صفحات سورية

ثنائيات الخطاب الرسمي السوري والمساحات الرخوة فيها

 


عبد الحكيم أجهر

من يتتبع الخطاب الرسمي السوري حول الأحداث في هذا البلد يلاحظ اللغة المزدوجة التي استعملها هذا الخطاب وصاغها على طريقة ثنائيات متقابلة ومتضادة.

فالخطاب الرسمي الأول الذي صدر عن النظام والذي ظهرت فيه بثنية شعبان وكرره وزير الخارجية وليد المعلم في لقاءاته مع الوفود الأجنبية يتلخص في الثنائية التي تقول إن مايجري في سورية هو وجود مندسين وسط مواطنين يحملون مطالب مشروعة. الثنائية تفترض أن هناك تجمعات لمواطنين حملت مطالب معترف بها ولكن بعض المندسين دخل بين هؤلاء الناس ورفعوا شعارات حرفت التجمع عن أهدافه الأصلية.

الخطاب الرسمي الثاني كان على لسان الرئيس بشار الأسد وقد اعتمد على الاستراتيجية نفسها في تفسير الأحداث وفي طريقة معالجتها أيضاً، فاثنائيات لم تقتصر على التشخيص بل على كيفية التعامل مع الأزمة كذلك. في هذا الخطاب يمكن أن نذكر ثلاثة ثنائيات أساسية، الأولى ثنائية الإصلاح والمؤامرة، أي أن هناك ضرورة للإصلاح ولكن هناك أيضا مؤامرة، وسوريا (النظام) مستعدة بل إنها ترحب بالمعركة ضد المؤامرة، والثنائية الثانية هي قِدم الإصلاح من طرف وراهنيته في الوقت عينه من طرف آخر. فالإصلاح في القول الرسمي في سوريا فكرة قديمة، ومطالب الشعب تم الاستجابة لها ولكن الأولويات منعت من تطبيق هذه الإصلاحات، وفي الوقت نفسه الإصلاحات راهنة جداً بمعنى أنه يجب تطبيقها الآن وعدم التأخر فيها. والثنائية الثالثة هي ثنائية السرعة والتسرع، ذلك أنه رغم راهنية الإصلاحات وضرورة تطبيقها السريع إلا أنه يجب عدم التسرع في هذا الأمر.

إن تأملا بسيطا في هذه الثنائيات يكشف بسرعة ما يمكن تسميته ببنية هذا النوع من الخطاب، فهذه الثنائيات تترك بين أطرافها مساحات واسعة جداً من المناطق المبهمة والتي تقبل التشكيل والتأويل بأي صورة وبأي صيغة ممكنة. و تصميم هذه الثنائيات لا يعود إلى براعة علمية لصاحب الخطاب ولا إلى بلاغة لغوية، بل ببساطة إلى الميل العفوي لقائله الذي يتجلى في التملص من تقديم خطاب واضح يشكل إلزاما لصاحبه.

إن تلازم هذه الثنائيات يجعل من غير الممكن للمرسل والمتلقي أن يؤسسا تواصلاً مفهوماً ومنتجاً، ذلك أن أي استيضاح للخطاب يعتمد على أحد مفرداته يرميك فوراً إلى نقيضه ويجهض المفردة التي اتخذتها مرجعية لديك، لأن تلازم الثانائيات لايسمح أصلاً بخطاب واضح يمكن الحوار على أساسه. فإذا اعتمدت في فهمك على واحد من أطراف هذه الثنائيات: مثلاً، المطالب المشروعة، راهنية الإصلاح، ضرورتة وضرورة سرعته، ترى أن فهمك قد لُجم فوراً بواسطة الطرف الثاني من الثنائيات الملازمة لها، إذ تجابهك فوراً مفردات المؤامرة، الاندساس والتسرع.

إن قولك مطالب مشروعة مقضي عليه بفكرة الاندساس، وقولك بضرورة السرعة مردود عليه بضرورة عدم التسرع. وبذلك تصبح المطالب المشروعة مجهضة بسبب وجود مندسين لايجب أن نقدم لهم ما يريدون خصوصاً أنهم يتحركون بفعل مؤامرة خارجية، وتصبح ضرورة السرعة مشلولة بنوايا البطء والتسويف تحت عنوان عدم التسرع، وإذا طالبت صاحب الخطاب بقوله إن الإصلاح أمر راهن أكد لك ذلك ولكنه أرفق القول بالمفردة المقابلة وهي بأننا نعرف أهمية الإصلاح ونعرف راهنيته ولكن هناك أولويات قد تجعل من الراهنية شيئاً يمتد زمنياً إلى مالانعرف.

أما ثنائية السرعة والتسرع فهي من أكثر الثنائيات رخاوة، إذ يستحيل على شخص ما أن يميز بينهما، ويضع حدوداً فاصلة بين المفردتين ذات الأصل اللغوي المشترك. إنها ثنائية رغم كل ماتوحي به وتتضمنه من فكرة الزمن إلا أنها أكثرها مضيعة للزمن، لأن كل شيء على الإطلاق بدون استثناء يمكن أن ينتمي إلى هذه أو تلك، أي شيء يمكن أن يوصف إما بالسرعة أو التسرع، إنها ثنائية تشرع زمناً مائعاً لانهائي. فالإصلاح قد لايأتي في عام ولا في خمسة أعوام وربما لا يأتي أبداً، لأن مجيئه حسب ماتقرره الجهات المعنية قد يكون متسرعاً. ولايقف الأمر عند هذا الحد، فهده الثنائية تسمح بكل مرونة أن تقسم الشيء ذاته وفقاً لها، مثلاً بين إصدار القانون وتطبيقه، إذ قد يصدر القانون على الورق ولكن سيبدو تطبيقه متسرعاً ولامانع من تأجيل هذا التطبيق، أو قد تصل هذه الثنائية إلى حدود تقديم الشيء والتراجع عنه إذا اكتشفت الجهة المعنية أن طرحه كان متسرعاً. ولعل هذا مانراه اليوم، فقانون الطوارىء رُفع نظرياً ولكنه لم يحظ بأي تطبيق على الأرض بل على العكس صار هناك ممارسات ممعنة في حرمان المواطن السوري من أبسط حقوقه بما في ذلك حق الحياة، وهو أمر يتعارض مع نظرية رفع قانون الطوارئ بل يتجاوزه، وربما المنطق الضمني يقول في هذه المسألة إن التطبيق لا يجب أن يكون متسرعا رغم الإعلان النظري.

من جهة ثانية فإن الثنائيات الأخرى تترك التأويل المزاجي مفتوحا لأقصى درجاته لأن المساحة الفارغة المتروكة بين طرفي الثنائية تسمح بذلك بكل بساطة، فثنائية قِدم الإصلاح (خطاب القسم، مؤتمر الحزب 2005) وراهنيته، تجعل من الإصلاح وعداً قابلاً للتأجيل بصورة دائمة، فالنظام يدرك أهمية الإصلاح منذ زمن بعيد ويدرك راهنيته ولكن هذا الراهن يصبح فوراً شيئا من الماضي، يصبح قديماً تحت أي ظرف كان، لأن أي شيء مهما كان سيجد له مكانا بين قدم فكرة الإصلاح وبين راهنيته، فتصبح فكرة الإصلاح كلها عبارة عن راهنيات متحولة إلى ماض، ويصبح الماضي شيئا قابلا لأن بيتلع أي راهن، والماضي الذي ابتلع الراهن مرة بيتلعه مرة ثانية ثالثة. والمفارقة هنا أن هذا الإصلاح الذي كان مُدركاً منذ وقت مبكر وهو راهن جداً، لم يتم تكليف أحد بدراسته أبداً ولا وضع تصور ما عنه، إذن كيف نفهم العلاقة بين الإدراك القديم وبين راهنية وضرورة الإصلاح الآني.

أما ثنائية المطالب المشروعة من جهة والمندسون من جهة ثانية، فإنها بدورها تفتح الباب لكل تفسير وكل اجتهاد وكل ممارسة من أي نوع كانت. إن الأمر ببساطة هو في إطلاق اللفظ على الحالة المرادة بطريقة تخضع لمزاج قائلها أكثر من الالزام المنطقي المفترض، إذ يمكن تسمية أي حالة بالمندسة لأن هلامية العلاقة بين اطراف الثنائية تسمح لكل طرف أن ينتقل للطرف الأخر بسهولة ويأخذ مكانه بدون مساءلة، فالمطلب المشروع يمكن تسميته بالمندس. بالإضافة إلى أن هذه الثنائية شكلت أرضية يمكن التحميل عليها، فإذا طور المطلب المشروع من أدائه وقدم نفسه على أنه مازال صاحب مطلب مشروع ويتحدث بلغة تنفي كل مايخالف ذلك، يصبح على الطرف الثاني من الثنائية أن يطور نفسه أيضاً لكي يتمكن من القضاء على الطرف الأول، فالاندساس يصبح مجموعات فلسطينية أصولية ثم يصبح إخوان مسلمين ثم يصبح مجموعات سلفية إجرامية مسلحة. الطرف الثاني من الثنائية يتسع بالتدريج لكي يخفي كلياً الطرف الأول الذي هو المطالب المشروعة. اليوم لم نعد نسمع بكلمة المطالب المشروعة، لقد سقط كلياً هذا الطرف من المعادلة، ولم يعد هناك سوى الاندساس ومترادفاته من أصولية إسلامية وسلفية مسلحة، هذا الطرف يتطور مع الحاجات الأمنية التأويلية.

إن خطاباً يقدم نفسه بهذه اللغة يمكن وصفه بخطاب الفراغات المتروكة عن عمد كي يتم ملئها بالتأويل الذي يناسب أصحاب هذا الخطاب وبالطريقة التي يريدونها. إنه خطاب يخلو من المنطق ومن الإلزام ومن الوضوح، وهذا هو القصد الأساسي منه. إنه بعبارة أخرى خطاب يعترف بالشيء وينكره في اللحظة ذاتها، وخطاب يجعل من تلازم أطراف الثنائية هوة عميقة يسقط فيها أي طرف وينهض منها أي طرف.

لقد أدى هذا الخطاب إلى تغييب صريح لأحد أطراف الثنائيات لصالح الطرف الآخر، فقد غابت فكرة المطالب المشروعة وغابت فكرة السرعة وفكرة راهنية وضرورة الإصلاح لصالح الطرف الثائي، المؤامرة، السلفية، التسرع. إنه بكلمات أخرى خطاب يقول كي لايقول، ويتفوه ليعلن الصمت، ويترك مساحة واسعة لوسائل غير اللغة كي تنطق مستندة على سند نظري كامل من التبرير القائم على تأويل الثنائيات الرخوة في الاتجاه المراد. إنه خطاب فتح منذ البدء التبرير النظري التام لكل أشكال العنف وألغى منذ اللحظة الأولى المنطق والوضوح والالتزام.

أستاذ جامعي سوري

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى