صفحات مميزةمازن كم الماز

ثورة ذوي السراويل الطويلة: مازن كم الماز

        لم تكن الثورة السورية ثورة بيضاء , بل كانت دموية بامتياز , ربما بنفس درجة سابقتها , الثورة الفرنسية .. دفع هذا بالكثيرين ممن يدعون تأييد أفكار و شعارات كتلك التي رفعتها الثورة السورية في الحرية و وقف استباحة المجتمع لصالح سلطة ما إلى التذمر من تحولاتها تلك أو “أخطائها” .. حدث هذا من قبل في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر : كثيرون ممن رحبوا بالثورة الأمريكية اتخذوا موقفا مغايرا من الثورة الفرنسية , إما أنهم انتقدوا دمويتها أو وقفوا ضدها .. يمكن طبعا الاستطراد طويلا عن مبررات تطور الثورة السورية نحو هذا المسار الدموي : النظام نفسه , الأكثر وحشية و دموية حتى من نظام لويس السادس عشر , و خصوصيات الوضع السوري الداخلي و طبيعة حلفائه و أعدائه الإقليميين الخ .. لا شك في أن كل تلك العوامل كانت مؤثرة بالفعل في دفع الثورتين السورية والفرنسية نحو مسار أكثر دموية من مثيلاتها , لكن هناك أيضا عاملا آخر , لا يقل أهمية ربما , هو الدور الفاعل في كلتا الثورتين لمن كانوا يسمون في فرنسا 1789 بذوي السراويل الطويلة , البروليتاريا الباريسية الفقيرة , و نظرائهم المهمشين السوريين .. على غرار الثورة السورية , لم تكن الثورة الفرنسية ثورة “واحدة” , بل كانت ثورات .. التقت في المعسكر الثوري قوى اجتماعية مختلفة بل متناقضة في كثير من الأحيان , كان هناك ذوي السراويل الطويلة , الفقراء , الثوريون “المتطرفون” , و ذوي السروايل القصيرة , الحريرية : البرجوازيون , الثوريون “المعتدلون” .. بينما دعا الأولون إلى موقف أكثر حزما من “النظام القديم” , و إلى شكل أقل نخبوية و أكثر شعبية من الديمقراطية , و رفعوا مطلب العدالة الاجتماعية , و طالبوا بأسعار منخفضة و ثابتة للمواد الغذائية و بفرض ضرائب ضخمة على البرجوازيين , دعا الأخيرون إلى ديمقراطية تمثيلية تضع السلطة في أيديهم “نيابة” عن الشعب و إلى سوق “حرة” من أية قيود … يتهم مؤرخو الثورة الفرنسية ذوي السراويل الطويلة بأنهم كانوا وراء كل المجازر و المشاهد الدموية في تلك الثورة , خاصة مشاهد قطع رؤوس الأرستقراطيين و رجال الكنيسة و عرضها علنا في الميادين .. صحيح أن ذوي السراويل الطويلة تعاطفوا مع القمع الذي مارسه اليعاقبة , روبسبير و سانت جوست , ضد الملكيين و الجيرونديين أنصار المساومات مع النظام القديم و أعداء أي تغيير جذري في العلاقات السياسية و الاجتماعية السائدة , لكن ذوي السراويل الطويلة لم يدعموا اليعاقبة بالمطلق بل كانوا يعارضونهم في الواقع , يعارضون ترددهم أو رفضهم لتطبيق سياسة اجتماعية تقوم على العدالة و عارضوا أيضا محاولة اليعاقبة فرض دين جديد مؤسساتي مكان الكنيسة الكاثوليكية , عبادة الكائن الأسمى كما سماه روبسبير .. لم تكن مؤسسات السلطة الجديدة , كلجنة السلامة العامة اليعقوبية هي التي تعتمد على دعم ذوي السروايل الطويلة , بل كومونة باريس التي أصبحت معقلا للقوى التي كانت على يسار اليعاقبة , خاصة مجموعة الغاضبين , و كذلك أنصار جاك هربرت الأكثر “اعتدالا” .. و خلافا لمحاولة المؤرخين البرجوازيين وصف القمع الذي مارسه اليعاقبة بأنه كان عنفا ثوريا و أنه كان موجها في الأساس ضد خصومهم اليمينيين من ملكيين و جيرونديين , فإن ما جرى في الواقع هو أن اليعاقبة قد مارسوا القمع بنفس الحماسة و الشراسة ضد القوى الواقعة على يسارهم و التي كانت أقرب إلى ذوي السراويل الطويلة , و ضد ذوي السراويل الطويلة بالذات .. انتحر جاك رو زعيم الغاضبين بينما كان ينتظر محاكمته التي كان من المنتظر أن تنتهي بإعدامه على مقصلة روبسبير , و حتى جاك هربرت و غيره من قادة التيار الثوري الأكثر “اعتدالا” من ذوي السراويل الطويلة قضوا على مقصلة روبسبير نفسها .. كان قمع اليعاقبة قمعا مؤسساتيا , ممنهجا , دولتيا , و كان رمزه سلطويا بامتياز : المقصلة ( التي ستحرقها كومونة باريس في ثورتها عام 1871 ) , على العكس من مجازر ذوي السراويل الطويلة , الطقسية و العفوية , و التي كان الشارع مسرحها و رمزها الرئيسي .. أقضت تلك المجازر مضاجع الجميع , و أثارت مخيلتهم في ذم وحشية ذوي السراويل الطويلة , كما في كل مرة يقتل فيها البشر بعضهم البعض , ليس بأمر من نخبة أو سلطة ما , و ليس في سبيل قضية “سامية” ما , كما في معظم حروب و مجازر البشرية طوال آلاف السنوات المنصرمة .. بالعودة إلى الثورة السورية , لا شك أن للنظام السوري النصيب الأكبر في دفع هذه الثورة إلى أن تصبح ثورة مسلحة ثم صراعا أشبه بحكايات كافكا الغرائبية السوداء والعبثية , لكن الدور الرئيسي لذوي السراويل الطويلة السوريين في هذه الثورة كان أيضا عاملا مساعدا إن لم يكن رئيسيا في هذا التحول … كما أن الثورة الفرنسية لم تكن تحققا لنبوءات فلاسفة التنوير , بل أقرب إلى خيالات الماركيز دي ساد عن طقوس عنف منفلتة , كتلك التي وصفها في كتابه 120 يوما في سودوم , فإن الثورة السورية لم تكن تجسيدا لأي من إيديولوجيات القوى السلطوية التي تنتمي إلى الماضي , على العكس تماما .. ليس فقط أن الثورة السورية ليست ثورة “إسلامية” , بمعنى أنه لم يكن لرجال الدين أي دور حقيقي في إطلاقها أو استمرارها , بل أكثر بكثير من ذلك , أنها ليست ثورة نخبوية , لقد كانت في تيارها الأكثر فاعلية ثورة شعبية , ثورة ذوي السراويل الطويلة .. و لهذا تحاول القوى “الثورية” السلطوية لجم تلك القوى التي انفلتت من قمقمها في آذار مارس 2011 بأساليب مختلفة , بمحاولة تأطيرها أو تكميمها بإيديولوجيا نخبوية أو بآليات سيطرة نخبوية كصناديق الاقتراع , تحاول النخب أن تكرس فكرة أن هدف ذوي السراويل الطويلة السوريين من صراعهم المرير مع مضطهديهم الحاليين هو إنتاج السلطة التي سيخضعون لها وفقا للطريقة البرجوازية التقليدية : التنافس الحر بين النخب على السيطرة على مؤسسات القمع المرتبطة بالدولة , و بالتالي السيطرة على المجتمع .. تكمل محاولات النخبة هذه عملية التبقرط الواسعة التي تجري بتسارع بين قادة الثائرين السوريين , الذين يتحولون بسرعة اجتماعيا و إيديولوجيا إلى جزء من النخبة , و على التوازي معها عملية قلب الدين الشعبي الثوري ضد سلطة غاشمة استعملت قناعا و شعارات “علمانية” لإخفاء أو تجميل استبدادها إلى دين مؤدلج دوغمائي كهنوتي , سلطوي ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى