صفحات سوريةمنير الخطيب

ثورات «ربيعية» ومقاربات دولية ونتائج متشابهة! منير الخطيب

 

 

ثلاثة بلدان هي ليبيا واليمن وسورية، حكمتها، طوال عقود، ثلاثة أنظمة تنتمي إلى المصفوفة «الثورية». شهدت الدول الثلاث ثورات كانت بداياتها سلمية تنشد الحرية والكرامة وإسقاط الاستبداد، تعاملت القوى الدولية النافذة مع هذه الثورات وفق ثلاث مقاربات. في الحالة الليبية، تدخل حلف الناتو عسكرياً، وبغطاء من الجامعة العربية، وأسقط النظام. في الحالة اليمنية، أوجدت الدول عينها حلاً سياسياً أدى إلى رحيل عبدالله صالح. في الحالة السورية، لم تتدخل تلك الدول لإسقاط النظام عسكرياً، ولم تضغط لإيجاد حل سياسي ينهي النكبة السورية.

على رغم اختلاف المقاربة الدولية للحالات الثلاث، فالنتائج التي أفصحت عنها التطورات في هذه البلدان تتشابه إلى حدود كبيرة، وتتمثل: بانبعاث هوياتي آتٍ من جوف التاريخ، وتهتّك في الأنسجة الاجتماعية غير قابل للاندمال في المدى القريب، وتراكب الصراعات الدولية والإقليمية مع حالات التشظي الداخلية، وطرد الفكر الوطني الديموقراطي وحوامله إلى الهوامش، وانتشار وتعمق ظاهرة فوضى السلاح والفصائل المسلحة المتنازعة ذات الطبيعة ما دون الوطنية، فيما تلوح في الأفق مؤشرات جدية تنبئ بتحول هذه الدول إلى دول فاشلة.

التشابه في المآلات على رغم اختلاف المقاربات الدولية، يضعنا أمام حزمة من الخلاصات المتصلة بالأوضاع الداخلية لهذه البلدان. الخلاصة الأولى: أدى تآكل وانهيار النظام العربي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، والقائم على مركزية السلطة المطلقة، مقابل «مجتمعات» هي عبارة عن تشكيلات اجتماعية متحاجزة، لكنها «ملصوقة» لصقاً مع بعضها بعضاً بفعل الاستبداد، إلى نفراط هذه التشكيلات، وبالتالي سقوط التعايش الهش فيها أساساً.

الخلاصة الثانية: كان فعل العناصر الداخلية الثاوية في البنى المجتمعية والثقافية المتأخرة في هذه البلدان والمتعاضدة مع الآليات القهرية لـ «الدولة – التسلطية»، حجر الرحى في سياقات الانهيار. الانقسامات الداخلية هي ما استقدم التدخلات الخارجية والإقليمية وجعلها فاعلة ومقررة.

أما الثالثة، فإن الطابع الغريزي الدموي للصراع السنّي – الشيعي، كشف عن الضرورة التاريخية لقيام حركات إصلاح ديني حقيقية لأيديولوجيتي المذهبين، تصل إلى مستوى «الثورات اللاهوتية».

الخلاصة الرابعة، أن إزالة الاستبداد ليست عملية تغيير للسلطات الحاكمة على أهميتها، بل هي أعمق وأوسع من ذلك. هي سيرورة نقد ودحض وتجاوز للثقافة التسلطيّة التي تعبر عن بنية المجتمع البطريركي وعلاقاته، وتعبر عن التحالف الموضوعي بين السلطات المختلفة فيه، بدءاً بالسلطة الأبوية مروراً بالسلطتين السياسية والدينية وصولاً إلى السلطة الذكورية وسلطة العرف.

الخلاصة الخامسة، أظهرت تلك الثورات اتجاهين متناقضين: الأول، مثله الحراك السلمي الديموقراطي، الذي كانت تحركه إرادة الحرية وتوق الخلاص من الاستبداد. الاتجاه الثاني، مثل انقلاباً على الاتجاه الأول، وكانت تحركه إرادة السلطة المعادية لإرادة الحرية، ونجم عن ذلك قيام سلطات الأمر الواقع للفصائل المذهبية المتطرفة، سنياً أو شيعياً، أو سلطة الفصائل العشائرية والقبلية، والتي عصف وجودها وصراعها بالمجال الوطني.

لقد استغرق تشكل النظام العربي المنهار عقدين من الزمن، بين 1952 و1970، ونحن الآن في قلب سيرورة تشكل نظام عربي جديد، لن تتحدد ملامحه في المدى القريب، وقد يستغرق عقدين أو أكثر أيضاً. لكن الصراع الفعلي في خضم هذا التشكل يجب ألّا يكون بين تكفيريين شيعة وتكفيريين سنّة، أو بين مقاومين وممانعين وإسرائيل والشيطان الأكبر، وليس بين قوى «الكفر» وقوى «الإيمان»، بل بين ثقافة الحرية وإراداتها و «الثقافة» التسلطية وإراداتها. الأولى تفضي إلى مفهوم التقدم ومسألة الدولة وفكرة المواطن. والثانية تفضي إلى الكارثة التي تلد أخرى.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى