صفحات سورية

ثوار سورية كسروا «الصورة الثابتة»… وثنائية المعارضة

عمار عيروطة
جليٌّ أنَّه في سورية الآن تُولَدُ سورية جديدة. أبرز صفاتها أنها مفتوحة على الحركة. حقيقية وحيَّة، وممتنعة عن التراجع. في «بلد الممانعة» معادلاتٌ لم تألفها هذه البلاد سابقاً، خصوصاً خلال حكم الأسد الأب وما تبعه من حكم ابنه الوريث. الحاكم بروح الوالد الغائب. نظام الأسد لم يكتفِ بتحويل سورية إلى «مملكة للصمت»، بل حاول أن يجعل منها فوق ذلك «مملكةً للسكون» أيضاً. باكراً حاولت هذه السلطة ما استطاعت فُرض حالة من «الثبات» على كل شيء في سورية. على السياسة والثقافة وعلى حياة المجتمع وصراعاته الطبيعية. عملت تحديداً على تعطيل الحركة الطبيعية لمجتمع يتشكّل في دولة حديثة ناشئة. يُرجح أن هذا كان تعبيراً عن رغبة سياسية لدى الحكّام في التقاط «صور ثابتة» للسوريين، وتأبيدهم داخلها.
تعتمد هذه الرغبة السياسية على حقيقة أن قراءة الثوابت والتعامل معها أكثر سهولة من قراءة المتغيرات وحكمها. فدوام السوريين ثابتين في حالهم، يظهر دوام السلطة ثابتة أبدية طبيعياً أيضاً.
السلطة التي خلقت هذه «الصورة الثابتة» كطريقة نظر للمجتمع صدّقت هذه الصورة أيضاً. وعمّمت لأنها سلطة متحكّمة منطقاً سكونياً في النظر والقراءة، تولَّدت عنه «صور ثابتة» عديدة وميتة، فصار عند السوريين عموماً صور ثابتة عن دولتهم. كما غداً عند مجموعات السوريين الإثنية والطائفية وحتى الثقافية والسياسية صور عرقية وطائفية ومناطقية ثابتة ومختصرة عن بعضها البعض أيضاً.
مع ذلك بقي أنه لا يمكن إيقاف حركة مجتمع بشكل كامل. وإن كان من الممكن تصويره على أنه في حالة سكون مطلق. بينما يمكن للسلطة أن تصدّق «الصورة الثابتة» التي التقطتها للمحكومين وأن تغرق بعد ذلك في الثبات والتكرار، وفي وهم الأبد. هذا يعني أن صورة النظام في مخيّلة محكوميه (عصبوي ولا يتورع عن اقتراف أي جرم إذا ما تهددت سلطاته) حقيقية، وتطابق واقع النظام أكثر بكثير مما يطابق المحكومون صورتهم التي التقطها لهم النظام ورعاها (متخلّفون ومتناحرون دوماً، ولا يستأهلون الديموقراطية وحقوق الإنسان) وتعامل معهم على أساسها. هذه «الصور الثابتة» لم تغِب عن مجريات الثورة السورية بالطبع، ولا عن سياسة النظام في ردود أفعاله. على العكس، أثبتت هذه المجريات تجذّر الصور النمطية ومنطقها السكوني في بنية النظام وذهنيته. قد لا يتّسع المقام لتقصي كل أثارها بالتفصيل وكل الأنماط التي أفرزتها. لكن عموماً يظهر ذلك واضحاً في خطاب السلطة الذي احتقر المنتفضين، وبادر سريعاً للحديث عن حروب طائفية ومؤامرات خارجية وضرب للوحدة الوطنية وللاستقرار. الاستقرار الذي هو بأسوأ مدلولاته وأكثرها ابتذالاً، معشوق السلطة.
ولم يقتصر تأثير هذه «الصور الثابتة» على السلطة وسياسييها، بل تعداها ليؤثر في بعض النشطاء والمتحدثين المعارضين لها. وخصوصاً في ما يقترب من مواضيع مرهوب التعامل معها والتساؤل حولها في سورية. كالطائفية ومدى فئوية الاحتجاجات، وبما يتعلق بعسكرة الإنتفاضة والتدخل الخارجي.
منذ بداية الحراك، ظهر نمط يمثّله بعضٌ من المعارضين التقليديين، ومال هذا البعض إلى استبطان الطريقة التي يرى فيها النظام شعبه (إن لم يكن مشاركاً في تكريسها). كما مال إلى الركون السهل لها وللنظر على أساسها، فأنكر هؤلاء على الإنتفاضة صدقها أحياناً، ونفوا في أحيان أخرى إمكانية أن تقود البلاد نحو تغيير حقيقي لأسباب تتعلق بعدم نضج الظروف أو بشروخ في البناء الوطني. أي إنعدام الصلاحية عند الشعب. كما لم يتردد بعضهم الأكثر نكوصاً في وضع العلّة والمرض، تلميحاً وتصريحاً، في «هوية» المناطق المنتفضة. والتي بتأثير من تصوراتهم الجامدة لم يروا فيها إلا «بؤر تخلّف دينية أو مناطقية». هؤلاء مثلاً قرروا بنسب متفاوتة أن هذه الإنتفاضة طائفية ومسلّحة وتهدف لاستجلاب التدخّل الخارجي. وكل ذلك جوهري فيها. أما شعاراتها «لاءاتها» التي رفعتها لشهور، فلا تعدو كونها تورية على «حقيقة الشعب». بالنهاية وقف بعضهم مع النظام من دون لبس وبعضهم الآخر ناصره موضوعياً.
هنالك نمط آخر من أصحاب «الصور الثابتة»، يختلف عن النمط السابق ويتمثل في «تنويعة» من معارضين تقليديين أيضاً، وشباب وطلاب إضافة الى ناشطين مدنيين دخلوا الشأن العام خلال السنوات الأخيرة. هؤلاء حاولوا الإشتغال والإنشغال بالإنتفاضة بهدف إسقاط النظام. جرّبوا باكراً ميادين الإنتفاضة بنسب متفاوتة، ورفعوا «لاءاتها» الثلاث بكل صدق، وبعضهم تعرّض للإعتقال والتعذيب. ولأنهم خبروا عن قرب مدى افتراء خطاب النظام، ومدى قلة أفق بعض المعارضين التقليديين، إلتقطوا «صورة ثابتة» مختلفة ومعاكسة. وضعوا الشعب وانتفاضته فيها. وأيضاً بصيغة جوهرية وبدوافع «قيمية» قرروا أنه، لا يمكن وجود طائفية في سورية إلا عند النظام، وأنه لا سلاح سيخدم الثورة، وطبعاً أبدوا رفضاً قاطعاً للتدخل الخارجي.
ما حصل، أنه وبعد استمرار النظام في الضغوط الوحشية على المناطق المنتفضة طوال عام، وما تبع ذلك من ظهور نتائج وردود فعل على عسف النظام، تمثلت في المظاهر المسلحة التي تبدو اليوم أكثر تنظيماً وعضوية، وفي المشاكل ذات التمظهر الطائفي التي برزت في مناطق سورية، إضافةً إلى تزايد رغبة شعبية بإشراك الخارج في الشأن السوري طلباً للخلاص.
بعد ذلك كله وبالتزامن معه، صارت تهتز عند هؤلاء الشباب والناشطين «الصورة الثابتة الجديدة» التي وضعوا الشعب السوري وانتفاضته فيها. فبدا عديد منهم شقيّاً. البعض حاول فهم الظروف الجديدة، فيما راح بعضهم الآخر ينكر الواقع المتطور للإنتفاضة ويقصيه. وآخرون لاحقوا الأحداث بالتبريرات من دون محاولات تأثير. فيما أبدى البعض قبل تبرّئه من الإنتفاضة إمتعاضاً وصدمةً بالشارع و «بخيانته له ولنفسه وللاءاته الطاهرة»!
يبدو أن من المناسب أن نتعامل مع هذه المسائل باعتبارها متغيّرات حيّة تشبه حرارة الجسد. لها منسوب يرتفع وينخفض تبعاً للظروف الداخلية والخارجية. النظر لها بهذه الطريقة يبرز مدى أهمية الفعل داخل الثورة، ومدى مسؤولية المتخوفين. تستمر هذه الصور الثابتة وغيرها في التآكل مع استمرار الثورة ومع قفز السوريين إلى الضوء من جديد.
هم اليوم سوريون جددٌ بعيدون عن النمطين السابقين. يتظاهرون خارج سيطرة النظام ويقلصون هذه الســـيطرة في مناطقهم، يتابعون السياسة وشؤونها في كل لحظة ويرفضون ويقبلون من دون أوصياء، ويتضامنون في ما بينهم بوسائل جديدة ومبتكرة.
يمكن القول إن سورية تعود إلى الحياة لأن أهلها عادوا أحياءً خارج إطارات الصور والأنماط، حتى بأخطائهم وعثراتهم التي صارت حيّة وصار من الممكن التعامل معها. التعامل معها سيكون معقداً وأكثر صعوبة طبعاً، لكن هذه معالم الحياة. الأموات لا يتعثرون ولا يخطئون!
الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى