا مستحيلاً، إبّان تلك الحرب، أن تتصالح، فبات يمكن القول إنّ العنصريّة في جنوب إفريقيا جمعت بين نظام سياسيّ واجتماعيّ بالغ التوحّش واقتصاد هو الأجود في إفريقيا، وإنّ فرانكو وبينوشيه كانا مستبدّين أحدثا تنمية في بلديهما، وإنّ كاسترو الذي خنق كوبا أسّس نظاماً ممتازاً للرعاية الصحّيّة.

والميل الجديد هذا هو ما عرّضته جريمة 11 أيلول (سبتمبر) للإنتكاس، فعادت إلى الواجهة نظريّات أسامة بن لادن وجورج دبليو بوش عن «الفسطاطين»، و»من ليس معنا فهو ضدّنا»، على إيقاع ما سمّاه البعض «حرب الغرب والإسلام»، وكان من تفرّعات ذاك المناخ «اجتثاث البعث» في العراق.

بيد أنّ البلدان الديموقراطيّة التي أبدت، ولو بقدر من التفاوت، مقاومتها لتلك الانتكاسة، ما لبثت أن استكملت تعافيها، أقلّه على أصعدة التفكير والتعبير. ذاك أنّ الديموقراطيّة وإن كانت هي الأخرى إيديولوجيا، تبقى أقلّ الإيديولوجيّات إيديولوجيّةً، وأكثرها تحويلاً للنزاع إلى سياسة فيما تنهض الإيديولوجيّات الأخرى على تحويل السياسة إلى نزاع.

أمّا بلدان الاستبداد فلم تتأثّر إلاّ قليلاً جدّاً بانتهاء الحرب الباردة، ولم تشعر تالياً أنّ لغتها انتكست بفعل بن لادن وبوش. فحكّامها إنّما يقدّمون أنفسهم وأنظمتهم أصلاً بوصفها كلّ الخير في مواجهة الشرّ كلّه، فيما أدنى النقد لهؤلاء يرقى إلى جريمة، مثله مثل الكلام بتوازن وإنصاف عن خصومهم. وقبل انتهاء الحرب الباردة وبعده، كانت فكرة «الشرّ المطلق» الإسهام الأساسيّ لإيران الخمينيّة في الفكر السياسيّ.

فإذا كانت اللغة النسبيّة في المجتمعات الديموقراطيّة بنت الاستقلال العقلانيّ عن المقدّس بسائر أشكاله، فإنّ اللغة الإطلاقيّة في مجتمعات الاستبداد إنّما تغرف من بحر الانقسامات العصبيّة القطعيّة والنظرة الدينيّة إلى العالم. وهنا لا يمكن أن يتقاطع، أو يتجاور، ما يُفترض أنّه خير وما يُفترض أنّه شرّ.

وهكذا تلوح اللغة السياسيّة لعالمنا اليوم نصفين كنصفي أبي الهول: رأس إنسان وجذع أسد. لكنّ من عاش العقود القليلة الماضية وعاين أنماط كلامها وتحوّلاته لن تفوته ملاحظة التغيّر باتّجاه أشدّ دقّةً وفرزاً، يُسعى إليه بكثير من التعثّر والتراجع والانتكاس، إنّما يُسعى إليه…

الحياة

 

 

 

ميراث حافظ الأسد/ حازم صاغية

لا تكفي الحجج التي تخفّف من آثار الغياب السوري عن فيينا لإقناع من يريد أن يقتنع. فأن تلتقي عشرات الوفود، من دول الإقليم ودول العالم، كي تبحث في وضع شعب وبلد غائبين عن اللقاء، فهذا إنّما يمسح الجرح بالإهانة. وهذه الوجهة، مسحوبة إلى مداها الأبعد، ترقى إلى معاكسة صريحة لكلّ ما ترمز إليه مصطلحات «حقوق الشعوب» أو «حقّ تقرير المصير» أو غير ذلك.

وكم تتبدّى هذه الوجهة فاقعةً إذا ما قورنت بأجواء مؤتمر باريس للسلام في 1919 الذي صيغ فيه العالم، بما فيه الشرق الأوسط المعاصر الذي يتصدّع الآن.

ذاك أنّ الزمن الفاصل بين تاريخ النشأة الأولى ويومنا هذا هو تاريخ تحلّل سورية، التي لا يمثّلها في فيينا نظامها الأسديّ، وتحلّل الشعب السوريّ تحت وطأة البراميل والكيماوي والسكاكين وأشكال الموت والتهجير الكثيرة، وهو الشعب الذي لا تمثّله في فيينا أيّ من معارضاته الكثيرة.

وإذا جاز تعيين المسؤول الأوّل، وإن لم يكن الأوحد، عن هذه الأيلولة الكارثيّة، فهو لن يكون أحداً سوى حافظ الأسد. ذاك أنّ ما يحصل اليوم هو النتيجة الطبيعيّة لسياسة حوّلت الوطن السوريّ، وقد كان مشروعاً محتملاً، إلى مجرّد وظيفة استراتيجيّة، ففرّغته من كلّ داخل. ومع بشّار الأسد، تُوّجت هذه السياسة برهن سورية للروس والإيرانيّين والتنظيمات الطائفيّة اللبنانيّة والعراقيّة التابعة لهم، مقابل تنظيمات معارضة ومسلّحة محسوبة بدورها على الخارج، أقواها أمميّات إسلاميّة لا تعني سورية سوريّيها أكثر من تاريخ ولادة ولهجة معيّنة.

فالميراث الأسديّ، وأهمّه جعل البلد «لاعباً كبيراً»، وفقاً لجوقة من الممالئين وجوقة أخرى من السذّج والقصيري النظر، تقابله اليوم استعدادات جدّية لدى الدول المجاورة للتعامل مع ما بعد سورية، وليس فقط مع ما بعد الأسد. وغالب الظنّ أنّ الكلام الديبلوماسيّ الذي يقول عكس هذا لا يعدو كونه كلاماً ديبلوماسيّاً.

يصحّ هذا الاستعداد لما بعد الأسد في إسرائيل التي لا يكاد يُذكر اسمها في اللغة العربيّة إلاّ مصحوباً بتعبير «أزمة»، كما يصحّ في إيران التي توصّلت إلى اتّفاقها النوويّ مع أعضاء مجلس الأمن وألمانيا، وفي تركيا التي، على رغم كلّ شيء، أجرت انتخاباتها البرلمانيّة وقد تتوصّل إلى ترميم سلطة حزبها الحاكم التي لاحت، قبل أشهر، متصدّعة ومهلهلة. هذا فضلاً عن الدول الكبرى وهي ترسم استراتيجيّاتها للمنطقة المتغيّرة.

أمّا الميراث الأسديّ المُرّ واللئيم، فيبقى منه درس آخر يتعدّى السياسات والاستراتيجيّات، مفاده أنّ القصور التي تشيّد على رمال من الكذب لا بدّ أن تنهار. وللأسف، فهي لا تنهار على رؤوس الذين شيّدوها وحدهم.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى