صفحات الثقافة

ثورة ثقافية

رشا الأطرش

أن تعود الثقافة إلى صدارة وعينا السياسي. بل أن تُعيد الثقافة، بمفهومها الأوسع، تشكيل هذا الوعي، وصياغة نشاطه الميداني المطلبي – ولو محمّلاً بأخطار أمنية واقتصادية واجتماعية من قبيل ما تختزنه بلداننا، نحن أبناء العالم الثالث… ففي ذلك ما يستحق وقفة تأمل، وربما التماعة في عيون تشخص هذه الأيام إلى مصر وتركيا.

 كأنها انتفاضة معكوسة، تشرخ قاموسَي ماوتسي تونغ والخميني. “ثورة ثقافية” مخترعة من جديد. تماماً كما انقلبت على تاريخها المشرقي، ممارسات “ثورية” كثيرة منذ 2011… في اليمن وليبيا وتونس. لكنها في مصر أوضح، والآن في تركيا، متخففة من حديد الانقلاب وناره، من زيّ العسكر الذين قادوا البلدين عقوداً طويلة… مع فوارق الإنجازات والإيديولوجيا.

 شباب، فنانون، مثقفون، ومواطنون مسيّسون وغير مسيّسين… كأنهم ماكينة تاريخية جديدة، تفرم ورقاً كثيراً عن “الثورة الثقافية” بلونيها الصيني والإيراني. تعيد إنتاج المصطلح بلغتها الخاصة، بمعاني اللحظة والراهن، مُحرّرة إياه من “ال” التعريف الاستبدادية، شيوعية كانت أم إسلامية. كأن هؤلاء يدٌ ضخمة، عارية، مستقوية بفهم ابن عصره للحرية والفردية والفن، بل والمواطنية وحقوق الإنسان. الفهم الذي يخترق الآن السائد، بعدما طال احتباسه في دوائر النخب والمنفيين والمعتقلين والممنوعين. كأنهم يد، لا تحمل سلاحاً، بل آلة موسيقية لاحتلال مقر رسمي مصري. تنشط على صفحة إعلام اجتماعي. تستلّ من الجيب كمّامة منزلية لوجوه المعتصمين في ساحة اسطنبول – راقصي التانغو على إيقاع قنابل الغاز. ولعلها، أحياناً، تلتقط حجراً من الشارع لدرء خراطيم الشرطة التركية. أو تتكوّر في قبضة تنهال على ناشط إخواني متوعّد للفنانين، أمام وزارة الثقافة المصرية، بجنهم وبئس المصير.

 كُتّاب وموسيقيون وراقصون مصريون، يرفضون حجاب الباليه، و”أخوَنة” دار الوثائق والأوبرا، يناهضون دعاوى “الإبداع النظيف”. وشباب أتراك، بعضهم صوَّت لحزب التنمية والعدالة، واليوم يدافع عن أسلوب حياة ترمز إليه “ساحة تقسيم”، عن حرية احتساء الكحول والصحافة وارتداء الحجاب في آن معاً، عن أعياد وطنية أُلغيت دون الإسلامية، عن الحق في الإجهاض والقُبلة في مكان عام، وعن أشجار مهددة بالاقتلاع ومركز ثقافي قد يُهدم، لبناء مجمّع تجاري أو مسجد… الأشجار التي لطالما حلا، في ليالي فيئها، سهر وحب. المدينة تنتصر لنفسها. تقاتل ترييفها. المدينة تتمرن على انتخاب مدنيين، ثم محاسبتهم، بشروطها.

مثقفون مصريون يهتفون ويعزفون، وبأجساد متمايلة أو مستلقية في العراء يذودون عن سينما ومخطوطات. عن وثائق تُجمع منذ العام 1870 وباتت جزءاً معتبراً من أرشيفات العالم، وعن “عايدة” فيردي. قضايا لا تقل أهمية عن الدستور، ومجلسَي الشورى والشعب، واقتصاد عنق الزجاجة و حتى الأمن المُفتقد.

 وزير الثقافة المصري، علاء عبد العزيز، أجاب مؤخراً على سؤال صحافي عن رؤيته لإنهاء الأزمة بالقول: “لا أرى أن هناك أزمة من الأساس”. فيما وجّه رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، “إنذاراً أخيراً” لمحتلي المنتزه وسط اسطنبول، قائلاً إن “الصبر نفد”، بعد سقوط خمسة آلاف جريح ومصاب بالغاز… ثمة سلطة لا تتعلّم، فيما المجتمع يطوّر نضاله و”قادته”.

 أيقونة التحرك التركي الراهن، “ذات الرداء الأحمر” التي انتشرت صورها لحظة رشّها بالغاز المسيل للدموع، أكاديمية، واسمها سيدا سونغار. لا حزبية ولا مقاتلة ولا مناضلة بالمعنى التقليدي الراسخ في مخيلاتنا. تستكمل “الربيع”. وصحيفة “غارديان” البريطانية، حين استكتبت رأياً تركياً، اختارت صاحب إحدى أكبر دور النشر، كان أوز، الذي روى تلقيه رسائل كراهية وتهديد بالقتل لأنه شارك في “حركة المقاومة السلمية”، وأعلن: “لسنوات استسلمت لخوفي، لم أجاهر بتجاوزات المسؤولين التي شهدت، لكن كفى، لا أخشى خسارة أعمالي وثروتي وحتى حريتي إن سُجنت، لم أعد أحتمل أن أعيش بلا كرامة”.

 الازدهار الاقتصادي ما عاد كافياً، وإن كان أحد الأهداف. الفساد تحت الضوء. والحرية الفردية، بما هي ثقافة، كما الإبداع، باتت (أخيراً!) مطلباً سياسياً جدّياً في شوارع هذه الرقعة من العالم، جنباً إلى جنب مع القضايا “الكبرى”.

في مصر، مسموعة كلمات الأكاديمي خالد فهمي، كأحد صنّاع الرأي العام، هو العائد إلى وطنه إبان الثورة مستبشراً بإمكانات وطنية تُبرعم. كتب في صفحته في “فايسبوك” متضامناً مع تحرّك المثقفين ومنتقداً إياه من داخله كما يجدر بمتنوّر ديموقراطي أن يفعل: “أضم صوتي إلى أصوات المثقفين المعتصمين، المتخوفين من أخوَنة الثقافة ودارَي الكتب والوثائق القومية، لكني أختلف معهم في توصيف الدواء… أصدروا بياناً ناشدوا فيه الجيش تشكيل لجنة محايدة ومتخصصة للإشراف على دار الوثائق… الجيش يا مثقفي مصر؟ الجيش الذي نزلنا نهتف ضده في ميادين التحرير؟ الذي عرّض أشجعنا وأطهرنا لكشوف عذرية؟ الذي ضربنا بالرصاص وخراطيم المياه؟”. وبدا فهمي في تعليقه كأنه يصرخ: “دار الوثائق مفيدة، ليس فقط للأمن القومي، للحفاظ على الحدود ومنابع النيل، بل للباحثين والروائيين وكتّاب السيناريو والمهندسين… لكن هذه الدار الغنية يرتادها في اليوم الواحد أقل من عشرة باحثين، والسبب ليس الإخوان، بل تصاريح الأمن… الحل ليس في الاستعانة بالجيش، بل في إتاحة الوثائق للجمهور، في المطالبة بقانون حرية تداول المعلومات، والتمسك بالحق في البحث العلمي والاجتماع والتعبير”.

والحال إن الدار تحتوي على أكثر من مئة مليون وثيقة، لكن الرقم يفترض أن يكون أضعافاً. فتدخل الدار سنوياً مليون ونصف المليون وثيقة على الأكثر (في وطن الـ85 مليون نسمة)، إذ ما زالت تُعامل كإرث تملكه مؤسسات الدولة وحدها، ناهيك عن “قانون السادات” الذي يتيح للأجهزة والوزارات السيادية الاحتفاظ بالوثائق 15 عاماً من دون أن يطلع عليها أحد… واليوم تصوّب الانتلجنسيا على قانون “بطل الحرب والسلم”.

قد يبدو الحراك المدني، في تركيا ومصر، في مواجهة الإسلام، خصوصاً بعد وصول إسلاميين إلى السلطة. ربما يكون هناك مشترك كثير من المنظور هذا، رغم تطلّع السلطة التركية إلى الاتحاد الأوروبي، والمصرية إلى ثروات الخليج والرضى الأميركي. لكن نواته أكثف وخياله أرحب، يخطر في ربوعه حذاء باليه زهرياً، وتُنظم بقوافيه قصيدة سَكرى في ساحة عامة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى