صفحات الحوار

ثلاث ساعات مع الإبراهيمي في رحلة قطار يكشف فيها لـ’القدس العربي’ تفاصيل مفاوضات جنيف 2

محمد واموسي

جنيف ـ باريس ـ ‘القدس العربي’ لم أكن أتصور أن الرجل الذي كنا نركض خلفه كصحافيين في مدينتي مونترو وجنيف السويسريتين خلال جولتي مفاوضات جنيف 2 الأولى والثانية ستجمعني به دردشة لثلاث ساعات وربع مدة الرحلة التي تفصل جنيف عن باريس عبر القطار.

إنه الأخضر الإبراهيمي المبعوث العربي والدولي إلى سوريا ووسيط المفاوضات بين النظام والمعارضة السوريين، الدبلوماسي الجزائري المخضرم الذي يأمل في إنهاء مسيرته الدبلوماسية بإنجاز كبير يسجله له التاريخ من خلال نزع فتيل الأزمة بين الأشقاء الأعداء في سوريا.

كان الرجل يقف كسائر الناس في انتظار القطار في محطة جنيف ‘كورنافان’ السويسرية، في اليوم الموالي لاختتامه الجولة الثانية، ويرتدي معطفا أخضر ويضع قبعة ونظارات، وفي يده حقيبة متواضعة يجمع فيها ملابسه، وعلى مقربة منه اثنان من حراسه الشخصيين.

أحد حراسه أخبرني أن الرجل يريد ان يظل بعيدا عن انظار الناس،غير أن مجرد وجود حرس شخصي بسماعات اذن جعل انظار بعض المسافرين تتجه مباشرة صوب الشخصية الموجودة في المحطة، فالرجل الذي تصدرت صورته نشرات أخبار جل قنوات وصحف العالم يقف بينهم صامدا في برد محطة القطار.

الإبراهيمي جمع حقيبته كسائر المشاركين في مفاوضات جنيف من صحافيين ودبلوماسيين وسياسيين وملاحظين وخبراء وقرر العودة إلى بيته في باريس حيث يقيم منذ سنوات طويلة… عاد وهو يتجرع مرارة البطء الذي تسير عليه مفاوضات السلام السورية بسبب تعنت طرفي الأزمة وامتناع داعميهما الروس والأمريكان عن الضغط عليهما لتقديم تنازلات.

سألت الإبراهيمي ونحن ننتظر القطار ‘هل ستكون هناك رحلة قطار أخرى له بين جنيف وباريس تفرضها جولة مفاوضات ثالثة بين السوريين؟ ابتسم ورد علي : ‘أمامي مسؤولية كبيرة أمام الله أولا وأمام الشعب السوري ثانيا’.

حينها شعرت برغبة في أن أطرح عليه كل الأسئلة التي كنت أسعى لطرحها في مؤتمراته الصحافية في القاعة رقم 3 داخل مبنى الأمم المتحدة دفعة واحدة، فتسابق الصحافيين السوريين المحسوبين على النظام وزملائهم المنتمين لوسائل إعلام المعارضة على طرح أسئلة ‘ملغمة’ لصالح هذا الطرف أو ذاك حرم الكثير من الصحافيين العرب والأجانب من طرح الأسئلة الحقيقية على المبعوث العربي والدولي إلى سوريا.

الإبراهيمي كان في كل مرة يتفطن سريعا لكل سؤال ملغم من الصحافيين السوريين نظاما ومعارضة، فيتفادى الرد ويقول لصاحبه ‘هذا سؤال من إياهم؟’، قبل أن يطلب سؤالا آخر من صحافي آخر.. لكنه أحيانا كان يرد بعد أن ينزع ‘المادة الملغمة’ من السؤال وحجته كما قال لي في القطار ‘هي قضيتهم سواء كانوا يدعمون موقف الحكومة أم المعارضة.. هم سوريون قبل أن يكونوا صحافيين.. هناك أسئلة أجد فيها بعضا من الصواب فأرد والأسئلة من ‘إياهم’ أفضل عدم الرد عليها.. أنا دوري هو أن أساعد السوريين على تحقيق المصالحة و وقف العنف و رسم مستقبل بلدهم لا أن أعمق الخلاف بينهم’. وأحيانا كان يفلت بدبلوماسية متناهية من أسئلة دقيقة يطرحها عليه صحافيون أجانب، فحين سأله أحد الصحافيين الأمريكيين عن شكل هيئة الحكم الإنتقالي التي سيناقشها مع وفدي النظام والمعارضة وأعضاءها وصلاحياتها وتركيبتها أجاب الإبراهيمي قائلا : ‘هذا سؤال ذكي أشكرك عليه’ ثم توجه لباقي الصحافيين: ‘سؤال آخر’.

وحين سأله صحافي آخر، ماذا سيفاوض وفدي النظام والمعارضة غداً في ظل رفض كل طرف تقديم تنازلات، عليه قائلا: ‘غداً سأجيبك’. غير أن الدبلوماسي الثمانيني لا يتردد في الانتقال من موقع الإجابات الدبلوماسية الذكية إلى الردود الهجومية كلما شعر بالحاجة إلى ذلك.. فحين سأله صحافي عن جدوى استمراره في التفاوض مع طرفي الأزمة طالما أن مواقفهما لا تتزعزع رد عليه بسؤال لا يقل حدة ‘وهل تريدني أن أتفاوض معك أنت ؟’. وردا على سؤال عن الطريقة التي سيتمكن بها من تقريب وجهات النظر بين الطرفين، قال الابراهيمي مبتسما ‘اذا كانت لديك افكار، أتقبلها بكل سرور’.

أتذكر أن أول مرة التقيت فيها الإبراهيمي كانت يوم 17 اب/أغسطس عام 2012، حينما أجريت معه في بيته في باريس مقابلة بعد بضع ساعات فقط على صدور قرار أممي يقضي بتعيينه مبعوثا دوليا و عربيا إلى سوريا بدلا من المبعوث السابق المشترك ومهندس اتفاق جنيف 1 كوفي عنان، حينها وافق الإبراهيمي أن أكون أول من يخصه بمقابلة صحافية، قال لي حينها مازحا ‘لأنك مغربي ولأني أحب المغرب سأعطيك مقابلة’.

الإبراهيمي الذي ظل مترددا لعدة أيام في قبول العرض من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لشغل المهمة، لم يكن يريد أن يظهر بصفته مجرد بديل لأنان، بل أراد تفويضا معدلا ولقبا جديدا.

ومن هنا ربما يتضح الأسلوب الذي يعتمده الرجل في المهمة الصعبة التي يضطلع بها في التوسط بين وفدي النظام والمعارضة السوريين في جنيف، حيث يستخدم الاخضر الابراهيمي الحزم والبراغماتية… والمزاح، ويتسلح بالصبر، مكررا ان مجرد جمع الطرفين الى طاولة واحدة انجاز في ذاته.

أسلوب الإبراهيمي الحازم لم يكن يستخدمه فقط مع الصحافيين، بل حتى مع أعضاء التفاوض خاصة وأن بعض جلسات المفاوضات مرت في أجواء عاصفة من التوتر والصخب… وبعضها الآخر كاد يتحول النقاش فيها إلى تلاسن وعراك بالأيدي.

وفي اليوم الأخير من الجولة الثانية استعان الإبراهيمي بفريقه الأممي المكون من 14 خبيرا ومعاونا لفض المشادة التي اشتعلت فجأة بين رئيس وفد النظام بشار الجعفري وعضو وفد المعارضة هيثم المالح.

و لم يتردد الدبلوماسي المخضرم يوما في رفع نبرة صوته في وجه بشار الجعفري حين اشترط هذا الأخير إصدار بيان موقع من كل المشاركين في المفاوضات يدين العنف والإرهاب مقابل مواصلة الجلسة، فحذره حينها ‘هل تريد أن تفشل المفاوضات؟’.

كما أسمع مرة أخرى بشار الجعفري جوابا قاسيا ثم رفع الجلسة حين اتهمه هذا الأخير بلعب دور استخباراتي بطرحه موضوع ‘مؤسسات الدولة بين الاستمرارية والتغيير’ كبند رئيسي في جدول الأعمال، كما كان عنيفا أيضاً ضد أحد أعضاء وفد المعارضة الذي تهجم عليه شخصيا.

وداخل الجلسات المغلقة، غالبا ما يفتتح الإبراهيمي التفاوض بممازحة المفاوضين، وقد قال لوفدي النظام والمعارضة مرة ‘على هذه الوتيرة التي نسير عليها، سيستغرق التفاوض عشرين عاما لا بد من الإسراع لأنه بعد عشرين عاما، لن أكون هنا’.

هذا هو الأخضر الإبراهيمي.. الدبلوماسي الذي يعرف ما يريد في اللحظة المناسبة، حين يستشف وبسرعة كبيرة نقطة ضعف من يجلس أمامه على طاولة التفاوض.

حين تأخر القطار الذي سينقلنا إلى باريس بنحو نصف ساعة في دخول المحطة بسبب عطل فني بدا التوتر واضحا على المسافرين، وحده الابراهيمي حافظ على رباطة جأشه، كان حينها يخرج هاتفه ليطمئن أسرته في باريس، و في الوقت ذاته يطمئن حراسه وحتى مراقبي التذاكر والمسافرين بأن القطار في الطريق… وما هي إلا دقائق معدودة حتى دخل القطار فعلا المحطة.

وحين صعدنا القطار رافقت الدبلوماسي المخضرم إلى مقعده، وهناك دار بيننا حديث مطول استنتجت منه أن الرجل منزعج من مناورات وفد النظام السوري وسعيه في كل جلسة لعرقلة المفاوضات.. وفد النظام كان في كل نقطة يطرحها الإبراهيمي للتفاوض يناور ويتنصل ويطالب بمهلة للتشاور مع دمشق قبل إعطاء موافقة من عدمها.. وكانت النتيجة دائما لا تفضي لأي قرار.

لم يشعر الإبراهيمي طيلة الـ12 يوما من التفاوض في الجولة الاولى والستة أيام من المناقشات في الجولة الثانية ان وفد النظام جاء إلى جنيف من أجل التفاوض الجدي، بل جاء لكسب الوقت.

مطالبة وفد النظام مرارا بمهلة للتشاور مع دمشق قبل اعطاء نتيجة نهائية تتناقض تماما مع تصريح فيصل مقداد نائب وزير الخارجية السوري وعضو وفد النظام بأن الوفد يمتلك كل الصلاحيات ومخول باتخاذ جميع القرارات. وفد النظام رفض منذ انطلاق المفاوضات جدول النقاش، فنجح في زرع الشكوك لدى وفد المعارضة فيما يتعلق بالحديث عن هيئة الحكم الانتقالي بإصراره على مناقشة موضوع مكافحة الإرهاب، مع اشتراطه عدم الانتقال إلى نقطة أخرى ما لم يعط البند مناقشات وافية ومستفيضة وفق تعبير بشار الجعفري رئيس فريق النظام في التفاوض.

الإبراهيمي تصدى مرارا لبشار الجعفري ومحاولاته المتكررة إغراق المفاوضات في التفاصيل، فحين اعترض هذا الأخير على بند ‘مؤسسات الدولة بين الاستمرارية والتغيير’ بحجة أنه غير وارد في جنيف 1 مطالبا بحذف مصطلح ‘التغيير’ خاطبه الإبراهيمي قائلا: ‘موضوع الإرهاب الذي تصرون على طرحه هو أيضا غير موجود في جنيف 1.. من فضلك يكفي مماطلة’.. ثم التفت إلى وفد المعارضة و قال لهم ‘من حقكم أنتم أيضا أن ترفضوا وجود بند الإرهاب في جدول الأعمال لأنه غير موجود أصلا في بيان جنيف 1′

قطار الإبراهيمي انطلق من جنيف ووصل إلى محطته الباريسية في الموعد.. فمتى ينطلق قطار جنيف 2 نحو محطة الحل السورية ليصل في الموعد الذي يريده الشعب السوري.. ودون تأخير؟!.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى