صفحات العالم

ثلاثة مقالات لماجد كيالي تناولت أزمة المعارضة السورية والوضع في سورية

 

 

بين خسارات النظام وخسارات المعارضة/ ماجد كيالي

يسود نوع من الإحباط، وفقدان الأمل، في أوساط السوريين، وضمنه في الأوساط المعارضة، بحكم المآلات المأساوية والكارثية التي آل إليها الصراع السوري، والتي تسبّب بها توحّش النظام، الذي استخدم كل ما في ترسانته الحربية من أسلحة، للقتل والتدمير، بطريقة لم يكن يتخيّلها أحد، وذلك في سياق تحويله الصراع الجاري من صراع سياسي إلى صراع على الوجود، مع ترويجه شبهات الإرهاب والصراع الطائفي الهوياتي.

وبديهي أن ما فاقم ذلك فتح نظام الأسد البلد على مصراعيه أمام قوات الحرس الثوري الإيراني والميلشيات اللبنانية (حزب الله) والعراقية والأفغانية التي تشتغل كذراع إقليمية لإيران، وبعده التدخل الروسي (منذ أيلول- سبتمبر 2015)، بواسطة القصف بالطيران، للدفاع عنه، ولوأد تطلعات السوريين.

بيد أن حال الإحباط تلك ما كانت لتصل إلى عتبة فقدان الأمل (تقريباً)، لولا الخذلان الدولي والإقليمي والعربي للسوريين، والمشكلة أن هذا الخذلان كان مصحوباً بإنكار تضحياتهم ومعاناتهم، وحتى إنكار حقهم في الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، كأنهم ليسوا بشراً مثل غيرهم، أو كأن سورية مزرعة خاصة لعائلة الأسد، وليست دولة مثل غيرها.

لكن شعور السوريين بالإحباط، وربما باللا جدوى، أو بالتعب، أيضاً، بات بمثابة واقع لا أحد يعرف كيفية الخروج منه، حتى الآن، لا سيما مع عجز الأوساط المعارضة، التي لم تفلح حتى الآن، أي بعد أكثر من ست سنوات، في المهمات المفترض القيام بها، بخصوص بناء كيان سياسي وطني جامع، يكون، أولاً، ممثلاً لكل السوريين، بتنوعهم وتعدديتهم، بدل أن يمثل طيفاً أو أطيافاً معينة دون غيرها. ثانياً، معبّراً عن التطلعات الأولية الأساسية التي أطلق السوريون ثورتهم من أجلها، وهي الانتهاء من نظام الاستبداد، وليس من أجل إعادة إنتاجه بصورة أو بيافطات إيدلوجية أخرى. ثالثاً، مساهماً فعالاً في صوغ الهوية والاجتماعات الوطنية للسوريين، التي تتأسس على الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، عوض السكوت عن تغذية الهويات الطائفية والدينية والمذهبية والإثنية المتعصبة والمغلقة، مهما كان نوعها. رابعاً، منافحاً عن حقوق السوريين وأولوياتهم وأجندتهم، أي ليس راهناً إرادته لسياسات أو توظيفات هذه الدولة أو تلك. خامساً، وأخيرا فإن الحديث هنا عن كيان سياسي يشتغل وفق قواعد مؤسسية وتمثيلية وديموقراطية ونضالية، وعلى أساس المؤهلات المناسبة، ويستمد شرعيته من مجتمعات السوريين، في الداخل والخارج، وليس مجرد كيانات منغلقة على ذاتها، وتشتغل كمجرد موظفين، أو كمعارضة مكتبية، بمعزل عن شعبها.

إذاً، فإن حال الإحباط والشعور بانسداد الأفق والتعب ناجمة، أيضاً، عن عوامل ذاتية، بالإضافة إلى العوامل الموضوعية (النظام وحلفاؤه ولا مبالاة ما يسمى «الدول الصديقة»)، والمشكلة أن الأوساط المعارضة ما زالت عاجزة، أو لا تشتغل وفقاً لإدراك مناسب لأخطار هذه العوامل الذاتية، الآنية والمستقبلية، عليها وعلى الثورة وعلى السوريين أنفسهم.

هكذا، فإن الحديث على هذا النحو لمعرفة الذات، أو لنقد الذات، لا يقلل من أهمية التغيير الذي أحدثته التجربة السورية، بما لها وما عليها، في واقع السوريين. وهذا ما ينبغي ألا يفوت أحداً في غمرة الإحباط والغضب من الأوضاع المأساوية الراهنة.

فعلى رغم الأهوال التي عاشها السوريون، والأثمان الباهظة التي دفعوها، والتي تفوق التصور، استطاعوا، مع ضعف إمكانياتهم، وافتقادهم التجارب السياسية، كسر حال الاستعصاء في التطور السوري، أو كسر الصخرة الصلبة التي تقف حجر عثرة أمام محاولاتهم السير في طريق التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، التي كان يمثلها نظام الأسد. ولم يعد من الممكن بأية حال، وبغض النظر عن التخريجات السياسية، استمرار نظام الأسد، على النحو الذي كان عليه، والذي كان يمكن أن يجد السوريون أنفسهم، ربما لنصف قرن أخر، مع حكم الأسد الثالث أو الرابع أو الخامس، أي أن الثورة السورية هي التي قطعت هذا المسار.

وعلى صعيد النظام أيضاً، فقد أنهت الثورة ما يسمى «الدور الإقليمي» والادعاءات القومجية للنظام، والذي كان من خلالهما يتلاعب بأوراق الآخرين (فلسطينيين ولبنانيين وعراقيين) لابتزاز الدول الأخرى أو للمزايدة عليها، كما في أغراض الاستهلاك المحلي وتعزيز سلطته الأمنية إزاء شعبه. وبطبيعة الحال فقد انكشف مع كل ذلك، أيضاً، زيف «المقاومة والممانعة» التي انتهجها النظام وحلفاؤه، (إيران وحزب الله)، بعد أن ثبت أن السلاح مرصود ضد السوريين وللدفاع عن النظام لا من أجل فلسطين ولا لاسترجاع الجولان السورية. والأمر ينطبق على حزب الله الذي انكشف تماماً دوره الإقليمي كذراع لإيران في المنطقة، وكشريك في الدفاع عن نظام الاستبداد، وكحزب ديني وطائفي (مع ميليشيا أبو الفضل العباس وكتائب عصائب الحق ونجباء وفاطميون العراقية. الخ).

لم يعد السوريون بعد الثورة كما كانوا قبلها، على رغم العورات أو السلبيات التي تكتنف ذلك، أي لم يعودوا على نمط واحد، إذ ظهروا بتنوعهم، وتعدديتهم، أو ظهروا كما هم فعلاً بهوياتهم الحقيقية، لا بهويات منتحلة وفق مسطرة النظام، وباتوا وجهاً لوجه في مواجهة أنفسهم وفي مواجهة بعضهم، بما لذلك من تأثيرات إيجابية أيضاً، وليس فقط سلبية، في ما يرى البعض. فوق كل ذلك بات صوت السوري مسموعاً، بعد عيش لعقود من دون صوت، أو في حالة خرس، في ظل الخوف المعشش في الصدور بسبب سياسات السيطرة والرعب التي انتهجها النظام ضد شعبه.

أخيراً السوريون دخلوا غمار السياسة، بسلبياتها وإيجابياتها، بطريقة سلمية وبطريقة عنيفة، وباتوا يحسون أنهم مواطنون وأنهم شعب، وهذه ليست مسألة ثانوية، إذ الثورة فعلت في سنوات قليلة ما تفعله عقود على هذا الصعيد.

هذه محصلة مريرة وصعبة لثورة يتيمة ومعقدة ومستحيلة، بيد أن التاريخ يعمل على هذا النحو المؤلم، والكارثي، في كثير من الأحيان، للأسف، ويأتي ضمن ذلك حقيقة أن الثورات قد تنتصر وقد لا تنتصر، كما أنها قد تحقق بعضاً من أهدافها، أو ربما تنحرف، لكنها في كل الأحوال تكون كسرت الصخرة التي تسد باب التطور، سواء المتعلقة بجمود المجتمع أو المتعلقة بجبروت النظام، أو بكليهما معاً.

الحياة

 

 

 

كيف أضرّت الجماعات العسكرية «الإسلامية» بالثورة السورية/ ماجد كيالي

منذ إنشائها دخلت الجماعات العسكرية «الإسلامية»، أي التي تتغطّى بالإسلام، أو تعتبره بمثابة مرجعية لها، بحسب فهمها الضيق له، في عمليات متواصلة من التنافس والإزاحة والاقتتال في ما بينها، ما أضرّ بها وبصدقية الثورة السورية وبالسوريين عموماً، كما بصورتهم عن أنفسهم وإزاء العالم.

هكذا سقطت مناطق القصير والزبداني وكثير من مناطق القلمون والغوطة وريف دمشق ودرعا وإدلب وحلب، بسبب اقتتال الجماعات العسكرية الإسلامية في ما بينها، وبسبب خذلانها لبعضها في مواجهة «داعش» أو «النصرة» (الانسحابات الفجائية)، وهذا الأمر ما زال قائماً، على الأرجح، رغم كل المآسي والأهوال التي خبرها السوريون، وعلى رغم كل التراجعات التي منيت بها ثورتهم، على الصعيدين السياسي والعسكري.

هذا ما يحدث في الغوطة (في ضاحية دمشق الشرقية)، هذه الأيام (ومنذ نيسان/ابريل 2016)، حيث الاقتتال بين «أخوة المنهج»، أي «جيش الإسلام» و «فيلق الرحمن» و «أحرار الشام»، وأيضاً بين كل واحد من هذه الجماعات و «هيئة تحرير الشام» («جبهة النصرة» سابقاً)، مع مئات من الضحايا، على رغم أن النظام يستهدف هذه المنطقة بالقصف وباحتمالات السيطرة عليها، ما يذكر بسقوط حلب (أواخر العام الماضي) بيد النظام، في خضم اقتتال الفصائل العسكرية في ما بينها.

وقد يجدر لفت الانتباه إلى أن الحديث هنا يقتصر فقط على الجماعات التي حسبت نفسها على الثورة السورية، ما يستثني «داعش» و «جبهة النصرة»، لأن هذين لهما حديث آخر، بحكم أجنداتهما المختلفة، وعدم احتسابهما على الثورة، ومناهضتهما من الأساس وفي شكل صريح وحاسم لأجندتها، وتعمدهما منذ البداية استهداف «الجيش الحر» وجماعات المعارضة العسكرية الأخرى بكل تلاوينها.

وفي الحقيقة فإن الجماعات العسكرية الإسلامية، أو معظمها، كانت نأت بنفسها عن المعارضة السياسة، كما شهدنا، إذ لم تنضوِ في أي من كياناتها الجمعية المعروفة، وفضّلت الإبقاء على استقلاليتها، أو على حالتها الخاصة، لا سيما مواردها المالية والتسليحية، بما في ذلك تحكّمها بطريقة أحادية وقسرية بالمناطق التي تخضع لسيطرتها، هذا أولاً. ثانياً، لقد تعمّدت هذه الجماعات النأي بنفسها عن المقاصد الأساسية التي اندلعت من أجلها الثورة السورية، والمتلخّصة بالطلب على الحرية والكرامة والمواطنة، وإقامة دولة مؤسسات وقانون، مدنية وديموقراطية، ما يكفل الحؤول دون إعادة نظام الاستبداد بأية صورة أو ذريعة كانت، بل إن بعض هذه الجماعات كان غاية في الصراحة في شأن معاداته للديموقراطية ورغبته بفرض تصوراته عن الدين والدنيا على السوريين، بطريقة قسرية، الأمر الذي طبع الثورة بطابع ديني وطائفي أفاد النظام. ثالثاً، كأن واضحاً منذ البداية، أيضاً، أن كل جماعة من هذه الجماعات مرتهنة تماماً للجهة التي تدعمها، بدل الارتهان لمصالح السوريين وحقوقهم وتطلعاتهم، يفاقم من ذلك أن الحديث يدور عن أنظمة متعددة ومختلفة في السياسات والأولويات، والمشكلة الأكبر أن ذلك الانصياع لإرادات هذه النظم على الصعيدين السياسي والعسكري، أي حتى الخطوات العسكرية كانت تبدو وكأنها استجابة لإملاءات خارجية ما أو مرتهنة بها.

يستنتج من كل ما تقدم أن هذه الجماعات شكلت نوعاً من حالة انشقاقية في الثورة والمجتمع السوريين، وأنها بدل أن تقوي المجتمع السوري إزاء النظام ساهمت في إضعافه، بمساهماتها، عن قصد أو من دونه، في تصديعها وحدته المجتمعية، وتقويضها اجماعاته السياسية، وطريقتها التعسفية في الهيمنة عليه، وتبديد طاقاته في معارك عسكرية بدت في معظمها، بالنهج الذي خيضت به، فوق قدرته على التحمل.

وقد يجدر الحديث هنا، للتحديد ومنعاً للالتباس، عن ثلاثة استدراكات في التعاطي مع نشوء الظاهرة المسلحة في سورية، أولها، أن النظام هو المسؤول عن التحول من الصراع السياسي إلى الصراع العسكري، لأنه المسؤول عن انسداد التطور في هذا البلد، وحرمان مواطنيه من الحقوق، ثم باستخدامه الجيش منذ البداية ضد شعبه، وبإدخاله إيران وميلشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية (وبعدها روسيا) في الحرب ضد السوريين. وثانيها، أن الموقف من هذه الجماعات لا يصدر بسبب خلفيتها الإسلامية، وإنما بسبب استخدامها الدين في صراع سياسي، وتحويله إلى صراع أيديولوجي/ ديني وطائفي، وبسبب فهمها المتزمّت والمتطرف والضيق للإسلام، ومحاولاتها فرض تصوراتها عن الدين على مجتمع السوريين، وأولهم «السنّة»، ما يفترض التمييز بين هذه الجماعات وتيار الإسلام السياسي المدني والمعتدل، والذي يعطي الأولوية للصراع السياسي وللحالة الوطنية السورية. وثالثها، أنه ينبغي التمييز، أيضاً، بين هذه الجماعات العسكرية التي لم تأتِ كنتيجة للحراكات في التيارات السياسية والمدنية الإسلامية في سورية (الإخوان أو الجماعات الدعوية والصوفية)، والتي لم تنم بسبب التطورات في الصراع المسلح، بقدر ما هي أتت ونمت أساساً بفضل الدعم المالي والتسليحي والتوظيف الخارجي، هذا من جهة، وبين الظاهرة المسلحة التي تنضوي في إطار جماعات «الجيش الحر»، أو الجماعات المناطقية التي ظهرت للدفاع عن النفس، من جهة أخرى، لأن هذه الجماعات نشأت في شكل طبيعي ووفقاً لقدراتها الذاتية، وكرد فعل على لجوء النظام للصراع المسلح، وهي التي تمت إزاحتها من الجماعات الأولى، ومن جبهة «النصرة» أيضاً.

وبصراحة فإن الموقف من هذه الجماعات إذاً ينبع من منهجها في التفكير وطريقتها في العمل ونمط إدارتها لسلطتها، إذ إنها لم تنجح ولا على أي صعيد، حتى على صعيد خطاباتها فقد بدت متزمتة ومتشددة وغريبة عن الإسلام الشعبي، الوسطي، المعتدل والمرن، للسوريين. وهي لم تنجح في إدارتها للمناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، أي «المناطق المحررة»، لأنها إدارتْها لها أتت بطريقة تسلطية وعشوائية ومصلحية. كما لم تنجح في صوغ استراتيجية عسكرية لمواجهة النظام، باعتمادها طريقة احتلال أو تحرير مناطق، من دون أن تكون لديها القدرة على حمايتها، أو تأمين المواد الضرورية لها، أو حتى إدارتها بطريقة ناجعة، تجعل منها نموذجاً لسورية المستقبل. وبالنتيجة فإن تلك المناطق بدت مناطقَ محاصرة تفتقد للمواد الأولية للعيش، وحقلَ رماية لصواريخ النظام وبراميله المتفجرة، وبيئات يهجرها قاطنوها، أو طاردة لسكانها، ما ولّد مشكلة اللاجئين السوريين، ما أثقل على الثورة وجلب كوارث ومآسي غير مسبوقة، من دون أن تفعل هذه الجماعات شيئاً لتدارك ما يحصل.

إضافة إلى كل ذلك فإن هذه الجماعات لم تكن فقط بمثابة ظاهرة انشقاقية في الثورة السورية بأخذها إياها من البعد الوطني إلى البعد الطائفي، ومن البعد السياسي إلى البعد الديني، وإنما كانت بمثابة ظاهرة أدت إلى تقويض ثقة مكونات الشعب السوري ببعضها بعضاً، بتعددها وتنوعها، فضلاً أن أكبر ضرر وقع من هذه الجماعات العسكرية كان على «السنّة»، أي على الجماعة التي يدّعون حمايتها أو تمثيلها، رغماً عنها. وفوق كل ذلك فإن كل جماعة عسكرية وجدت نفسها في مواجهة جماعة أخرى، بحيث بتنا إزاء وضع يقوم فيه «إسلاميون» بقتل «إسلاميين»، أي أن تنكيل جماعة إسلامية ما بغيرها لم يقتصر على من يخالفها من الجماعات السياسية الوطنية، إذ شمل ذلك الجماعات الإسلامية المتماثلة معها، ما يعني أن لا علاقة للإسلام بهذه الصراعات، التي هي بمنزلة صراع على السياسة والسلطة والمكانة والموارد من جهة، وجزء من صراعات الأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية، على النفوذ في سورية المستقبل.

بالنتيجة، فإن اقتتال هذه الجماعات يدمر ما تبقى من فكرة الثورة السورية النبيلة والمشروعة، ويقوض فكرة الوطنية السورية، ويفاقم ما يعانيه مجتمع السوريين في «المناطق المحررة»، ويقدمها لقمة سائغة للنظام، في وقت يعيش فيه واحدة من أصعب لحظاته الدولية والإقليمية، لا سيّما مع بدء العدّ العكسي لتحجيم إيران، ومع القرار ببدء التحول نحو حلّ انتقالي فعلي في سورية.

هكذا يقتتل من حسبوا أنفسهم يوماً «إخوة المنهج»، وظنوا أنهم تمكنوا من فرض ذاتهم على سورية وعلى مجتمع السوريين، في حين أنهم ساهموا في خدمة النظام، وفي الإضرار بسورية وبمجتمعها وبثورتها، وبالتيارات الإسلامية المدنية المعتدلة أيضاً.

طبعاً، تتحمل بعض القوى والتيارات والشخصيات الوطنية والديموقراطية مسؤولية كبيرة في وصول الحال إلى هذا الدرك، أولاً، بمحاباتها هذه الجماعات، بدل نقدها وترشيدها أو الحد من تأثيراتها، لا سيما محاباة نهجها في العمل المسلح. وثانياً، بالسكوت عن كونها تمثل انشقاقاً في الثورة السورية، بتحويلها من الخطاب الوطني الديموقراطي إلى الخطاب الديني الطائفي المتطرف. وثالثاً، بعدم فضح ارتهانها للأطراف الخارجية. ورابعاً، بعدم انتباهها إلى الأخطار الناجمة عن طبع الثورة السورية بطابع هذه الجماعات. وخامساً، بعدم مبادرتها لتشكيل البديل المناسب، في إقامة كيان أو كيانات وطنية فاعلة تمثل الثورة السورية حق التمثيل.

* كاتب فلسطيني

الحياة

 

خلافات المعارضة السورية وارتهانات كياناتها/ ماجد كيالي

أبدت قطاعات من المعارضة السورية تخوفاتها من احتمال تحول الاجتماع المفترض عقده في الرياض (سبتمبر القادم) إلى محطة جديدة يتم خلالها استبعاد البعض وضم آخرين ناهيك عن زحزحة المعارضة عن مواقفها، وضمن ذلك التخلي عن بيان جنيف1 (2012)، ولا سيما المطلب الذي يتحدث عن وجود هيئة تنفيذية ذات صلاحيات كاملة في المرحلة الانتقالية، والانتهاء من حكم بشار الأسد وأسرته.

هذه التخوفات، وهي مشروعة، لا تنبع من اعتبارات حقيقية، إذ أن هذه المعارضة لديها الكثير مما تتخوف منه بهذا الاجتماع أو من دونه، وذلك بحكم ضعفها، وخلافاتها، وتباين ارتهاناتها للخارج، وضعف تمثيلها في مجتمعات السوريين في الداخل والخارج، خاصة بعد أن أضحت القوى الدولية والإقليمية هي التي تتحكم بالصراع السوري.

هكذا وعلى الرغم من مرور أكثر من ستة أعوام من الثورة السورية، بالاختبارات التي مرّت بها والأفكار التي حرّضت عليها والخبرات التي اختزنتها والأثمان الباهظة المدفوعة فيها، لا يبدو أن ثمة ما يتلاءم مع ذلك من نهوض أو نضج أو حراك في التجربة السياسية الجمعية للسوريين. فللأسف، لم يحدث بعد، لا على صعيد الخطابات ولا على صعيد بناء الكيانات السياسية ولا حتى على صعيد محاولات صوغ الهوية أو الروح السورية، عند السوريين، إلا ما يبدد تضحياتهم ويقيد أو يحد من قدرتهم على مصارعة النظام، أو استثمار هذا الصراع في مكاسب سياسية ملموسة.

وبصراحة فإن هذا الأمر يتعلق أساسا بافتقاد السوريين إلى طبقة من السياسيين والمثقفين والفئات المتوسطة، التي تأخذ على عاتقها مسؤولية التحديث والتغيير، وتمثّل هموم وتطلّعات معظم المواطنين، مع الاحترام لعديد من الشخصيات الوطنية السورية النزيهة والمجربة، سواء تلك التي انخرطت في إطارات الحراك السوري أو التي عبرت عن ذاتها من خارجه.

ولعل أكثر ما يضرّ في هذه الطبقة هو السمات اللاصقة بها، أي السلبية والتواكل والتشتت وضعف المبادرة وطغيان الخوف من التجديد والتغيير، وروح الريبة التي تتملك أطرافها، وهي سمات استطاع النظام زرعها خلال نصف قرن من الحرمان من السياسة، وضمّنها انتهاجه سياسة التخويف والتهديد، ما يعني أن ترسخ هذه السمات حتى الآن، أي بعد أزيد من ست سنوات من التضحيات والمعاناة والتجارب، يمثل إخفاقا كبيرا للثورة السورية وللأوساط المنخرطة فيها.

نحن نتحدث هنا مثلًا، عن عدم القدرة حتى الآن، على بناء كيان سياسي جبهوي بمعنى الكلمة، وعدم التوصل إلى توافقات على صورة سوريا المستقبل المنشودة، البديلة من النظام، بعيدا عن التصورات الأيديولوجية والهوياتية والفئوية، مع تأكيدنا أن المشروعات السياسية الحية لا تتحدد بالسلب أو بالهدم أو بالتفكيك فقط، وهذا يشمل الواقع الذي تريد تغييره، وإنما تتحدد، أيضًا، بما تريد بناءه، أي المستقبل الذي تعد شعبها به؛ وهو هنا يتعلق بالحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية في سوريا الجديدة.

وعدا عن تشتت كيانات المعارضة، السياسية والعسكرية والمدنية، فإن كل جماعة تتحرك في دائرة مغلقة أمام الجماعات الأخرى، إضافة إلى ملاحظة غياب المراجعات النقدية، رغم كل ما كشفته مسارات هذه الثورة من أخطاء وتقصير، فاقمت التحديات والتعقيدات والصعوبات التي تمر بها.

مثلاً، في التجربة التفاوضية، تتناسى بعض أوساط المعارضة، أولا، أن المفاوضات الحقيقية لا تجري في جنيف ولا أستانة، أي لا تجري بين الجالسين على طاولة المفاوضات (النظام والمعارضة)، وإنما تجري بين الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في الصراع السوري، وخاصة الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا، مع أدوار أقل لأطراف أخرى. وثانيا أن المعارضة ذاتها لا توجد لديها رؤية واضحة حول ما تريد، وأنها هي بذاتها معارضة غير موحدة، ولا تعبر عن كيانات سياسية ذات تمثيلات مجتمعية وازنة، وأن قدراتها محدودة، وأن المعارضة السياسية لا تملك ما يمكنها من السيطرة على الصراع الجاري بين فصائل المعارضة العسكرية. ثالثا أن الفاعلية لا تقاس من الناحية العملية، بدلالة الشعارات والمواقف، وإنما تقاس بالقدرات والإمكانات والمؤهلات الذاتية، وضمن ذلك توفير الشروط التي تسمح باستثمار ما يمكن من مواقف دولية وإقليمية وعربية للتعويض عن ضعف القدرات الذاتية، لا العمل عكس ذلك بدعوى المبدئية والثورية.

كاتب سياسي فلسطيني

العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى