صفحات العالم

ثورة خرساء ونظام أصم

 


غازي دحمان *

إنذار بتحول انتحاري!

ليس في الأفق ما يشير إلى حصول مقاربات نوعية للأزمة في سورية، باستثناء تلك التي تنذر بالانزلاق أكثر في دوامة العنف. فالسلطة بدا أنها استنفدت هامش الامان، واستهلكت كامل المساحة التي يمكن من خلالها قبول الحراك الحاصل في البلاد واستيعابه، ولم يبق لديها سوى الخطوط الحمر ترفعها في وجه معارضيها.

من جهة أخرى، لا يزال الحراك الشعبي يعتمد إستراتيجية التغذي من الأخطاء اليومية للسلطة، ويعتمد نمط التوالد (الصدفوي)، والذي من نتيجته زيادة الاتساع أفقياً، وبقاؤه عند المربع الأول عمودياً.

وتحمل أنماط إدارة الازمة التي تتبعها السلطات السورية، إضافة إلى التخبط الواضح في مضامينها، مخاطر جمة على الحالة السورية ومستقبلها. ذلك ان إستراتيجية مواجهة الأزمة بأزمة مقابلة (التهديد بالفتنة في مواجهة مطالب الحرية الناتجة من الانسداد السياسي المديد)، وكذلك إستراتيجية تفكيك المطالب الوطنية وتحويلها مطالب متفرقة تتم معالجتها بالقطعة، لتظهر على شكل رشاوى لفئات بعينها (إنشاء قناة دينية، وتجنيس آلاف من الأكراد) أوجدت على ضفافها أزمة أخرى فحواها أن عدم طرح السلطات استراتيجية وطنية متماسكة وواضحة والاستمرار بهذا النمط من المعالجات من شأنه ان يهز الأساس الذي قام عليه التوافق الوطني خلال العقود الماضية، ويؤسس لحالة صراعية مستقبلية واختلالات بنيوية خطيرة في أساس التوافق الاجتماعي الذي تأسست عليه الحالة الوطنية السورية برمتها.

ولا شــك في ان تــوجه الســـلطات الســورية لإحالة تطــورات الحـــراك إلى واقعة سلفية، في الوقت الذي تعدم السلطة أدلــتها على ذلك، هو نوع من تحضير مسرح الحدث لمعالجات أكثر تشدداً، ومحاولة مكشوفة لإغراق الحراك في أزمــات جديدة.

هنا، تدخل قواعد الاشتباك، واللعبة برمتها، في مرحلة جديدة تحددها السلطة، واستتباعاً، تعيد تعريف الأشياء. فالمنطقة الرمادية التي أمكن اللعب فيها في الفترة المنصرمة استنفدت كل إمكاناتها ومبرراتها، وبات اللعب محصوراً في المنطقة البيضاء (السلطة) والسوداء (الحراك)، ولا شك في أن لذلك دلالات واضحة، اهمها أن المجال السياسي المراد إصلاحه تم إغلاقه عند حدود ما رسمته السلطة من إجراءات ووعود، وهذه هي الحدود القصوى للنظام السياسي الحالي بمكوناته: حزب حاكم مترهل، وجهاز أمني يفيض بضخامة مبالغ فيها، ونظام اقتصادي مفصل على مقاس نخبة محددة.

عند هذه الحدود، يصبح أي إجراء إضافي نوعاً من هدم الأسس، كما ان استنفاد جميع الاوراق دفعة واحدة يندرج في خانة التصرفات الخطيرة. وثمة تطورات اخرى للحراك، وثمة إمكانية لضغوط دولية، تستوجب التضحية ببعض التنازلات الشكلانية، مع مراعاة عدم الإخلال بالبنية السياسية والأمنية للنظام.

والواقع، ربما في اعتقاد السلطة،، أن ما قدمته من تنازلات يتوافق ويكفي مع الحراك (الأعرج) الذي علق حتى اللحظة في أزمة عدم قدرته على إشراك مكونات الاجتماع السوري، واستحق بجدارة وصفه بـ «ثورة المساجد»، كما انه لم يستطع حتى اللحظة إقناع المراكز الكبرى، دمشق وحلب، بالمشاركة في الحراك، نتيجة للارتباط الشديد لنخبهما الاقتصادية وتوابعهما الدينية (ذات التأثير الواسع في شارعيهما) بالنظام الإداري الفاسد.

والحال، فإن هذه المعطيات تجعل الازمة السورية ذات صيرورة خطيرة. فهذا الحراك المدمى الذي يحضر شعاراته في صباحات الجمعة ويلقيها متعجلاً تحت ضربات العصي وأزيز الرصاص الحي، بقي، وبالنظر الى سماكة جدران الاستبداد والقهر ومفرزاتهما من الخوف والقلق، إضافة إلى الضعف المهول لقوى المجتمع المدني والمعارضة السياسية، عند حدود قدرات الحراكات الشعبية في منتصف القرن الماضي، وجاءت استجابة السلطات وكأنها استجابة لمطالب من ذلك الزمن، وعجز عن تطوير إستراتيجية ثورية تنقله إلى المرتبة الوطنية، وتساعده في التحرك ضمن مساحات أرحب، وهذا الأمر سهل انكشافه ووضعه في دائرة الاستهداف. ومع أن كل ذلك لن يؤدي إلى القضاء عليه، لكن بالتأكيد سيجعل فاتورته أعلى، كما ان مآلاته تنذر بالتحول إلى نزوع إنتحاري.

 

* كاتب فلسطيني مقيم في سورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى