صفحات الرأي

ثورة في معنى “الثورة”/ حازم صاغيّة

مع قيام الثورات العربيّة، ظهرت فئة واسعة نسبيّاً من الحائرين الذين انتظروا الثورة طويلاً، فإذا بهم يُفاجأون بثورات لا تشبه البتّة ما توقّعوه. وكان ما يضاعف الحيرة أنّ هذه الثورات ثورات حقّاً، بمعنى النزول الشعبيّ الواسع إلى الساحات وإسقاط الأنظمة القائمة. فهي، إذاً، تمتلك “الجماهيريّة” التي ظُنّ قبلاً أنّها لا تتحرّك إلاّ وفق تصوّر الحائرين للثورات.

والحيرة، التي كثيراً ما تحوّلت إلى ارتداد على الثورات أو إلى إحباط بها، كان في وسع الحائرين ضبطها والسيطرة عليها لو أنّهم امتلكوا ما كان يسمّيه ياسين الحافظ “الوعي الكونيّ” ، أي لو أنّهم كانوا على بيّنة ممّا جرى في العالم الأوسع في ما خصّ معنى “الثورة” كمفهوم وكممارسة، وعلى تفاعل معه.

لقد شهد القرن العشرون العديد من الثورات والتحولات الثوريّة الممتدة ما بين ثورة أكتوبر الروسية الشيوعية في 1917 والثورة الخمينية في إيران في 1979. ففي هذه الفسحة الزمنيّة التي تواصلت على مدى ستة عقود، تحقّقت نبوءات كثيرة كانت قد ظهرت في القرن التاسع عشر، كما حدث على نطاق موسّع ومكتمل ما كان القرن السابق قد حمل تمريناته الأوّليّة. ففضلاً عن ثورة أكتوبر، وصل الفاشيّون في إيطاليا وألمانيا إلى السلطة، في العشرينات والثلاثينات، وإن وصل الأخيرون عبر برلمان ما لبثوا أن تخلّصوا جذريّاً منه. وخارج أوروبا، وعلى ضعف الصلة بسيناريوات القرن التاسع عشر، انتصرت الثورة الصينيّة في 1949 ثمّ “الثورة الثقافيّة” الماويّة في الستينات. كذلك توزّع العمل الثوريّ على مناطق عدّة ما بين فيتنام وكمبوديا وكوريا في آسيا، وكوبا في أميركا اللاتينيّة، وأنغولا والموزمبيق في أفريقيا، واليمن (الجنوبيّ حينذاك) في العالم العربيّ.

والحال أنّ المخيّلة الثوريّة العربيّة لا تزال أسيرة المعاني والممارسات التي أنتجتها تلك التحوّلات الثوريّة وتراكمت على امتدادها. وعلى رغم غلبة المقادير القوميّة على بعضها، ومقادير الاشتراكيّة، أو بالأحرى رأسماليّة الدولة، على بعضها الآخر، يبقى أنّ القواسم المشتركة بين هذه التطوّرات الكبرى، على اختلاف ذرائعها الأيديولوجيّة ومهودها الجغرافيّة، كثيرة نكتفي منها بخمسة نظنّها، في

ما يعنينا هنا، الأهمّ:

فأوّلاً، ارتبط العمل الثوريّ في كلّ الحالات المذكورة بتنظيم حديديّ و/أو زعامة كاريزميّة وبإيديولوجيا حاكمة ما لبثت أن تحوّلت، بعد الانتصار، إلى إيديولوجيا رسميّة وحيدة مالكة للحقيقة كلّها وطاردة لسواها.

لقد غدا كتابا لينين الشهيران “ما العمل” و “الدولة والثورة” إنجيلين لأغلب النشاطات الثوريّة اللاحقة. وإلى أفكار الحزب المركزيّ الديمقراطيّ والقيادة المحترفة والطليعة التي لا مكان معها لـ “العفويّة” النقابيّة والاقتصاديّة، أضاف ماوتسي تونغ نظريّاته في حرب العصابات وتأمّلاته “الفلسفيّة” في “التناقض”

و “الممارسة” ، بينما بلور موسوليني نظريّاته في الدولة، وأدولف هتلر في العِرق، بوصفهما حقيقتين مطلقتين لا تتعايشان مع حقائق أخرى.

فـ” الإيديولوجيا لا تتسامح، ولا يمكن أن ترضى بدور يكون فيه الحزب واحداً “بين أحزاب أخرى” . إنّها تتطلّب على نحو مُلحّ الاعتراف الحصريّ الذي لا يُساءل، وكذلك التحويل الكامل لجميع الحياة العامّة وفقاً لآراء الحزب” . وبهذه الكلمات التي أطلقها هتلر في 1926، وبمثيلاتها، كان الفوهرر يعلن إصراره على عدم التساكن مع أيّ حزب أو إيديولوجيا آخرين. وقد سبق لثورة أكتوبر أن منعت الأحزاب الليبراليّة والوسطيّة قبل أن تتقدّم لمنع الأحزاب جميعاً ما عدا الحزب البلشفيّ، وفي المؤتمر العاشر للحزب المذكور، في 1921، ذهبت إلى حدّ منع الأجنحة داخل الحزب الحاكم نفسه. وبدوره ففي 1981 أعلن آية الله الخميني الأحزاب المعارضة لسلطته، والتي سبق أن شاركت في الثورة “أعداء لله” ،

آمراً باستئصالها.

ثمّ إنّ القادة الذين رادوا تلك الموجات الثوريّة كانوا كلّهم زعماء فائضي الكاريزميّة، أو هكذا رُسموا وصُنّعوا، بما يضمن معصوميّتهم ويبرّرها. ولئن بلغ هذا المنحى سويّته الكاريكاتوريّة مع الزعيم الكوريّ الشماليّ كيم إيل سونغ، بقي أنّ الخطابة والسيرة لعبتا دوراً مركزيّاً في بلوغ هذه الهالة. ذاك أنّ الخطابة تؤمّن الصلة المباشرة بالجمهور، لكنّها أيضاً تؤمّن إفتانه وأفيَنَتَه في لحظة هذيانيّة من ممارسة القائد لقيادته، بل مسرَحَته لها. أمّا السيرة، وهي رسميّة بالطبع، فتروي معاناة الزعيم في سبيل القضيّة والشعب، وما دام أنّه هو الذي قاد الأمّة إلى النصر المؤزّر، أي أنّه مَن أدخلها التاريخ، باتت سيرته دليل دخول هذا التاريخ من أبوابه العريضة. ولا تخطئ العين المصدر الدينيّ في تقديم القائد على النحو هذا، الأمر الذي لا تشذّ عنه سِيَر أكثر القادة علمانيّةً أو إلحاداً.

وثانياً، وفي الحركات الثوريّة جميعها، كان هناك استسهال لإحداث التغيير من طريق العنف، وهو استسهال كان يرقى أحياناً إلى رفع ذاك العنف، سوريليّاً أو فانونيّاً، إلى سويّة الغرض النبيل بذاته، فيما صير في المقابل، إلى هجاء المؤسّسات السياسيّة والدستوريّة القائمة وتخوينها أو تعهيرها.

فـ” العنف “الذي هو” قاطرة التاريخ” ، يتقدّم ملازماً للثورة ملازمة البؤبؤ لعينه:”فما من مشكلة واحدة من مشاكل الصراع الطبقيّ قد حُلّت في التاريخ بغير العنف. وحينما يمارس الشعب العامل وجمهور المستَغلّين العنف ضدّ المستغِلّين، نكون معه “، بحسب لينين. ويذهب هتلر خطوة أبعد، حيث” الشرط الجوهريّ الأوّل للنجاح هو الاستخدام الثابت والمنتظم أبديّاً للعنف” . أمّا”الديمقراطيّة البورجوازيّة”التي سخرت منها اللينينيّة وتفرّعاتها جميعاً، فكان كارل ماركس منذ تناوله كوميونة باريس في 1871، قد اسهب تأسيسيّاً في هجائها، حيث تتمتّع الطبقات المضطهَدَة بالحقّ في أن تقرّر مَن مِن ممثّلي الطبقات المالكة سوف “يمثّلها ويضطهدها” . ولم ير فوهرر ألمانيا في الديمقراطيّة سوى أنّها”النظريّة الخادعة التي يبثّها اليهود، من أنّ البشر كلّهم خُلقوا متساوين” . وفي مقابل “ديكتاتوريّة البروليتاريا” اللينينيّة، أسّس آية الله الخمينيّ “ولاية الفقيه” بصفتها المعادل الضدّيّ لإرادة الشعب “الغربيّة” .

وثالثاً، جرى في الحالات الثوريّة السابقة جميعها توسيع لدور الدولة الاقتصاديّ والسياسيّ والثقافيّ على حساب الأفراد والجماعات الذين يُحال بينهم وبين تعبيرهم المستقلّ عن مصالحهم أو أفكارهم. وغالباً ما رُبط هذا التعبير الممنوع بأغراض استعماريّة وإمبرياليّة معادية للشعب والوطن.

فالدولة التي بشّرت الماركسيّة بـ “ذوائها” في المجتمع اللاطبقيّ، كونها الأداة التنفيذيّة للطبقات العليا، هي التي رأى ستالين ضرورة تعزيزها في تلك الحقبة المديدة التي تفصلنا عن المجتمع اللاطبقيّ العتيد. وفعلاً عُزّزت الدولة وصُفّحت، واستعين على ذلك بإطلاق يد البوليس السرّيّ، بحيث احتكرت المجال العامّ والإبداع الثقافيّ. وغنيّ عن القول إنّ الاقتصاد ارتكز تعريفاً على نظام الملكيّة العامّة لوسائل الإنتاج وعلى المزارع الجماعيّة والتخطيط المركزيّ.

أمّا الدولة النازيّة، البوليسيّة بدورها، والتي لم تمتلك برامج اقتصاديّة محكمة كالدولة السوفياتيّة، فأخضعت الاقتصاد لحاجات العسكرة حيث يضطلع مزاج الزعيم وتقديراته بدور حاسم. وبإلحاق البيزنس والسيطرة على العمل الذي حُرّمت تنظيماته السابقة، تمّ استتباع المبادرة الحرّة لأوامريّة اقتصاديّة لم تُفض إلاّ إلى مديونيّة هائلة. وبـ “تطهير” الثقافة والتخلّص من الفنّ “المتفسّخ” وهجرة المثقّفين وإحراق الكتب وأَرْيَنَة الإبداع، صير إلى تصحير ألمانيا وحرمانها كلّ سيولة أو حراك ذاتيّين. وفي إيران التي لم تبلغ ذاك الشأو من الإمساك الحديديّ بالمجتمع، يقع نصف الاقتصاد في عهدة التخطيط المركزيّ وتحظى المؤسّسات الدينيّة ذات الصلة الوثيقة بالسلطة، وظيفيّاً وتبريريّاً، بموازنات تمثّل ثلث الإنفاق الحكوميّ المركزيّ. وبدورها تولّت” الثورة الثقافيّة”الإيرانيّة، بين 1980 و1987، تطهير النشاط الأكاديميّ من “التأثيرات الغربيّة”وأحكمت وصاية الدولة الإيرانيّة على الشطر الأساسيّ من النشاطات البحثيّة والإبداعيّة.

ويبقى أنّ كلّ مغايرة للإيديولوجيا الرسميّة التي تُنزلها تلك النظم الثوريّة على مجتمعاتها (اللينينيّة، الماويّة، الفاشيّة، الخمينيّة الخ.) تعادل الخيانة والتآمر على مصالح الأمّة والشعب، ناهيك عن هرطقة التمرّد على تأميم السياسة بوضعها حصريّاً في أيدي العارفين بتلك المصالح.

ورابعاً، ومنذ إقامة ستالين” الاشتراكيّة في بلد واحد “، في أواسط العشرينات، تمّ إحكام العزلة على البلد الذي يعصف به التحوّل الثوريّ كما جرى إغلاقه عن العالم الخارجيّ، جزئيّاً أو كلّيّاً، مرّةً بحجّة إخراجه من السوق العالميّة واستغلالها، ومرّة أخرى بحجّة تخليصه من الغزو الثقافيّ أو من التلويث العرقيّ.. إلخ.

فالحملة على “غريب” ما،”كوزموبوليتيّ “أو” يهوديّ”أو “أميركيّ” ، غدت من المكوّنات الصلبة للنظام الثوريّ، مثلها مثل سائر ما ينجم عنها من هذيان “المؤامرة” التي ينفّذها أولئك الغرباء المثيرون للريبة. وربّما كان جدار برلين الذي أقامته السلطة الشيوعيّة في ألمانيا الشرقيّة، أوائل الستينات، لـ “حماية التجربة الاشتراكيّة” من رأسماليّة الغرب، النُصب الأعظم في دلالته على سياسة

العزلة الذاتيّة هذه.

لكنْ في الحالات جميعاً، بقيت البلدان الديمقراطيّة الغربيّة هي التي تُقدّم بوصفها مصدر الخطر أو التلوّث اللذين يتهدّدان الأمّة والثورة، واللذين يُفترض بالشعب أن يبقى حذراً ومتيقّظاً حيالهما.

وخامساً، ليس “العدو” الذي تقوم الثورات في وجهه مجرّد استبداد أو فساد أو سوء استخدام للسلطة تُخاض المعركة معه في الحيّز السياسيّ ولا تنقلب عنفاً إلاّ عند قيام السلطة بتعطيل هذا الحيّز. إنه، في المقابل، جوهر وأصل لا مكان معهما للانحراف الانسانيّ أو للهفوة أو للصدفة أو للخطأ. وهذا العدوّ، الطبقيّ أو العِرقيّ أو الدينيّ، خاطئ مسبقاً وجوهريّاً، وهو ببساطة لا يستطيع إلاّ أن يكون خاطئاً. أمّا خطؤه، بل خطيئته، فلا تُعالج بإزاحته عن السلطة، بل بإزالته وتصفيته الجسمانيّة وتطهير المجتمع منه تالياً.

لهذا، ومنذ المصير المأسويّ الذي عرفته أسرة رومانوف في روسيّا بعد ثورة أكتوبر، صار القتل أو الهرب والمنفى قاعدة التعامل بين الأنظمة الثوريّة، التي تتوهّم تأسيس العالم من صفر، وبين الحكّام السابقين. ولا تقتصر نزعة استئصال الشرّ على الحكّام، إذ قد تطال طبقات بكاملها، كالكولاك الروسيّ، أو شعوباً

وإثنيّات كاليهود والغجر.

هكذا بدا إقرار الشيوعيّة السوفياتيّة في مؤتمر حزبها العشرين بـ”طريق برلماني”إلى الاشتراكيّة نوعاً من الهرطقة لدى الكثيرين من الشيوعيّين الأرثوذكسيّين. وقد تأكّد لهؤلاء أنّ الأمر هرطقة فعلاً مع انقلاب الجنرال بينوشيه في تشيلي، عام 1973، على تجربة اشتراكيّة وُلدت من خلال البرلمان فجاء طابعها الاستثنائيّ يؤكّد القاعدة المنصوص عنها في”الدولة والثورة”.

***

على أن سقوط النازيّة والفاشيّة نتيجة للحرب العالميّة الثانية أطلق موجة من التحوّلات الثوريّة الكبرى التي تختلف عميق الاختلاف عن التحوّلات المذكورة أعلاه. فبعد الانتقال إلى الديمقراطيّة الذي عرفته ألمانيا وإيطاليا واليابان ابتداءً من أواخر الأربعينات، شهدت أواسط السبعينات عمليّة دمقرطة طالت بلدان أوروبا الجنوبيّة الثلاثة: اليونان (مع سقوط الحكم العسكريّ في 1974 ) والبرتغال (إثر”ثورة القرنفل” على مارشيلّو كايتانو والتركة السالازارية في 1974 أيضاً)، ثمّ إسبانيا (إثر رحيل فرانشيسكو فرانكو في 1975 وتهاوي ديكتاتوريّته العسكريّة). لكنّ أواخر الثمانينات وأواخر التسعينات هي التي شكّلت ذروة هذا التحوّل الثوريّ والكونيّ الباهر، على ما تجسّد في ثورات روسيا وبلدان أوروبا الشرقيّة والوسطى ضدّ الحكم الشيوعيّ والإمبراطوريّة السوفياتيّة. وقد واكبت ذلك تحوّلات عرفتها أميركا اللاتينيّة التي انقضّت على ديكتاتورياّتها العسكريّة، بينما انقضّت جنوب أفريقيا، في الفترة نفسها، على نظام الفصل العنصريّ.

وهذه التحوّلات جمعت بينها، هي الأخرى، قواسم مشتركة تُعدّ نقيضاً للقواسم التي جمعت بين التحوّلات الأولى. وقد كان من أهمّها:

أوّلاً، غياب الإيديولوجيا المُحكمة والتنظيم الحديديّ القائد. ففي البرتغال تحديداً، وبعد محاولة عابرة لإقامة ديكتاتوريّة يساريّة تحلّ محلّ الديكتاتوريّة اليمينيّة، أقلعت الديمقراطيّة البرلمانيّة بوصفها الشكل الشعبيّ والمطلوب للحكم السياسيّ، وهو الأمر الذي استقرّت عليه التجارب الأخرى المذكورة أعلاه. وقد قامت الثورات هذه وانتصرت من دون أن تُسعف الذاكرة على تذكّر أسماء قادتها الذين ما لبثوا أن انضووا في اللعبة السياسيّة وارتضوا حكمها عليهم. أمّا الكاريزما التي ارتبطت بالقليل من وجوه الموجة الثوريّة الديموقراطيّة، كنلسون مانديلاّ في جنوب أفريقيا أو فاكلاف هافل في تشيكوسلوفاكيا السابقة، فاختلفت كلّيّاً عمّا كانته الكاريزما في الحالات الممتدّة من لينين إلى الخميني. ذاك أنّ المؤامرات “التنظيميّة” المحبوكة للوصول إلى السلطة بوصفها الإسهام الفريد في دخول التاريخ، وكذلك الخطابة التحريضيّة والهستيريّة، تراجعتا تماماً لصالح التعويل على الموقف الأخلاقيّ لـ “الزعيم” الجديد. وإذا كان جوزيف ستالين، “أب الشعوب” ، الثمرة الزعاميّة الأبرز التي تمخّضت عنها الثورات القديمة، فإنّ نلسون مانديلاّ وفاكلاف هافل تخلّيا طوعاً عن السلطة: أوّلهما استقال من رئاسة “المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ” في 1997، وبعد عامين انتهت ولايته الرئاسيّة فلم يرشّح نفسه للرئاسة، فيما انتهت ولاية الثاني كرئيس لجمهوريّة تشيكيا في 2003 فانسحب تاركاً خصمه السياسيّ فاكلاف كلاوس يحلّ محلّه.

ثانياً، تمّ توكيد السلميّة ونبذ العنف، إلاّ في حالات كان أهمّها التغيير اليوغسلافيّ وذاك الذي جدّ في بعض المناطق السوفياتيّة سابقاً كناغورني قره باخ، حيث طغى الانقسام الأهليّ، غير المؤدلج تعريفاً، على سواه. إلاّ أنّ هذه لم تستطع أن تحدّد معاني التحوّلات الثوريّة الجديدة أو تنظّر وجهتها. فهي بقيت، في آخر المطاف، أقرب إلى جيب “شرقيّ” في مسار “غربيّ”.

لقد أكّد هافل، مثلاً لا حصراً، على” المقاومة السلميّة ” في صراعه مع النظام الشيوعيّ من دون أن يكون حالماً باسيفيّاً. فهو، غير مرّة، حين عاد إلى الحرب الباردة واستشهد بها، رآها صراعاً بين” قوّتين جبّارتين، واحدة تدافع عن الحرّيّة وأخرى هي مصدر للكوابيس “. وفي سنوات رئاسته لتشيكوسلوفاكيا، ثمّ لتشيكيا، كان أحد هواجسه كيف يضمّ بلده إلى الحلف الأطلسيّ (الناتو). أمّا مانديلاّ فبدت سيرته وتحوّلاتها أشدّ تعقيداً: فإبّان حياته الطلاّبيّة غازل أفكار اللاعنف في النضال ضدّ النظام العنصريّ، وهكذا استمرّ إلى أن أعلن “الحزب الوطنيّ” ، حزب العنصريّة البيضاء، حالة الطوارئ التي حدّت من كلّ حراك أسود في السياسة والتعبير، كما في العمالة والانتقال. هكذا حُمل مانديلاّ الشابّ على الاعتقاد بأنّ العنف هو وحده ما يستطيع تدمير نظام التمييز العرقيّ، مشاركاً فيه مشاركة مباشرة. لكنّ تجربته المديدة في السجن، منذ دخله في 1962، دفعته بالتدريج إلى قناعات أخرى حتّى انتهى به المطاف، وعلى طريقته، مادحاً المهاتما غاندي ولاعنفيّته في مواجهة الاحتلال البريطانيّ للهند. وفي هذه الغضون ساجل مانديلاّ، وعمل، ضدّ حركات سوداء متطرّفة ربّما كان أبرزها “المؤتمر القوميّ الأفريقيّ” الذي طرح نفسه بديلاً راديكاليّاً عن مؤتمره “الوطنيّ الأفريقيّ”.

ولم يكن بلا دلالة أنّ وجوهاً مثل هافل ومانديلاّ شرعت تطرد الوجوه الماويّة والغيفاريّة والفرانس فانونيّة من ساحات المخيّلة الثوريّة لدى قطاعات متعاظمة من شبيبة العالم، لا سيّما المتقدّم، الشيء الذي خلّف انعكاسه حتّى على إرخاء اللحى ولبس الكاكي والتوكيد على المظهر الفقراويّ لأهل البيئة الثوريّة.

ثالثاً، عُمل، في الموجة الثوريّة الجديدة، على ترشيق الدولة ومحاصرة أخطبوطيّتها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة لصالح توسيع هوامش الأفراد والمجتمعات المدنيّة. هكذا كادت تجارب تلك الموجة تتبنّى كلّها الديمقراطيّة البرلمانيّة واقتصاد السوق، مع جرعات محدودة ومتفاوتة من التدخّل الحكوميّ، فضلاً عن توسّع غير مسبوق في استخدام تعبير “المجتمع المدنيّ” ومحاولات البناء عليه في الحدّ من جبروت الدولة.

وهذا بالضبط ما فعلته ثورات أوروبا الوسطى والشرقيّة أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، بعدما كانت ثورات أوروبا الجنوبيّة في أواسط السبعينات قد كسرت ربط الاقتصاد الوطنيّ بأولويّات المجمّع العسكريّ الحاكم.

أبعد من ذلك، قدّم التقسيم السلميّ والرضائيّ لتشيكوسلوفاكيا بعد انتصار ثورتها الديمقراطيّة، ومن ثمّ قيام جمهوريّتي تشيكيا وسلوفاكيا، عيّنة بليغة على ميل ثورات الوجهة الجديدة لكسر كلّ منزع إمبراطوريّ تتطاول الدولة إليه. وكانت سوابق هذا الميل قد ظهرت في انسحاب البرتغال، إثر “ثورة القرنفل” ، من المستعمرات الأفريقيّة (أنغولا، الموزمبيق، غينيا بيساو والرأس الأخضر). وقبل ذلك، كان لتبنّي اليابان الجديدة، التي ولدت بعد الحرب العالميّة الثانية،”دستور ماكآرثر” أن حوّل الامبراطور إلى حاكم شكليّ، ومنع عمليّاً كلّ قدرة على شنّ الحروب في الخارج. وهو أيضاً ما حدث في ألمانيا الفيدراليّة التي أيّد ديمقراطيّوها سياسة التخفّف من الجيوش والعسكرة…

والميل هذا إنّما يرقى إلى قطيعة نوعيّة مع ميل الموجة الأبكر من التحوّلات الثوريّة إلى الضمّ والتوسّع. حتّى لينين ورفاقه الذين تركوا مكتبة ضخمة في مسائل حقّ تقرير المصير، انتهوا على رأس امبراطوريّة أعادت إنتاج الإمبراطوريّة القيصريّة، تحكمها دولة حديديّة لم يكن القياصرة الروس ليحلموا بمثلها.

رابعاً، وربّما كان هذا الأهمّ، صير إلى كسر عزلة البلد المعنيّ، أكانت سياسيّة أم اقتصاديّة أم ثقافيّة، وإحداث أكبر انفتاح على العالم الخارجيّ، لا سيّما منه بلدان الديمقراطيّات الرأسماليّة المتطوّرة التي غالباً ما ناهضتها موجات التغيير الأولى واعتبرت الانفصال عنها طريقاً إلى الخلاص.

لقد كان هذا الميل شديد الوضوح في أوروبا الجنوبيّة حيث اتّبع الجنرال فرانكو سياسة”الاكتفاء الذاتيّ”، قبل أن تكرّسه ثورات أوروبا الوسطى والشرقيّة في كسرها”الجدار الحديديّ”; وفتح قنوات تواصلها مع أوروبا الأمّ.

ذاك أنّ طلب السيولة في السلع والأفكار غدا الطلب الثوريّ بألف ولام التعريف، تماماً بقدر ما كان الاستبداد معادلاً للانغلاق عن العالم بذرائع شتّى.

أمّا خامساً وأخيراً، فغدا عدو الثورات الجديدة هو الاستبداد أو الفساد المرتبطان بأشخاص معيّنين من دون إضفاء أيّة جوهرانيّة إطلاقيّة عليهما. صحيحٌ أنّ مكافحة الشيوعيّة في الحرب الباردة شجّعت على إعادة تأهيل نازيّين سابقين بعد طور”نزع النازيّة”في ألمانيا الفيدراليّة، لكنّ عملاً كهذا ينمّ عن القدرة على تفريد الشرّ وتشخيصه بدلاً من تجميعه وجَوهرَته. وبالمعنى نفسه، أمكن لشيوعيّين في بلدان الكتلة السوفياتيّة السابقة أن يعودوا، بعد الثورات التي أطاحت أنظمتهم، إلى العمل السياسيّ الشرعيّ، من غير أن يكونوا مطالبين بما يتعدّى الإقرار بالتداول السلميّ والانتخابيّ للسلطة.

حتّى جنوب أفريقيا ما بعد التمييز العنصريّ عالجت الماضي بالمسامحة وبالتدرّج، نافيةً الأدلجة والتعميم عن الآثام والشرور. هكذا أقيمت” لجنة الصدق والمصالحة” التي رعاها القسّ الشهير ديزموند توتو، كما اتُّبعت، حيال الأرض والعمالة، اجراءات وسياسات بطيئة في معالجة فقر السود وظلامتهم. وهذا ما ميّز، في الأساليب وفي النتائج، تجربة جنوب أفريقيا عن تجربة سبقتها في تفكيك العنصريّة هي التي شهدتها زيمبابوي (روديسيا سابقاً). ففي هذه الأخيرة التي اعتمدت مناهج الموجة الثوريّة الأولى، فكان لها زعيمها روبرت موغابي، وحزبها القائد “زانو” ، أفضى الأمر إلى نتائج كارثيّة سياسيّاً واقتصاديّاً.

***

إنّ المقارنة بين الوجهتين هاتين كفيلة بأن تقول لنا الكثير عن جديد عالمنا المعاصر: عن القوى والأفكار التي تصعد وتلك التي تهبط وتأفل، لا سيّما في ما خصّ معنى الثورة والتحول التاريخي.

وبطبيعة الحال ليس من الحكمة تقديم هاتين الوجهتين على نحو خطّيّ ومغلق. ففي الحقبة نفسها التي شهدت التحوّلات الديمقراطيّة في أوروبا الجنوبيّة، شهدت تشيلي، في أميركا الجنوبيّة، انقلاب بينوشيه على الديمقراطيّة عام 1973. كما أنّ بلدان أفريقيا لا تزال تبدي الكثير من الحيرة ما بين الديمقراطيّة والانقلاب العسكريّ، إلى جوار شهيّة مفتوحة للحروب الأهليّة. بعد هذا، انتكست الموجة الثانية في البلدان الأقلّ أوروبيّة، كجورجيا وأوكرانيا، فيما استقرّت روسيا نفسها على نمط يمزج بين الديمقراطيّة والاستئثار الرئاسيّ. بيد أن هذا لا يلغي الملمح العامّ المشار إليه أعلاه والذي يفعّل نفسه في البلدان الأشدّ تطوّراً والأكثر احتكاكاً بالبلدان الغربيّة وتعرّفاً إليها، بحيث أن القوى والأحزاب الاشتراكيّة في أميركا اللاتينيّة حسمت، هي نفسها، أمر وصولها إلى السلطة عن طريق البرلمان. وهو ما سبق أن عرفته إيطاليا التي تحوّل حزبها الشيوعيّ الكبير حزباً اشتراكيّاً ديمقراطيّاً، فيما تضاءل كثيراً حضور الحزب الشيوعيّ الفرنسيّ ونفوذه بعد اتّضاح عجزه عن إحداث ذاك التحوّل.

والحال أنّ الثورات العربيّة تملك الكثير من مواصفات الموجة الأولى كما تملك الكثير من مواصفات الموجة الثانية. وربّما أمكن أن نصف ظرفها وظرفنا الراهن بانتظار أيّ الموجتين ستغلب في هذه الثورات التي لم تستقرّ بعد على حال. غير أنّ هذا، وكائناً ما كان الأمر، يبقى قصّة أخرى.

 Kalamon: http://www.kalamon.org

كلمن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى