صفحات العالم

ثمن بحجم دولة

 


احمد عبد

لم يعد الامر بحاجة الى دليل اضافي لنعرف ما الذي تستطيع ان تفعله الميليشيا عندما تسلم اليها مفاتيح الدولة أو عندما يترك لها حبل القانون مرتخيا، الشيء الذي يعطيها فرصة ذهبية تحفزها وتستثمرها لسحب الدولة برمتها وبكل تنوعاتها الى خرائطها البدائية المسلحة، الى كهوفها وحروبها الانتحارية المغامرة تحت رايات المقدس الذي اصبح مقصلة لكل من يختلف معها.

ما جرى في لبنان وفلسطين والعراق يعطينا دروسا واضحة عن الكارثة الماحقة التي يمكن ان تصنعها وتغرزها الميليشيات في جسد الدولة، حتى لو ادعت هذه الميليشيا او تلك بأنها تعمل من اجل الصالح العام أو انها تحمل في حقائبها ملامح اجندة وطنية خالصة لايجاريها أحد ما بأهدافها النبيلة!!.

لا شكّ أنّ كل الفعاليات التي تقوم بها الميليشيا تنحصر ضمن اطار ثوابتها الطائفية أوالايديولوجية الضيقة، وبالتالي فانها تصب أولا وأخيرا في مصلحة اذكاء نار تلك الثوابت بأية وسيلة حتى لو كانت على حساب الاخرين كما فعلت ميليشيا حزب الله عندما ادخلت الجسد اللبناني كله في انفاق حربها المفتوحة الشخصية مع اسرائيل، تلك الحرب التي تحولت بوصلتها لاحقا الى مقاتلة شركاء الدولة وانتهاك شرعية الدستور والانتخابات ومحاولة التهام الدولة بكل مؤسساتها وقوانينها، تلك الحرب التي استعارت ميليشيات أخرى نبرتها المتهورة والمفلسة وغير المجدية، وهذا الشيء ينبهنا الى خطورة منح أية ثقة – مهما كانت فقيرة – الى أية ميليشيا لانها ستنقلب حتماً على كل شريك أو مختلف او معارض او حتى على ذلك الذي منحها تلك الثقة.

لا تؤمن الميليشيا بكيان اسمه الدولة المدنية ولا تؤمن بعقد اسمه الدستور، لان وجودها سينتفي بوجودهما، لذلك فهي لا تستطيع مطلقا ان تحكم وتدير دولة بشكل عقلاني حتى لو وصلت الى سدة السلطة عن طريق الانتخابات الشرعية كما حصل مع حركة حماس التي لم تتحمل استنشاق هواء الحكم من دون رائحة البارود والفوضى واراقة دم المختلفين معها، ما يرفع الغطاء بشدة عن النزعة العصابية والاقصائية والعنيفة التي تحكم ذهنية اية ميليشيا مهما حاولت أن تتلفع بشعارات تناقض نزعتها تلك.

إنّ ذهنية الميليشيا تسكن طبعا في أرض ما قبل الدولة المدنية الحديثة، هي ذهنية بدائية حربية انقلابية لا تعتاش الا على الفوضى واعلاء أبجدية السلاح، وهذه الذهنية هي التي دفعت ميليشيا حركة حماس مثلا الى أن تقوم بانقلاب عسكريّ أكل قطاع غزة بشكل خاطف على الرغم من انها تتربع على قمة السلطة التنفيذية، الامر الذي يؤكد لا معقولية تلك الذهنية الميليشياوية ويدفعنا الى ذروة الاستغراب لانه من الجنون المطلق والمطبق أن تقوم سلطة ما بالانقلاب على نفسها.

إنّ المراهنة على ذهنية الميليشيا في حكم الدولة تشبه بالضبط المراهنة على ميكانيكي لاجراء عملية جراحية في الدماغ، فمن البديهي ان تكون تلك العملية مشفوعة سلفا بالفشل الساحق.

تحمل الميليشيا في جيوبها دائما كارتات ذرائعية تشهرها بشكل موتور لتبرير اهدافها وافعالها ولاسكات كل من ينتقدها، وهذه الكارتات قد تتبنى ذريعة (مقاومة الاحتلال!!)، او ذريعة حماية بعض المناطق من الارهاب، أو توفير الخدمات للناس، غير أنّ اخطر ذريعة يمكن ان ترفعها الميليشيا هي الادعاء بانها تملك تفويضا الهياً يتيح لها النطق باسم المقدس وتأسيس (جيش عقائديّ) للدفاع عنه، وتحت ظلال كل تلك الذرائع لا تكفّ الميليشيا عن المطالبة بالثمن رغم أنّ ما فعلته مجرد اجتهاد لا يحظى بالاجماع.

لا يمكن أبدا أن نثق بأية ميليشيا مهما قامت به من أفعال تحاول أن تبدو ايجابية باستثمارها لبعض الشعارات الخادعة، لكن تلك الافعال تخبىء خلفها مطلبا وحشيا ضاريا وهو رغبة الميليشيا بخضوع كل مكونات المجتمع ومؤسسات الدولة الى صولجانها الكهفي والى رؤيتها الاحادية القاصرة والقامعة للآخر.

كل ميليشيا تدعي بانها تقدم شيئا للناس ستطالب حتما بثمن هذه الخدمة مستقبلا والثمن في أغلب الاحيان باهظ وفادح، فما تقوم به الميليشيا أشبه بمن يقدم حبة براسيتول لرجل مصاب بالصداع ليقوم بعد ربع ساعة بتطريز جسد ذلك الرجل بالرصاص لانه اختلف معه بالرأي.

إنّ كل شيء تدعي الميليشيا تقديمه للناس تتسع معه شهوتها الاستحواذية وتطالب بالتهام جزء اضافي من كعكة الدولة حتى تصل الى مبتغاها الظلاميّ الرئيس: التهام الدولة كلها.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى