صفحات الرأي

ثورات أم حروب أهلية؟/ بدر الإبراهيم

 

ليس هناك تحديد، أو تعريف علمي دقيق، لمفهوم الثورة، ولا يمكن الزعم أن المحاولات التي جرت لتعريف هذا المصطلح وصلت إلى مستوى التعريف العلمي. كما أن استخدام المصطلح في توصيف الأحداث لم يخضع يوماً لمقياسٍ دقيق، يُوضِّح متى يصل تحركٌ ما إلى مستوى الثورة. لكن مقاربة المفهوم ومحاولة تدقيقه تظل أمراً مهماً ومشروعاً، ويمكن الولوج إلى مقاربته باستخدام كلمتين مفتاحيتين: التمرد والتغيير. الثورة، بعيداً عن التوصيفات الأيديولوجية التي تجعلها أمراً إيجابياً وفعلاً سامياً، أو أمراً سلبياً وفتنةً وخطراً، هي تمرد من خارج النظام القائم، يسعى إلى تغيير هذا النظام، واستبدال شرعيته بشرعية جديدة. إنها بوضوح تمردٌ يسعى إلى تحقيق الانتقال بالمجتمع من حالٍ إلى حال، عبر تغييرٍ في بنية النظام، لا مجرد إصلاحه من الداخل، أو تعديل توزيع الحصص فيه.

هذه المقاربة واسعة بالطبع، وهي تتسع لأنواع مختلفة من التمرد، وتقدم توصيفاً للتحرك الثوري المتمرد على المنظومة القائمة، وليس تمجيداً له، فليست كل الثورات مجيدةً بالضرورة، والتمجيد من عدمه يعتمد على الموقف من أهدافها ومشروعها ومطالبها. أيضاً، لا يقتصر الحديث عن الثورات على ثوراتٍ ناجحة، ففي التاريخ ثورات فاشلة، مثل ثورة الفلاحين في ألمانيا بقيادة توماس مونزر، وثورات فاشلة عديدة في تاريخ الصين. ولا يؤثر شكل وطبيعة النظام البديل الذي تنتجه الثورة في إطلاق وصف الثورة عليها، فقد يكون البديل أفضل، أو أسوأ، فالمهم أن تحصل عملية استبدال وتغيير للنظام القائم، لكي تنجح الثورة وتتحقق.

“الأطياف الاجتماعية قد تكون مؤيدة للتمرد، وقد تعارضه، أو تقف على الحياد في مقابله، وكلما كان تأييد الفئات الاجتماعية المختلفة الأقلية الثائرة كبيراً، حازت شرعية أكبر وفرصاً أكثر للنجاح”

تاريخياً، قادت الأقلية الثورات والتغيير، وهذه الأقلية قد تكون ممثلةً لأطياف اجتماعية واسعة، وقد لا تكون، وهي قد تنتهج نهجاً سلمياً، عبر خروج جماهيري واسع ضد النظام (بغض النظر عن عدد المتظاهرين والمحتجين الذي يُشغل بعضهم بلا معنى)، أو تتسلح في مواجهته، وتستخدم العنف لتغييره. وفي كل الأحوال، هذه الأقلية الثائرة ليست “الشعب”، حتى وإن تحدثت باسمه، فالشعب لا يمكن أن يكون كتلة واحدة، بالشكل الذي نسمعه في خطاباتٍ سياسية، تستسهل الحديث باسم الشعب، فالأطياف الاجتماعية قد تكون مؤيدة للتمرد، وقد تعارضه، أو تقف على الحياد في مقابله، وكلما كان تأييد الفئات الاجتماعية المختلفة الأقلية الثائرة كبيراً، حازت شرعية أكبر وفرصاً أكثر للنجاح.

غير أن هذا كله لا يكفي للتمييز بين الثورة والصراع الأهلي، وإذا كان الصراع الأهلي صراعاً بين مشاريع سياسية، يحملها أهل المجتمع الواحد، ومشكلة سياسية بين الفئات الاجتماعية المختلفة تُتَرجم بالحرب، فإن الثورة يمكن أن تكون صراعاً أهلياً بين أهل السلطة وأهل المعارضة، والتداخل بين الثورات والحروب الأهلية كبير تاريخياً، ومن الصعب التمييز بينهما.

في حالة المشرق العربي، ربما يمكن الحديث عن فَرْقٍ يُغَلِّب أحد المفهومين في توصيف الحدث، وإن كان هذا الفرق غير حاسم، فالثورة تكون العنوان الأبرز للحدث، حين يبقى التناقض الرئيس في المشهد بين التمرد والسلطة، من دون انخراط المكونات الاجتماعية، مباشرة وبشكل واسع، في الصراع، إذ عندما تنخرط هذه المكونات في صراع مسلح، وتتوزع على طرفي الصراع، يصبح العنوان الأبرز للحدث الحرب الأهلية. وهذه تنشأ نتيجة تصادم الفاعلين السياسيين، ومع الشحن والتعبئة على أساس الهوية، وانخراط المجموعات الأهلية في الحرب، تنتقل المسألة من الصراع على السيطرة إلى هوس البقاء وتدمير الخصم، وتنتج بشاعات عديدة، مثل جرائم الكراهية، والقتل على الهوية، فينقسم المجتمع.

كل ما سبق يتعلق بالتوصيف، الذي، بدوره، يظل حالة تقديرية، لكن الأهم هو تقييم حالة التمرد أو الثورة واتخاذ موقف منها، وهذا يعتمد على خطابها ومشروعها، فالثورات العربية حين انطلقت عام 2011، انحاز إليها قطاع واسع من الجماهير والنخب التي تتماهى أفكارها مع شعارات هذه الثورات ومطالبها، لكن التحولات التي تطرأ على بعض هذه الثورات، والانقسامات التي تُحدثها، تجعل التقييم واتخاذ الموقف أكثر تعقيداً. يظل التقييم مرهوناً بالمشروع السياسي، فحين يتبنى ثوارٌ خطاباً طائفياً تقسيمياً، مثلاً، فإن من يتبنى مشروعاً وطنياً جامعاً لن يؤيدهم.

يبقى السؤال: من يتحمل مسؤولية ذوبان الثورات في بحر الحروب الأهلية في منطقتنا؟ أطراف الصراع تتحمل جميعها المسؤولية، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة، وصحيحٌ أن من في السلطة يتحمل المسؤولية الأكبر، لكن تحميل السلطة المسؤولية يُستخدم من بعضهم في تبرير ردة فعل المعارضة، وتالياً تبرير الحرب الأهلية، وتُقَدَّم تحليلات متهافتة في هذا الشأن، لا ترى فاعلاً في المشهد إلا السلطة، مجرّدةً المعارضة من إمكانية الاختيار، ومصوّرةً رد فعلها أمراً حتمياً، وكأنها مسلوبة الإرادة تجاه ردة الفعل الميكانيكية هذه، ما يجعل تبرير كل سلوكياتها سهلاً.

هناك فرق بين خطاب ثوري يُطَمْئِن المكونات الاجتماعية كافة، بلغة وطنية، ويسعى إلى كسبها، أو تحييدها على الأقل، في صراعه مع السلطة، وخطابٍ ثوري يستعدي المكونات الاجتماعية، مستخدماً لغة فئوية طائفية، ويدفعها دفعاً للانخراط في حربٍ أهلية تأييداً للسلطة. في الحالة الثانية، يجتمع الغباء السياسي مع المسؤولية المباشرة عن حصول الحرب الأهلية.

يصر بعضهم على سرديةٍ ثوريةٍ رومانسيةٍ للصراع الأهلي في المشرق، لكن الوقائع أكثر تعقيداً من كل تفكيرٍ رغبوي.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى