صفحات مميزةياسين الحاج صالح

ثلاثة مقالات لياسين الحاج صالح

صناعة القتل الأسدية ودور المثقّفين/ ياسين الحاج صالح

نُشر النصّ بالفرنسية في مجلة الإكسبريس

كانت أسوأ التقديرات عن عدد ضحايا الاعتقال والتعذيب في سجون النظام السوري تتكلم على نحو 3000 ضحية. حتى أواخر شهر آب 2013، كان «مركز توثيق الانتهاكات» الذي تديره الحقوقية والكاتبة رزان زيتونة، وهو الجهة الأكثر موثوقية وبُعداً عن المبالغة، يتكلّم على 2826 شهيداً تحت التعذيب في السجون السورية. آب 2013 موعد مهم، لأنه تبيّن أن 11000 معتقلاً كانوا قد قُتلوا حتى ذلك الحين في دمشق وحدها، حسب معلومات قطعية وُضعت في مطلع الثلث الثالث من شهر كانون الثاني تحت أنظار العالم1. أي إن 12 سورياً كانوا يُقتلون يومياُ في سجون النظام في دمشق! فإذا داوم إنتاج الضحايا على المعدّل نفسه خلال الشهور الستة المنقضية، وليس هناك ما يسوّغ الاعتقاد أن المعدّل انخفض، فقد يكون 1960 معتقلاً إضافياً قد قضوا. ونحصل بذلك على ما يقارب 13 ألفاً قتلوا في أقبية أجهزة الأمن في العاصمة السورية. وحتى بعد أن عرف العالم كله ما عُرف بشأن القتلى، قتلت أجهزة النظام في دمشق ذاتها وسام سارة، ابن المعارض المعروف فايز سارة، عضو الائتلاف الوطني المشارك في مفاوضات جنيف. كان وسام (27 عاماً، وأب لطفلين) ناشطاً في إغاثة المهجّرين المنكوبين، ومعتقلاً عند النظام منذ نحو شهرين حين أبلغت أسرته بوفاته.

ماذا عن المدن السورية الأخرى؟ حلب وحمص وحماة واللاذقية ودير الزور، وغيرها؟ لا نعلم شيئاً. لكن لا نملك أي سبب وجيه لافتراض أن القتل محصور في دمشق وحدها. ولن نجازف بتقدير.

على أن الشيء الجديد في رقم ضحايا التعذيب ليس أنه يفوق كثيراً أسوأ التقديرات، بل ما يشير إليه هذا الرقم وصور الضحايا من وجود صناعة موت منظّمة، على ما أشارت صحيفة «الغادريان» البريطانية يوم 21/1/2014. هناك تفكير منهجي، بارد ومنضبط، في كيفية قتل المعتقلين، مع الحرص الدقيق على حجب أية معلومات حقيقية عن هذه الكيفية. يقال للأهالي إن الضحايا ماتوا لأسباب قلبية أو تنفّسية. وهناك ما يتعذر تقديره من الأشخاص الذين ماتوا ودُفنوا في مواقع مجهولة، دون علم من ذويهم. علماً أن نحو 15 ألفاً من السوريين ما زالوا «مختفين قسرياً» منذ الحرب الأسدية السابقة في مطلع ثمانينات القرن العشرين.

ويبدو أن صور القتلى الـ11000، التي لم يتح للعموم رؤيتها، مُرقّمة كلها وعلى بعضها أسماء الضحايا. وفي بعض المعلومات أن ألفاً أو أكثر من الضحايا هم بالكاد هياكل عظمية، ما يعني تعريضهم لتجويع شديد ومديد، وما يحيل إلى قتل جماعي صبور ومتعمّد. وعلى جميع الصور التي أتيحت للعموم، هناك علامات تعذيب بالغ الشدّة، جروح عميقة وحروق، وتمزّق للعضلات في الصدر أو الظهر، وبعضها مفقوء العينين، وعلى بعضها علامات خنق. وحسب معلومات أخرى، فإن الضحايا يوضعون في أكياس ويؤخذون بالمئات في شاحنات خاصة، تدفنهم في أمكنة مجهولة. من يصادف أن تحصل أسرهم على جثثهم يُفرض عليهم ألا يكشفوا على الجثمان، وأن يوقّعوا على وثيقة تنصّ على أن الضحية مات بأزمة قلبية مثلاً، أو على يد «العصابات الإرهابية المسلحة».

ليس جديداً أن صناعة القتل تكملها صناعة كذب مزدهرة. قبل الثورة كنا نعلم أن النظام يعتمد على مركّبين جهازيين استراتيجيين: مركّب أجهزة الخوف (اسمها الأورويلي هو «أجهزة الأمن») ووظيفته منع تسمية الأشياء بأسمائها، ومركّب أجهزة الكذب (اسمها الأورويلي «أجهزة الإعلام»)، ووظيفتها تسمية الأشياء بغير أسمائها. وهما معاً يتكفّلان بفصل السوريين عن شروط حياتهم الفعلية ومنعهم من تسميتها والتحكم فيها.

«أجهزة الأمن» هي مصانع القتل التي أنتجت 11 ألف قتيل.

وهناك شهادات متواترة لمعتقلين سابقين عن أن الحال في المشافي التي يحصل أن ينقل إليها بعض المعتقلين أسوأ حتى من الحال في مصانع القتل الأمنية. ومن المحتمل حسب معلومات متواترة أيضا أن «مشفى تشرين العسكري» الواقع على الطرف الشرقي من دمشق، وكادره الطبي والإدراي والأمني، طرف كامل الشراكة في القتل الصناعي المزدهر في «سوريا ءالأسد» طوال السنوات الثلاثة المنقضية.

ولا ننسى بعدُ أن قتلى التعذيب والتجويع هم جزء بسيط من مجمل الضحايا السوريين الذين كان عددهم يتجاوز 120 ألفاً حين توقّفت الأمم المتحدة عن إحصائهم في كانون الأول الماضي. كان «مركز توثيق الانتهاكات» قدّر عدد ضحايا الثورة دون حسبان الضحايا من طرف النظام بنحو 80 ألفاً حتى نهاية 2013. فإذا كان رقم ضحايا التعذيب يفوق تقديرات المركز بأكثر من ثلاثة أضعاف ونصف، فهل يحتمل أن العدد الكلي للضحايا من طرف الثورة يزيد على ربع مليون؟ وكم يا ترى يبلغ عدد المعاقين؟ 3 أضعاف هذا الرقم أو 4 أضعافه؟

وإذا أخذنا بالحسبان أن نحو 40% من السوريين (9 ملايين) قد هُجّروا من منازلهم، ومنهم أكثر من 10% (مليونين ونصف) إلى خارج البلد، وأن ما يتراوح بين ربع وثلث المساكن في سوريا كلها قد دُمّر كلياً أو جزئياً، نحصل على صورة كارثة تاريخية لا نعرف ما يقاربها تاريخ سوريا الحديث، ولم تعرف السنوات المنقضية من هذا القرن نظيراً لها في أي مكان من العالم.

كان يمكن تجنّب كل هذا العنف المهول، إذ ليس هناك أي قدر متعالٍ أو حتمية تاريخية أو خصوصية ثقافية تقضي بأنه ما كان إلا لما وقع أن يقع. ما جرى هو نتيجة مباشرة لقرارات وأفعال بشرية، يتحمل مسؤوليتها أشخاص بعينهم، يشغلون في سوريا قبل الثورة بعقود، وأثناءها، موقعاً يمكّنهم من سلطة لا يضارعها أحد. في سوريا نطلق على هؤلاء الأشخاص اسم «النظام»، المركّب السياسي الأمني المالي الذي تشغل السلالة الأسدية موقعاً مركزياً فيه. ومنذ أن ورث بشار الأسد حكم الجمهورية عن أبيه في مطلع هذا القرن، صار الدستور العميق للنظام هو أن يورّث بشار منصبه لابنه (اسمه حافظ أيضاً)، وأن يبقى الحكم في السلالة الأسدية. من جهة «النظام»، المسألة مسألة سلطة مطلقة وثروة هائلة ونفوذ استثنائي وحصانة دائمة. وبعد 3 سنوات من الثورة والتعقيدات المحلية والإقليمية المتنوعة التي تعصف بسوريا، لم يعرض المركّب السياسي الأمني المالي استعداداً جدياً للتفاوض، ولم يُظهر أي نية للتنازل عن أي قدر من سلطته المطلقة. وبينما كانت المفاوضات تجري في جنيف، كان يتوسّع في قصف مدينة حلب التاريخية بالبراميل المتفجرة، ويفعل الشيء ذاته في بلدة داريّا القريبة من دمشق. هذا بينما يمضي في محاصرة أحياء حمص القديمة، ويشترط إخلاء بعض سكانها لتسهيل وصول مواد غذائية إليها، ويثابر أيضاً على حصار أحياء من دمشق العاصمة ومخيّم اليرموك للاجئين الفلسطينيين فيها، والغوطة الشرقية، المنطقة التي تعرضت للقصف بالأسحة الكيماوية في 21 آب الماضي، وسقط فيها 1466 قتيلاً، والتي انتقل النظام إلى حصارها فور اضطراره إلى إبرام صفقة يتخلى بموجبها عن أسلحة الدمار الشامل تلك مقابل تجنّبه ضربة عقابية أميركية-فرنسية. ما يستخلص من ذلك منطقياً أن التجويع سلاح دمار شامل بديل، أقل دراميةً وأدنى عواقب، لكنه استمرار لقتل المدنيين بوسائل أخرى.

لكن إذا كانت مصالح النظام وغرائزه تلقي ضوءاً على دوافع هذه الوحشية المنفلتة، فإن مناخات فكرية وثقافية منتشرة في سوريا، وفي الغرب أيضاً، سهّلت صناعة القتل المنظمة، وجعلتها شيئاً مقبولاً أو قليل الأهمية على الأقل. يتعلق الأمر هنا بالنزعة الثقافوية المهيمنة منذ نحو جيل، التي تختزل المجتمعات العيانية إلى مفهوم «الثقافة» المجرّد، ويُختزل هذا بدوره إلى «ذهنيات» ثابتة، يفترض أنها تتجسد تفضيلياً في الدين في مجتمعاتنا، الإسلام تحديداً، والسنّي منه بخاصة. وهكذا يكون النظام السوري إما نتاجاً طبيعياً لتكوين عابر للأزمنة للمجتمع السوري كمجتمع إسلامي، فلا وجه لتحمّله المسؤولية على ما يجري، بل لعله ضحية لتكوين محكوميه الذهني؛ أو، أسوأ من ذلك، يكون النظام طليعة «تنوير» و«علمنة» و«تحديث» في مجتمع «مظلم» و«متعصّب» و«تقليدي»، ما يوجب الدفاع عن النظام في وجه المعترضين عليه. فيما عدا أن هذه الأوصاف ليست صحيحة، وأنها في الواقع مصنوعة سياسياً في السياق ذاته الذي ولّد صناعة الموت، فإننا نفهمها على أحسن وجه حين نفكّر بها كتعبيرات عن النزعة العنصرية التي بات معلوماً أن مستقرها منذ نحو جيل هو «الثقافة» و«الهوية»، بدل الإثنية أو اللون. والعنصرية أيديولوجية طبقة وليست أيديولوجية هوية، كما يقول بنديكت أندرسون، وهي أوثق صلة بالامتيازات الاجتماعية منها بالتمايزات الثقافية. كانت إثنولوجية زائفة قد سوّغت قبل نحو ثلاثة أجيال صناعة القتل النازية التي أودت بملايين اليهود والغجر والمرضى. واليوم يسوّغ علم عقليات زائف، منتالوجيا جمعية collective mentalogy إن جاز التعبير، إبادة السكان الأشدّ حرماناً وفقراً في سوريا، بعد وصفهم بـ«المتعصّبين» و«الظلاميين» و«الإرهابيين».

هذا الوجه الفكري من صناعة القتل يتشارك فيه أيديولوجيو «العالم الأول الداخلي» في بلدنا، الذين يأخذون موقفاً استعمارياً من عموم السكان، مع أيديولوجيين في العالم الأول الغربي يمنحون أنفسهم «رسالة تحضيرية»، ومع ورثة «نقل الوعي» اللينيني إلى طبقات غافلة لا تعي مصالحها الحقيقية، وذلك على يد حزب هو «الوعي العلمي» مجسّداً. هل من فرق بنيوي بين نقل الوعي العلمي إلى كادحين غافلين، وبين نقل الحضارة إلى شعوب بدائية؟ هل المستعمَرون «البدائيون» شيء مختلف عن الطبقات العاملة والدنيا، الغارقة في العفوية والمطلبية الضيقة؟ وبأيّ شيء المستعمرون البريطانيون الذين استخدموا السلاح الكيماوي ضد العراقيين في مطلع العقد الثالث من القرن الماضي أو ضد الأفغان في الفترة نفسها هم أسوأ من المستعمرين الأسديين الذين استخدموا نموذجاً أشدّ تطوراً وفتكاً من السلاح نفسه ضد محكوميهم التعساء في صيف 2013؟ أو من نظام صدام حسين الذي استخدم السلاح نفسه ضد مواطنيه الكرد قبل أزيد من ربع قرن؟

لعل في ذلك ما يفسّر التقاء يمينيين غربيين لم ينتقدوا تجربة الاستعمار يوماً، ولا يزالون يؤمنون بالرسالة التحضيرية، بشيوعيين من جماعة «نقل الوعي العلمي» لا يزالون يحنّون إلى «سجن الشعوب» الذي كانه الاتحاد السوفييتي بقدر لا يقلّ عن روسيا القيصرية التي أطلق عليها كارل ماركس هذا الوصف.

ليس في مفاهيم من نوع «الاستبداد» أو «الطغيان»، أو حتى «الشمولية»، نعثر على نموذج تفسيري للنظام الأسدي، بل ربما في مفهوم الاستعمار، وأشكاله الأشدّ وحشية بخاصة، الأشكال المعتمدة على الإبادة كتلك التي عُرفت في العالم الجديد قبل مئات من السنين، وعرفتها روسيا بين الحربين العالميتين.

في سوريا، بعد ثلاث سنوات من الكفاح المرير، يستبطن بعض «المتمرّدين» على نظام الاستعمار الداخلي منطقه، ويمارسون حكماً استعمارياً ضحاياه هم ضحايا النظام الأسدي ذاتهم وخصومه الأكثر جذرية. أتكلّم على تشكيلات دينية فاشية، تحمل نسختها الخاصة من «الرسالة التحضيرية» أو من «نقل الوعي»، ويشتبه أن لبعضها صلات خفية مع النظام الأسدي، وتعمل على فرضها بالقوة على جمهور تعتبره «كافراً». الكفر هو الشكل الأقصى لخفض قيمة الحياة البشرية وإباحتها، والمسوّغ الأقوى فاعليةً للعنصرية والإبادة. ما أريد قوله هو أن هناك بعداً ثقافيا بارزاً في صناعة الموت الأسدية ومشتقاتها، ولا بد من فعل ثقافي فعّال لإبطال هذه الصناعة وتجريمها. هذا يقع على عاتق المثقفين قبل غيرهم، المثقفين السوريين قبل الجميع، لكن أيضا المثقفين في فرنسا وفي كل مكان. إن كانت هناك ثقافة وهناك فكر يسوّغان القتل أو يخفضان الحواجز الفكرية والرمزية والأخلاقية التي تحمي حياة الفقراء والضعفاء من الناس، فإن كل قوي يحتاج إلى قتل خصومه أو المعترضين عليه سيجد في تلك الثقافة وهذا الفكر ترسانة من أسلحة الإبادة الرمزية. ولن يكون أحد بمأمن دون إبطال هذا الفكر ومصانعه ومنتجيه.

المثقفون الفرنسيون مدعوون إلى المشاركة في الكفاح ضد الأشكال الجديدة من العنصرية والاستعمار وصناعة القتل. هناك مشكلة كبيرة حين يقول مثقفو فرنسا أشياء قليلة فقط ضد نظام القتل الأسدي، ومشكلة أكبر حين تبقى هذه الأشياء القليلة، المهمّة والمشرفة فعلاً، في نطاق دوائر السياسة وحقوق الإنسان، ولا تبلغ دوائر الثقافة والفلسفة والتأمل الأخلاقي.

«الدولة البربرية» التي تكلم عليها ميشال سورا قبل نحو ثلاثة عقود تتفوّق على نفسها اليوم، عبر صناعة القتل وصناعة المسوّغات العنصرية للقتل. ليس بدون استعادة إلهام سورا يمكن للفكر التحرّري أن يواجه البربرية الفائقة ومبرّريها، في سوريا وفي العالم.

    لقراءة التقرير بالإنكليزية، هنا: http://static.guim.co.uk/ni/1390226674736/syria-report-execution-tort.pdfhttp://static.guim.co.uk/ni/1390226674736/syria-report-execution-tort.pdf [↩]

موقع الجمهورية

الثورة والسياسة: سياسة بلا أفكار/ياسين الحاج صالح

    سجل ربع القرن الأخير تراجعا مطردا في الأبعاد الفكرية والقيمية للسياسة في سورية، ممارسة ومفهوما وهياكل، بالتوازي مع الحجر السياسي على المجتمع السوري وتضاؤل مساحات التفكير والنقاش العام في البلد. المجتمع السوري سُحِق بقدر لا يضاهيه بين البلدان العربية غير ما أصاب المجتمعين العراقي والليبي. واستقرت السياسة في البلدان الثلاثة على ركيزتين القوة من جهة، والعصبية من جهة ثانية، مع إلغاء الصفة العامة للسياسة ومنع عموم السكان من التدخل في ما صارت شؤون داخلية خاصة للحاكمين.

    طوال عقود جمع النظام الأسدي بين سياسة القوة وسياسة العصبية، التوسع في استخدام العنف ضد المحكومين، وتمزيق صفوفهم بحيث لا يشكلون مجتمعا، ولا يتضامنون فيما بينهم أو يتبادلون الثقة، مع الاستناد إلى عصبية حكم تعطي النظام عمقا وجوديا. المقاومات التي ووجهت بها هذه السياسة في عقود سابقة حُطمت، أما المقاومات التي تستند إلى المزيج ذاته من القوة والعصبية، فتجازف بأن تعيد السيرة ذاتها. هذا يبدو محققا منذ الآن في مناطق متعددة خارجة على سيطرة النظام.

    هذه المقالة هي الأولى في سلسلة من المقالات تحاول أن تتقصى وضع السياسة ومفهومها في فترة ما قبل الثورة السورية وأثناءها، مع التطلع إلى تصور جديد.

    *****

    حين استولى حافظ الأسد على السلطة عام 1970، كان هناك 3 تيارات فكرية وساسية واضحة الملامح: القومية العربية بصيغة بعثية أو ناصرية، وهي تجمع بين “الاشتراكية” وبين التطلع إلى كتلة عربية وازنة، أي بين تغيير الواقع الاجتماعي باتجاهات أكثر عدالة وبين تغيير الواقع الجيوسياسي للمنطقة باتجاهات أكثر استقلالية؛ والشيوعية، وهي تتطلع نحو اشتراكية أكثر جذرية ونحو “مواجهة الامبريالية” في المنطقة والعالم، وتضع نفسها في مواقع قريبة من الاتحاد السوفييتي وكتلته آنذاك؛ ثم الإسلامية في صيغة إخوانية تحديدا، وهي تتطلع إلى دور أكبر للإسلام في الحياة العامة، قبل أن تستقر في ثمانينات القرن العشرين على فكرة “تطبيق الشريعة”، أو تزايد بعض تياراتها على نفسها وغيرها بفكرة “الحاكمية الإلهية”.

    نظام حافظ دمرالثلاثة، الأولى بالتدجين أساسا، وقد أظهرت استعدادا طيبا له؛ والثانية بمزيج من التدجين والتحطيم، أي بـ”الجبهة الوطنية التقدمية” وبالسجون، والثالثة بالتحطيم أساسا: السجون والمجازر. تحطيم الإسلاميين كان بدأ قبل ذلك، منذ أيام الحكم البعثي الأولى.

    في ثمانينات القرن العشرين، بعد اندلاع أول موجة من الفاشية الأسدية، وقد بلغت الذروة في حماه 1982، اجتمع تحطيم القوى الثلاثة مع فراغ سياسي وفكري شامل. أكثر من أنه جرى سحق المجتمع والسياسة في سورية، لم تكتب سيرة هذا السحق أو حتى أطراف منها، ولم يُمثِّل السوريون محنتهم فكريا. كتاب واحد حاول تمثيل المأساة: “الدولة البربرية” لميشال سورا. الكاتب الفرنسي قُتِل بعد خطفه في لبنان، بسبب مواد كتابه على الأرجح. وفقط بعد أكثر من عقدين بدأت تكتب نصوص سياسية وأدبية وفكرية تحاول استعادة جوانب مما جرى.

    ليس بقدر ما يلزم، وليس على نطاق يضع أمام السوريين سيرة ماضيهم القريب المكبوت. كان من شأن ذلك أن يتيح لهم درجة أكبر من الإحاطة بأوضاعهم السياسية وقدرا من التمرس بالمشكلات والتحديات التي تواجههم.

    لم يحصل.

    *****

    دخلنا الثورة في ربيع 2011، واندلعت فورا موجة جديدة من الفاشية، دون أن يكون المجتمع السوري امتلك شيئا من تجربته الماضية، أو أجرى كشف حساب للمرحلة السابقة، أو جرى حد أدنى من النقاش الجدي في شأنها من قبل المثقفين السوريين أو الناشطين السياسيين الذين كانوا في السجون. تجربة المنتديات تعرضت لحصار مبكر، ولم تعش كفاية كي تستذكر التجربة المرة.

    وعلى كل حال، ووجهت مساعي التذكر ودعوة “المصالحة الوطنية” التي طرحها في حينه معتقلون سابقون بالتشكك والعداوة، من قبل النظام أولا، لكن أيضا من قبل معارضين آخرين (غير قليل منهم معتقلون سابقون أيضا!). كانت سياسة النسيان شريكا للقوة وللعصبية في منع عموم السوريين من تمثيل أنفسهم ورواية حكايتهم، ومقياسا لنجاح سياسة القوة/ العصبية في تشكيل تفكير السوريين تجاه بعضهم. سياسة النسيان تخشى الذاكرة، ولا تريد استرجاع سير المجازر والاعتقال والتعذيب والموت خوفا على “الوحدة الوطنية”. لا يطرح السؤال عن قيمة وحدة وطنية تستبطن المجازر والتعذيب؟ أو عن معنى أي كيان وطني لا يقوم على الحرية، حرية كل الأفراد والجماعات؟

    اليوم، يلزم القول بوضوح إن التطلع الأولي للثورة السورية هو تحطيم الدولة الأسدية، سلالة وأجهزة وإيديولوجية، بوصف هذه الدولة كيان استعباد قائم جوهريا على استتباع السكان، وعلى عداوة متأصلة للحرية والعدالة، ولا تدوم إلا بالعنف والكراهية. لا قيام لسورية دون ذلك. ولأن معنى الثورة السورية هو الصراع من أجل امتلاك السياسة وتقرير المصير، فإنه حول واجب تحطيم دولة الاستعباد الأسدية من جهة، وحول معنى تحرر الجمهرات وتملكها للسياسة من جهة أخرى، يمكن ويجب أن تتشكل أية حركات تحررية جديدة في سورية.

    لا يبدو هذا خارج أفق “معارضين” مفترضين فقط، بل يبدو أن النظام وجد ركائز لهيمنته في صفوف هؤلاء المعارضين. هذا نجاح كبير قلما يجري أخذه بالحسبان عند التفكير في مصادر قوة النظام الأسدي. هناك من يشاركون النظام تمثيله لسورية (نسيان المجازر والسجون وحماه وتدمر، نسيان التوريث بوصفه أكبر نكوص سياسي واجتماعي أصاب سورية منذ استقلالها، رفض التفكير في الطائفية ومناقشتها، اتهام خصوم النظام الجذريين بأنهم “حاقدون”)، هذا مع قبول خرافتي “الوحدة الوطنية” في الداخل و”الممانعة” في الخارج. عند قطاع من هؤلاء المعارضين، يتجاوز الأمر النسيان إلى الاشتغال كلاب حراسة للتابوهات ذاتها التي يفرضه االنظام: تحديدا الطائفية والمجازر، أي عمليا ركني سياسة النظام. تتفاوت التخريجات الإيديولوجية التي تساق لتسويغ ذلك، تمتح غالبا من عتاد شيوعي وقومي عربي رث، لكنها فعالة بقدر لا يقل عن المخابرات في منع قيام نقاش جدي لهذه الشؤون، مع توجيه الشراسة والعداوة دوما وحصرا ضد خصوم النظام الأكثر راديكالية.

    هذا ليس تفكيرا متهافتا، يجانبه الصواب في الوصول إلى الغاية النبيلة ذاتها، إنه تمثيل سياسي متواطئ لسورية بلدا ودولة ومجتمعا، وليس معادله السياسي غير النظام الأسدي حصرا، أو في أحسن الأحوال نظام أسدي بلا أسد. هذا ليس خافيا تماما على بعض هؤلاء الحراس الإيديولوجيين.

    من قدري جميل الذي شارك في الحكومة أثناء الثورة وأراد أن يعتبر معارضا في الوقت نفسه، إلى “تيار بناء الدولة” إلى “هيئة التنسيق الوطني”، المشترك هو التشكك في الجدارة المبدئية والنهائية للسكان بالحرية الآن، دون اشتراطات ودون غمغمة. لاءات هيئة التنسيق وجّهت ضد الشعب الثائر، وليس ضد النظام. الواقع أنها انتُحِلت من إجماع بلورته نقاشات الفترة الباكرة من الثورة، وسقطت منها اللاء الأهم: لا للنظام. هذا الإجماع تفكك بعد حين تحت وطأة عنف النظام، لكن الجماعة ثابروا على توجيه نصل اللاءات الحاد نحو الثورة حصرا.

    ينبغي القول إن جذع المعارضة السورية، ذا الأصول الشيوعية والقومية العربية، أي الجميع عدا الإسلاميين، شريك في هذا التكوين المتواطئ ضد الذات. جرى في سنوات ما بعد 2000 نقد للنظام وتكوينه وإيديولوجيته، لكن ليس بالجذرية ولا بالاتساق الكافي. لم نستطع، وأنا شريك في الأصول وفي تحمل المسؤولية عن هذا الوضع الفكري السياسي، الانفصال الجذري عن النظام وبلورة مفاهيم مختلفة للسياسة والهوية والمجتمع والثقافة (والمثقف، والحزب السياسي، والمواطن، والوطن، والدولة…)، وتقديم رواية مختلفة عن محنة بلدنا وتمثيل مغاير له. هذا يعني عمليا أننا لم نحقق استقلالنا الفكري والسياسي الفعلي كقوى اجتماعية وسياسية سورية حية.

    هذا ليس للتقليل مما تتحقق منذ أيام “ربيع دمشق” حتى بداية الثورة، لقد دشنت ممارسة نقدية، وتوسعت قاعدة التفكير في الشؤون العامة نسبيا، ورويت جوانب من سيرة البلد في العهد الأسدي والبعثي، لكن لم ينجز شيء نوعي على مستوى التفكير والنقاش أو يتحقق اختراق مهم على مستوى الاحتجاج والفاعلية السياسية. كتبت أشياء وقيلت أشياء كثيرة في السنوات المنقضية، ساعد على ذلك الثورة في مجال وسائل الاتصال، لكن لا يكاد يوجد شغل فكري جدي أو توليد لمفاهيم ومعان جديدة من جهة. المفاهيم تقوي شخصية الخبرة، بدونها تبقى الخبرة شيئا ضعيفا عابرا يتآكله النسيان. جرت كذلك احتجاجات علنية جمعت عشرات في كل مرة، لكن تعذر كسر الطوق النخبوي الذي ظلت نشاطات المعارضين الأكثر إخلاصا أسيرة له.

    لا يكفي القول إن الظروف لم تكن مساعدة. لم تكن مساعدة فعلا، لكن يبدو لي أننا افتقرنا إلى الشجاعة الفكرية وإلى الخيال والإبداعية الكافية لابتكار أفكار ومقاربات وطرق عمل جديدة. وبينما لا داعي للتأسف على ما فات، فإن قفزة في التفكير والعمل وحدها ما من شأنها نقلنا إلى مواقع مؤثرة في الطور الحالي من صراعنا. لسنا مخطئين عموما في تشخيص مشكلاتنا وأصولها وتفسير أوضاعنا، لكن ما هو أكثر إلحاحا اليوم هو التجديد على مستوى التنظيم والحساسية ومناهج العمل. على مستوى إنتاج العقائد الجديدة وأنماط الحياة أيضا.

    دخلنا الثورة بقليل من الأفكار الجديدة، بأقل من السياسة الجديدة، بأقل من العقائد الجديدة.

    هذا القليل مناسب للإسلاميين. تكوينيا الإسلاميون الحديثون والمعارضون مرتبطون بإخفاقنا في التجدد، التجدد السياسي والثقافي والاجتماعي. هذا “قانون” أساسي في تصوري. يكون الإسلاميون بوضع أحسن حين تتعثر مجتمعاتنا في صنع معان وقيم وأشكال انتظام جديدة. لديهم مزيجهم الخاص من سياسة القوة والعصبية. وتبدو شروط الكفاف السياسي الأسدية مناسبة لهم، لأنهم يعيشون على كفاف فكري وقيمي هم الآخرون، لكن أصولهم الفكرية لا تتضرر من هذا الكفاف لاختلاف منابعها، ولكونها أعمق جذورا، وأقدر على التكيف مع الأوضاع الصعبة.

    *****

    رغم كل ذلك أظهر المجتمع السوري طوال شهور قدرة على المقاومة والإبداعية، سلميا في البداية، ثم بمزيج من السلمية والسلاح، طوال 15 شهر كوجه مهيمن للثورة، ثم حتى اليوم كأشكال متنحية، تواجه عدوين: النظام، المجموعات الإسلامية الفاشية، فوق خذلان المعارضة التقليدية وتهافتها.

    لكن مزيج العنف وسياسة الهوية الذي ووجهت به الثورة، كان مناسبا لما يشبهه، وتسبب في تضييق المساحة الضيقة أصلا لالتقاء روح التمرد الشعبية مع أفكار وتجارب جديدة لمبادرين ومنظمين جدد. اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي آخر المؤشرات على تشابه بنيوي بين النظام وخصومه الإسلاميين في المزج بين القوة والعصبية، وفي الوضع المستحيل للتجارب والمبادرات المستقلة.

    على مستوى آخر يبدو أنه أثناء الثورة أعيد إنتاج الانقسام بين جمهرات كبيرة، لكن منعزلة عن بعضها، وبين المشتغلين بالشأن العام من ناشطين ومثقفين. بينهما يحل قادة تشكيلات عسكرية ودينية صغيرة، أسديون صغار. كان النظام الأسدي اجتهد في صنع هذا الانقسام وبنى أهرامات من الأجهزة الأمنية والإيديولوجية لحراسته.

    على هذين المستويين البنيويين، سياسة القوة والعصبية من جهة، والانقسام بين الجمهرات والفاعلين العامين من جهة، الثورة لا تزال أمامنا. نحن لا نتطلع إلى إبدال شكل من سياسة القوى والعصبية بشكل آخر، أو عنيفين طائفيين بعنيفين طائفيين مثلهم.

    نحتاج إلى تفكير جديد في السياسة ينطلق من هذا الواقع، ويطور ردودا فعالة عليه.

الثورة والسياسة: سياسيون وغير سياسيين/ ياسين الحاج صالح

    «لا نريد أن نشتغل سياسة»، يقول شبان سوريون عاملون بالشؤون العامة (أي بـ…«السياسة»). ولا يريد مثقفون ومفكرون سوريون أن يُشغلوا أنفسهم بالسياسة وصراعاتها أيضاً، متكرّسين فيما يفترض لقضايا الفكر والأدب والفن (وهي قضايا سياسية في كل مكان). وتثير السياسة عند عموم السوريين انفعالات تترواح بين السلطة والتسلّط، وبين التقلب واللامبدئية («السياسة ما لها دين»)، وبين طلب المناصب والأنانية، وبين البعد عن حياة الناس الفعلية، وموقفهم منها يتحرك بين التجنّب والخوف والارتياب.

    ويبدو أن في هذا التجنّب العام للسياسة ما يبهج قلب القائمين على «النظام السياسي» في «سورية الأسد». قام النظام تكوينياً على الحجْر السياسي على عامّة الناس وخاصّتهم، سواءً بالترهيب والخوف أم بالإفساد والاستتباع، أم بتغذية موقف التشكّك العام حيال السياسة والسياسيين. وفي اجتناب السياسة المشترك بين المفكرين والشبان وعموم الناس ما يحقق هذه الخطة ويبدو برهاناً على نجاحها.

    * * * * * *

    «الناشط» الذي لا يريد أن يشتغل في السياسة، لكنه ينساق بغفلة إلى «منظمات غير حكومية» (الإنجيؤوز، NGOs)، لا يتبيّن أنه يقوم في الواقع بعمل سياسي. تقوم المنظمات غير الحكومية، المموّلة من جهات غربية بصورة خاصة، على تجزئة الحقل العام إلى قضايا مستقلة عن بعضها (مجتمع مدني، حقوق إنسان، حلّ نزاعات، سلم أهلي…)، وعلى نزع الصفة السياسية عن الأنشطة العامة (السياسية، بداهةً) التي تقوم بها، وإضفاء صفة فنّية أو إجرائية «محايدة» عليها. يستجيب نزع الصفة السياسية هذا لتوجهات جهات سياسية وبيروقراطية، غربية ودولية ومحلية، تثابر على تزكية وصفات مجردة ثابتة لمعالجة مشكلاتنا، لا تمسّ هياكل السلطة الفعلية في المجتمع بذريعة الحياد و«اللاحكومية»، كما تثابر على تأليف قلوب قطاعات من النخبة الشابّة لمصلحة تلك الجهات.

    وليس الأمر مختلفا في حالة منظمات غير حكومية تتشكل داخل البلد وكانت أسماء الأخرس، زوجة بشار، الشخصية المحورية فيها. عدا أنه ليس هناك شيء «غير حكومي» في منظمات تشرف عليها «إيمّا»، فقد كانت هذه المنظمات أُطُر استتباع للعديد من الناشطين لمصلحة النظام وتقريبهم منه بوسائل أقل سماجةً وأكثر «حداثةً» من حزب البعث واتحاد شبيبة الثورة، وأقرب إلى أذواق «البرجوازية الجديدة» والمتمسّحين بها.

    لا حرية ولا إبداعية في هذه المنظمات في الحالين، الإنجيؤوز الأسدية أو الغربية، وبدرجة تفوق حتى انعدام الحرية والإبداعية في الحزب السياسي التقليدي على علّاته الكثيرة التي سنشير إلى بعضها أدناه. بل إن هناك فارقاً بديهياً لمصلحة الحزب التقليدي: يعرِّف نفسه بالسياسة ويحاول ممارسة السياسة، أما الإنجيؤوز فمتهافتة التكوين حين هي تمارس السياسة وتنكر صفتها السياسية.

    * * * * * *

    هذا النهج وجد تكميله فيما انتشر في العقود الماضية من اجتهاد مثقفين ومفكرين سوريين لإظهار تنزّههم عن السياسة، بينما كان فكرهم يشفّ عن انحيازات ومواقف سياسية مباشرة ويكاد يُختزل إليها تماماً. أعمال جورج طرابيشي وأدونيس وعزيز العظمة، وآخرين، سياسية جداً وبصورة مباشرة، رغم مثابرتهم على إنكار ذلك. عملهم دعوي وتعبوي، وحزبي، إن تكن حزبياتهم «ثقافية» وليست سياسية. وهي بدورها أكثر افتقاراً لروح الحرية والمقاومة من الحزب السياسي التقليدي. بل هي أقرب إلى معاداة المقاومات الاجتماعية والسياسية للطغيان، دون أن تزكّي شيئاً، عند المثقفين الثلاثة المشار إليهم، غير وجهات تاريخية عريضة، خالية من أي محتوى قيمي أو بُعد احتجاجي.

    يتعلق الأمر هنا بضعف سياسي وأخلاقي للتفكير والعمل الفكري، أي ضعف إدراك التضمينات السياسية لتفكير المعنيّين ومقارباتهم ومناهجهم، تحت وهم التجرّد أو الموضوعية أو استقلال الفكر. لكن لا شيء متجرد أو «موضوعي» في عمل المذكورين، أو أي عمل ثقافي أو أدبي في سورية المعاصرة، إن كان شيء كهذا ممكناً في أي مكان. كما في كل مثال آخر، يؤول زعم الموضوعية إلى تبرير الواقع القائم أو الانحياز له. ولقد أدّت بالثلاثة إلى مواقف أقرب إلى النظام أو مبرّرة له من جهة، مع غفلة مذهلة عن تاريخ البلد المعاصر وعن وقائع حياة الناس فيه من جهة ثانية. وما قاله المذكورون بعد الثورة يجمع بين قلة الدراية، وبين عجز عن التعاطف والإحساس بالغير، وبين الرغبة في تقديم النصائح وإعطاء الدروس، وبين التشاؤم المناضل.

    والكلام على ضعف سياسي للتفكير في مثل شروطنا، السياسية جداً، يعني في الواقع تهافت التفكير ذاته وهُزاله، أي غفلة عما يحرك تفكيرنا فعلاً، بل وإلى انقلاب فكرنا المتنزّه عن السياسة إلى سياسة صغيرة خاضعة أكثر من غيرها لإكراهات واقع لا تدركه. منذ الآن يبدو ذلك صحيحاً بخصوص المثقفين المذكورين: إما عبر صمت يكاد يكون مطبقاً لمن يفترض أن وظيفتهم هي الكلام، أو عبر ثرثرة لا تتوقف، عرض القوم ما يتراوح بين توجّس وعداء مبكّرين للثورة، وحشدوا تحفّظات عليها لم يعرضوا ما يقاربها يوماً حيال نظام العبودية الأسدي.

    ولا يُحسن مثقفون آخرون، لا يتكتمون على المرامي السياسية لتفكيرهم، حين ينخرطون في السياسة بشروط وضعها الضيّق الحالي، دون العمل على توسيع مفهومها وإدخال شواغل فكرية وقِيَمية أوسع. أثناء الثورة انخرط مثقفون في تشكيلات سياسية جديدة، لكن لم يسجّلوا فرقاً عن غيرهم على مستوى المثال والموقف، ولا على مستوى تنظيم الهياكل أو الأطر السياسية التي بنوها أو انخرطوا فيها، ولا حتى على مستوى التحليل. بدل أن يعملوا على تغيير السياسة القائمة، تركوا السياسة تُغيّرهم. والمشكلة أنه على أرضية تصوّر السياسة الضيّق، كتطلّع إلى السلطة ومناورات من أجل النفوذ والمكاسب، يمكن للأفّاق أو الطائفي أو الشبّيح أن يكون أشطر بكثير. فإذا كان للمثقفين أن ينخرطوا في الصراع السياسي من أجل التغيير، فلا بد أن يعملوا على تغيير السياسة ذاتها، أي ربطها بأبعاد فكرية وقِيَمية، وفتحها على مجالات حياة الناس في بيئاتهم الحية.

    من الواجب هنا القول إني لست خارج هذا الشرط الذي أنتقده. عملتُ على كشف المرامي السياسية المباشرة لتفكير ومذاهب مثقفين سوريين، وكيف يجري توسّل «الفكر» كاستراتيجية لإخفاء انحيازات سياسية غير مشرّفة. لكني ثابرتُ على القول إني لست سياسياً، وإني أشتغل بأدوات الثقافة حصراً. في هذا تواطؤ مع تضييق حقل السياسة يبدو لي اليوم متعارضاً مع التوسيع الواجب الذي توفّرت شروطه بفعل الثورة، وصار ملحّاً العمل على ترسيخه مفهومياً.

    * * * * * *

    لكن ماذا عن الأحزاب السياسية؟ هذه المنظمات التي لطالما اعتبرت الأطر الوحيدة للعمل السياسي؟

    بما هي تجمّعات واضحة الحدود لمشتغلين بالسياسة، تفترض هذه الأطر انفصالاً بين السياسي واللاسياسي، من جهة، وندرة السياسة والسياسيين من جهة ثانية. فإذا فكّرنا في السياسة بأنها، بالعكس، شأن كل الناس، الشأن الذي لا «رسالة» له تعلو فوق حياة عادية للناس العاديين، ولا تنفصل القضايا الكبرى المزعومة فيه عن الحياة اليومية، ولا الشخصي عن السياسي، ولا السياسيون عن العموم، استوجب الأمر أشكال تنظيم مفتوحة ومتحولة ومؤقتة. وإذا فكرنا في النشاط السياسي بأنه أشكال من التعبئة الاجتماعية المتحولة حول شؤون متعددة، ولا تقتضي بالضرورة هياكل تنظيمية دائمة، تستنزف قواها في مقاومة الموت، ربما نفتح ثغرة للتطور التنظيمي للسياسة، المجال الذي بقي عصيّاً على التطور في سورية والبلدان العربية حولها.

    لا ريب أن أشكال تنظيم النشاط السياسي تتحدد بنمط ممارسة السلطة العمومية وشكل تنظيمها هي ذاتها. في مواجهة نظام متطرف للحَجْر السياسي على السكان، على نحو ما عرفناه في «سورية الأسد» طوال أكثر من 40 عاماً، تتخذ المنظات السياسية صوراً تنظيمية تقوم على الهرمية أو على الخيطية، وعلى السرية والانغلاق دون خارجها في كل حال. تتكور على نفسها لتقليل مساحة الأذى الذي يحتمل أن تتعرض له من العدو على نحو ما يتكور على نفسه شخص يعتدي عليه من لا قبل له بمواجهتهم. لكن ما قد ينفع للدفاع عن النفس أو لضمان البقاء لا نفع منه في ما يتعدى ذلك. تجاربنا في هذا المجال تفيد أن صيغ التنظيم هذه تضمن بالكاد بقاء شحيحاً مقابل تدهور الفاعلية العامة إلى حد الانعدام. وأكثر من ذلك بثمن فقدان روح الحرية.

    لكن ما العمل في شروط مثل شروطنا؟ إما بقاء هزيل بلا أثر، أو محاولة للتأثير وخيمة العواقب.

    أو الثورة.

    فلا مخرج فعلياً من الشرط المستحيل غير الثورة عليه. الثورة إما أن تكون حلاً لأزمة الحزب السياسي أو هي حل للحزب ذاته. والحزب الذي قتله النظام الأسدي، ولا يشارك في الثورة ضده هو بالفعل «عميل» ضد نفسه، لأن سقوط هذا النظام شرط حياة للحزب، وليس شرط حرية فقط.

    لكن يلزم في الوقت نفسه نقد فلسفة الحزب السياسي التقليدي والتحرر منها. تقوم هذه الفلسفة على الفصل بين سياسيين وغير سياسيين، وعلى أن الحزب كيان طويل العمر ويحمل رسالة عابرة للأجيال، وعلى أنه لذلك يعرف مصلحة الناس المعنيين أكثر مما يعرفونها هم أنفسهم. تقويض هذه الفلسفة التي لا تؤسس إلا للدكتاتورية هو أحد وجوه الثورة الواجبة في مجال السياسة.

    كان ظهور التنسيقيات في وقت مبكر من الثورة مؤشراً في آن على أزمة الحزب السياسي وثقل حركته وعجزه عن المبادرة، وعلى الحاجة العامة إلى أشكال مرنة ومفتوحة من التنظيم. ومعلوم أن أكثر معتقلي الثورة في عامها الأول كانوا ناشطين في إطار تنسيقيات أو في أنشطة توثيقية أو إعلامية أو إغاثية حولها، وقلة من بينهم فقط أعضاء في أحزاب سياسية معارضة. لكن تجربة التنسيقيات، هذا الضرب المستقل والتحرري فعلاً من المنظمات غير الحكومية، توقفت عن التطور في الأطوال الحربية المتقدمة من الثورة، ولعلها انهارت تماماً منذ مطلع عام 2013.

    * * * * * *

    على أنه لا موجب لحصر خياراتنا بين أحزاب لا حرية فيها، وبين منظمات لا حكومية غير مستقلة، أو بين أطراف رباعي مكون من هذا الثنائي ومن النظام والإسلاميين، ولا بين ضربين من سياسة المثقفين يُفقِدانهم استقلالهم دون عائد إيجابي على السياسة.

    لن نحاول اقتراح شيء إيجابي هنا. هذا أمر منوط بنقاش مفتوح يشترك فيه أكبرعدد من المهتمين، وبالتعلم من تجاربنا وتجارب غيرنا. لكن نفترض أن مفهومنا للسياسة يسهم في تحديد أشكال التنظيم الضرورية.

    السياسة شأن الناس المشترك بينما هم يعملون على التحكم بشروط حياتهم وتعظيم قدراتهم. والناس، أفراداً ومجموعات، يعرفون حاجاتهم ومصالحهم، ولا يحتاجون إلى من يبصرِّهم بها أو يوجههم إليها. فإذا لم يحُل حائلون بينهم وبين مصالحهم، باسم الوطن أو الدين، أو حتى الثورة، توصّلوا إلى صيغ أنسب للعيش والعمل معاً.

    وكشأن مشترك، تعني السياسة الاجتماع البشري ذاته، ولا تتقابل مع العنف، كما لا تتطابق مع «الحلول السياسية» لمشكلات عامة يمتنع حلها دون تغيير الشروط التي ولدتها، بل تعني انخراط عموم الناس في شؤونهم المشتركة وتدخلهم فيها وتعاونهم لتحويلها بما يوافق مصالحهم.

    هذا المعنى للسياسة لا يسمح بانتصاب حواجز بين سياسيين ولاسياسيين، وبالتالي يطعن في شرعية أي أشكال تنظيم تعزل المنظمة عن الجمهور، والسياسيين عن اللاسياسيين. السياسيون هم جميع الناس بوصفهم أعضاء في الهيئة الاجتماعية. يمكن لأي كان ألا يهتم بالسياسة إن شاء، لكن السياسة ستهتم به في كل حال. الإنسان «حيوان سياسي»، ولا يستطيع أحد أن يعيش خارج المجتمع والدولة والشؤون المشتركة. لكن يمكن العمل دوماً على تحويل المجتمع والدولة والشؤون المشتركة بصورة توفّر حرية أعظم وعدالة أكبر للجميع.

    هذا، فيما نرى، هو التطلع المحرك للثورة السورية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى