صفحات العالم

ثلاثية التحدي والحل في كل من العراق وسوريا/ حارث الأزدي

 

 

للثلاثيات سحر في إيصال الفكرة لأنها تجمع بين الدراسة المضغوطة وترتيب الأفكار والتسلسل التراتبي فضلا، عن إمكانية العقل البشري حفظها بدون أن ينسي آخرها أولها، ولذلك تجد كثيرا من الحركات والتنظيمات تجمع أهدافها بثلاثية التسويق الفكري، ومثلها تفعل مراكز الدراسات والمجلات والصحف في دراساتها في طرح أفكارها ورؤاها وتحليلاتها.

قادني إلى هذه المقالة الثلاثية تقرير لمجلة «فورن بوليسي» نشرته قبل أيام يتحدث عن نهاية قريبة للعراق وسوريا، يتناغم مع صورة لخريطة العراق وهي محترقة تصدرت غلاف مجلة بريطانية في ما يتكهن المتابعون للوضع في سوريا بتشابك أكثر فوضوية من العراق، هذه النهاية التي تحدث عنها تقرير «فورن بوليسي» قال فيها إنها تستوجب بحثا عن أطر تقاسم السلطة قابلة للتطبيق، وهذا يستدعي البحث أولا بالتحديات الأساسية التي تواجه كلا البلدين العراق وسوريا اللذين يعانيان من ثلاثة تحديات أساسية: حدود العراق وسوريا ليست طبيعية أو تاريخية، فهي نتاج اتفاقية سايكس بيكو في تقسيم المنطقة، وبعض المكونات فيهما لاسيما الأكراد، لم يكن لديهم ارتباط قوي بهذه الحدود، فهم يحلمون باقامة كردستان مستقلة- بحسب التقرير- يضاف إلى ذلك أن اقامة الكيانات عقب التقسيم كان بفكرة الحدود الوطنية، لكن على أساس دول السلالات والأسر الحاكمة ثم تبعتها الأحزاب الأحادية والشمولية.

ومثلما هي كل المجتمعات في العالم، فإن المكونات التي يتألف منها المجتمع العربي تحمل بذور الصراع التي من الممكن تصعيدها واشعالها في أي وقت يشاء المتحكم بهذه المجتمعات، ونقصد هنا الصراع الطائفي بين الشيعة والسنة، الذي لعبت عليه القوى المتحكمة في المنطقة، وقد اكتسب زخما خلال العقد الماضي وكان هذا التحدي الثاني الذي اورده تقرير «فورن بوليسي»، أما ثالث التحديات المواجهة لطارح الحلول في هذه المنطقة فهو الصراع بين قوى إقليمية ثلاث – إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية، التي اتهمها التقرير باستخدام الميليشيات الطائفية والعرقية في العراق وسوريا كـ «بيادق حرب» بالوكالة.

تلك التحديات على تقسيماتها الثلاثية تقابلها أيضا رؤية ثلاثية الأبعاد بعيدة عن قراءة صاحب التقرير، الذي ينطلق من نتائج المشكلات وواقع حالها مجالا للبحث عن حلول لها، وهذا مخالف لأبسط القواعد في ايجاد الحلول، فالبحث يكمن في المسبب والدافع والمحرك والمتحكم بمجريات الصراع على الأرض، فليس تحديا هذا الذي تحدث عنه التقرير بان الحدود بين العراق وسوريا ليست طبيعية أو تاريخية، وهو توصيف تجده بين كثير من دول العالم العربية منها والأوروبية على حد سواء، بل لا أبالغ بالقول إن بعض الحدود بين دول أوروبية ترصده الصور بخط مرسوم على الأرض، وربما يمر طريقه ببيت لمواطن في إحدى الدولتين، يكون مجبرا على دفع مستلزمات بقاء البيت وفواتير الكهرباء للدولتين، اذن هو ليس تحديا بقدر ما هو إغفال متعمد لما يفكر به أبناء هذه المنطقة من حرية واستقلال وعدل ينعم به جميع أبناء البلاد، أما ابتعاث الأقليات واستهدافها أو رعاية بعضها بما يتناغم وأحلام قادتها بارتباطهم بالدوائر الغربية، فذلك ليس تحديا للحل الذي تطرحه دوائر القرار الغربية، وانما هو تحد بوجه من يريد النهوض بواقع المنطقة وتخليصها من الاستهداف.

وحين ننظر إلى تقسيم تركة الدولة العثمانية بعد انهيارها وخسارتها في الحرب العالمية الأولى نجد حرص دوائر القرار الممثلة بالدول المنتصرة في الحرب (واشنطن وباريس ولندن وموسكو) على تقاسم التركة وتنصيب ما أشار اليه التقرير بسلالات وأسر، وهي عودة ذكية لضمان ولاء الناس، كما كانت القبائل تدين لقريش، لكن الأمر في القرن العشرين وقتها اختلف عن سابقه في قرون ما قبل الهجرة النبوية فتحركت الأحزاب والجماعات وحركات الضباط الأحرار لتطيح بحكم بعض الأسر، وتتفق مع أخرى في تقاسم للسلطة مع الاحتفاظ بالمشاكل القابلة للانفجار، في أي وقت يشاء صاحب التقسيم ومن بيده ختم الاعتماد الدولي، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. في بعض دولنا انتهت الدولة فيها كمنظومة مؤسسات وسلمت مقادير البلاد بيد جماعات وشراذم لا تبالي ببيعها وتدميرها فالولاء للطائفة والعرق وليس الولاء للبلد الذي يتحكمون فيه، ومن هنا لابد من إعادة النظر في توصيف التحدي ليتم اختيار الحل المناسب للتحدي الحقيقي وليس العارض. فغالب ما يجري في الساحة الاشتغال بالعوارض وترك الأسباب الحقيقية للمشكلات، فالمشكلة بحسب تعريفها أنها المسافة الحقيقية بين الأسباب الدافعة لها وما يجب أن يكون حلا لها. ومن التحديات التي تطرح غالبا على انها مستعصية على الحل، الصراع الطائفي بين السنة والشيعة، وفي هذا التحدي ثمة مطبات ومشكلات ينبغي بحثها أولا قبل الحكم عليها، فالصراع سياسي بامتياز فلم تكن حربا أهلية بالمدلول الحقيقي للكلمة فلا عموم أهل السنة هجموا على الشيعة ولا بسطاء الشيعة هجموا على أهل السنة، تشهد بذلك ستة أشهر بعيد 9/4 /2003 لم تسجل اي حادثة استهداف، الا بعد دخول الأحزاب الطائفية الساحة بحماية الأمريكان، وممارستهم السياسة المطلوبة منهم للبقاء على قيد الاستخدام، فالذي حصل بعد احتلال العراق انفلات ميليشيات طائفية واستهدافها لشخصيات مدرجة على قائمة معدّة مسبقا لغرض تفجير الوضع، وتشظية المجتمع وإشعال الطائفية، فكانت ردات الفعل في الاتجاه المعاكس، ليكون هذا القتل مادة للتسويق الطائفي المعتمد لدى أحزاب العملية السياسية التي رعاها المحتل.

أما في سوريا فلم تكن الطائفية دافعا لاندلاع الثورة، بل إن الاستبداد والظلم والجو العام الذي اجتاح الدول العربية بربيعها للتخلص من أنظمة فاسدة مستبدة قامعة، كان هو الدافع والأساس في انطلاقتها، وقد أجمل السوريون شعار ثورتهم وقتها بمطلبين اثنين، (الحرية والكرامة)، لكن المخطط لسوريا جعلها تسير على وفق ما جاء في المخطط العراقي، لأمور منها أن ايران المتحكمة بالحكومة في العراق هي نفسها المتحكمة بالقرار السوري والساندة له. ومنها أن الاعتماد الدولي لم يصدر إلى الان القرار بتسليم زمام الأمر في سوريا لابنائها، بل كان السكوت والتغاضي عن دخول الميليشيات من الجانب العراقي وتأمين السلاح بالطائرات الايرانية باستخدام الأجواء العراقية، بذريعة نقل الزائرين إلى المراقد، يضاف إليها التدخل السافر لحزب الله اللبناني وإعلانه المشاركة في الحرب، كل ذلك يؤدي إلى مواجهة لهذا الاستهداف، فهل بعد هذا يسمى ما يجري بـ»اقتتال طائفي»؟

الحرب الأهلية والاقتتال الطائفي لابد أن يكونا بين طائفتين او اثنتين لا أن يكون القتال بميليشيات مدربة لغرض في نفس من يحركها، ولهدف من أهداف من يسمح لها بذلك، ومن هنا يتبين أن التحدي الثاني الذي أورده التقرير إنما هو عارض ونتيجة لسبب أو دافع، وعليه يجب البحث عن السبب الحقيقي ومعالجته لا معالجة العوارض والإبقاء على السبب ليتفجر في أي وقت يريدون إشعاله.

ثالث التحديات هو القوى الإقليمية التي حرص التقرير على أنها ثلاث (ايران وتركيا والسعودية) وقال ان لكل منها ميليشيات تحركها عن بعد، قد يكون ذلك ظاهرا واضحا في سوريا، ربما لأن الساحة السورية تكتسب أهمية مضافة لما عليه الوضع في العراق، وهي أنها ساحة صراع دولي بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، فهي الحلقة الواصلة لطريق الغاز إلى أوروبا، وأن التفريط بها بالنسبة لروسيا يعني حصارها واختناقها، ناهيك عن توافقات المرامي الدولية للجانب الروسي مع مرامي السيطرة على المنطقة من الجانب الايراني، أما تركيا فهي تدخل الصراع مرغمة من باب حفظ مصالحها الاقتصادية وتأمين جبهتها الداخلية، بينما تكون السعودية بتدخلها في هذا المضمار من باب الإبقاء على قيدها مسجلا في القوى الإقليمية كقوة عربية أمام الإيرانيين والأتراك. وحقيقة الأمر ليست كذلك، فالفارق بين أوراق تركيا والسعودية بالمقارنة مع أوراق إيران في سوريا كبير جدا، قد يبالغ بعض المتابعين برفضهم المقارنة في ذلك، وعلى هذا الأساس تكون ثلاثية القوى الأقليمية التي حددها التقرير لا تنطبق على واقع الحال، فتركيا والسعودية لا تشكلان تحديا كالتحدي الذي تفرضه ايران بتداخلها الروسي ومطابقتها لمخططات أمريكا في المنطقة فتلك ثلاثية (أمريكا وروسيا وايران) أقرب للواقع منها إلى تنظير المنظرين.

وفي متابعة لمجريات تقرير «فورن بوليسي» الذي قد يعبر عن وجهة نظر أمريكية حيال ما يجري على الأرض في العراق وسوريا، نجد إزاء هذه التحديات التي أوردها ثلاثة اتجاهات – نماذج – محتملة في البلدين، يرى أنها يمكن أن تمثل الحل في الأمد القريب، وربما تصل إلى المتوسط، وقد جعل التقرير أول الاتجاهات الدفع باتجاه إيجاد نظام شمولي يسحق معارضيه بقوة غاشمة ويمارس الحكم من خلال الديكتاتورية، لكنه سرعان ما يستدرك على هذا الاتجاه بانه في ظل هذه الأوضاع الملتهبة بات من الصعوبة أن يحكم، وان الفشل سيكون مصيره. أما الاتجاه الثاني فيتمثل بالدفع بمزيد من التشرذم وإدامة الصراع حتى يتعب الجميع ويرضخون للأقوى، ولم يعلق التقرير على هذا الاتجاه بالسلب أو الايجاب، والدلائل واضحة بالدفع باتجاهه مع العمل على إيجاد غيره. فيما كان الاتجاه الثالث وهو صلب التقرير ومادته الأساس، السعي إلى تسوية سياسية من خلال تقاسم السلطة مع المركز واللامركزية في النظام السياسي للبلاد، وتوجيه الرأي العام في هذه البلدان المستهدفة إلى ان القوى الإقليمية لها دور حيوي في تحديد وتشكيل الاتجاه الذي سيأخذه كل بلد، ما يعني أن هذا الاتجاه يؤسس لعمالات إقليمية ودويلات تابعة لقوى محلية تبقى في صراعها ما دامت هذه القوى الإقليمية متنافسة على النفوذ في المنطقة، وهذا يعني أن أبناء هذه البلدان التابعة لقوى اقليمية سيكونون جنودا لدول غير دولهم، ويقتتلون في ما بينهم لأجل مصالح غيرهم وهنا تنعدم السيادة والحرية والاستقلال التي تسعى اليها شعوب هذه البلدان.

وتبعا للرأي الثالث أو الاتجاه المتبنى من الولايات المتحدة يشير التقرير إلى ضرورة أن تكون سياسة الولايات المتحدة الدفع باتجاه إشراك قوى عالمية أخرى مع الدول الإقليمية الرئيسة الثلاث في هذا المشروع، ودفعهم نحو تفاهم مشترك، برعاية ورؤية أمريكية، لكي يكون هذا الاتفاق الدولي والاقليمي منصة انطلاق لمشروع أمريكا في صفحته السياسية، وهو ما يطلق عليه في العراق العملية السياسية القائمة على أساس المحاصصة بشقيها الطائفية والعرقية. وقطعا هذا المشروع تسعى أمريكا للوصول اليه في سوريا تماما مثلما تريد تثبيته في العراق، على الرغم من ان سنوات تجريبه أثبتت عجزه، بل وتدميره لمقدرات العراق كدولة وشعب متماسك بسبب ان المعتمد في إقامة مشروع كهذا، لابد أن يكون طائفيا أو عنصريا يتبع دولة إقليمية تمده بقوتها للوقوف أمام تحديات بني جنسه، الذين يستقوون هم كذلك بدولة أخرى، وكلا الفريقين يعملان لغير صالح البلد، ناهيك عن ارتباط القوى الإقليمية المعتمد بالقوى الدولية الكبرى التي لها مصالح متقاطعة في المنطقة مع بعضها بعضا وبهذا سيتم الإبقاء على اشتعال المنطقة وتشرذمها وتوهانها بين القوى لانعدام قوتها.

ولعل ثلاثية الحل التي يفكر بها الأبناء المخلصون لبلدهم تتمثل بالضربة الحرة المباشرة بترك التفكير بأن مستبدا يمكن أن تدين له هذه الشعوب ونبذ المحاصصة الطائفية والعرقية، بالتخلص من تأثيرات الدول الاقليمية، والوعي بمقتضيات المشروع الأمريكي الداعي إلى تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، فقد تبين الرشد من الغي بأن نظام المحاصصة والانتماء للقوى الإقليمية لن يبني بلدا بقدر ما يوفر الحماية للفاسدين بسرقة مقدرات البلد وتسليمه للدمار.

كاتب عراقي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى