حسان خالد شاتيلاصفحات سورية

ثورة 15 آذار/مارس في سورية: الخطاب السياسي أولا وأخيرا


حسان خالد شاتيلا

مضى على انطلاقة الثورة السورية ضد الاستبداد واحتكار الثروة من قِبَل قادة الأجهزة وعملائهم نحو الشهر الواحد. وتشير الوقائع الملموسة إلى أن الثورة ماضية في طريقها نحو التصعيد. وترفع جماهيرها الغاضبة والمعذّّبَة شعارات تُرجِّح المطالبة بالحريات السياسية الواسعة، والديمقراطية، وتعديل الدستور، وإلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية، وتلبية المطالب المعيشية للجماهير.. ترجيح كل ذلك على الخطاب الديني والتعصب القومي. ما يدلِّل بصورة ملموسة أن الثورة منذ إرهاصاتها الأولى تدرك عن يقين أن الانسياق وراء الشعارات الانفعالية وعواطف الحقد والغرائز أيا كان مصدرها، ديني أم قومي، من شأنه أن يَحجب عن الثورة حقيقة المعركة السياسية ضد القمع والهيمنة والاستبداد والفساد، واحتكار قلة من أهل السلطة لتوزيع المال والقرار السياسي، وتلاعب قمة الأجهزة وعددهم لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة بالقضايا الكبرى، وفي مقدمتها فلسطين العربية والجولان والسياسة الخارجية، والمفاوضات السرية في السرايا مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وآل سعود. تلاعب وتهاون بالقضايا المصيرية لا غرض له سوى الحفاظ على السلطة الاستبدادية من النمط الشرقي الذي يدر على نظام الأجهزة المال والجاه.

بيد أن الثورة السورية، شأنها شأن الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، بالرغم من أنها في مصر وتونس أحرزت بعض المكاسب، إلا أنها تصطدم، هنا وهناك، وعلى وجه السرعة، بالثورة المضادة التي توحِّد اليوم في هذه البلدان بما في ذلك سورية ما بين المصالح الاقتصادية للرأسمالية العالمية وشرائح واسعة من البورجوازيات العربية الحاكمة. فالسلطة السورية القمعية لا تختلف من حيث نمطها السياسي والاقتصادي عن نظام مبارك وزين الدين بن علي من حيث أن هذه الأنظمة تمثِّل نظام البورجوازية الطرفية التي تعجز عن السيطرة والهيمنة على الجماهير ما لم توكل سياسة البلاد إلى العسكر والاستخبارات. غير أن الثورة في هذين البلدين الشقيقين، تونس ومصر، مؤهلة، في ضوء حركة الاحتجاج والمواجهات مع أجهزة القمع للاستمرار، لمواجهة أعدائها في الداخل والخارج معا، ما دامت مطالبها السياسية والاجتماعية لم تتحقق بعدما سَرَقت البورجوازية التي تطوق اليوم إلى تحديث سلطتها للحاق بالنظام الرأسمالي العالمي، أو العولمة النيوليبرالية، من الجماهير الشعبية ثورتها.

وللثورة الجماهيرية في سورية، على مثيل غيرها من الثورات الشعبية في الوطن العربي، وبوجه خاص في تونس ومصر، خاصية واحدة مشتركة، وهي العفوية، وغياب المعارضة الوطنية والديمقراطية المنظَّمة التي كانت نشأت في عهد الاستقلال الوطني أو ما قبل ذلك، ومنها اليسار، عن قيادة هذه الثورة الجماهيرية. وإذا كانت العفوية تنتقل رويدا رويدا عبر الممارسة في الشارع من العفوية إلى العمل السياسي المنظَّم للدفاع عن المصالح السياسية والمعيشية للجماهير، وتَجْمَع قواها المجتمعية من أجل الانتقال بالبلاد إلى الديمقراطية السياسية والاجتماعية، بعدما تدحر الثورة المضادة، فإن العفوية تحمل معها جيلا جديدا من القيادات الشابة بما يغذِّي الاحتياطي الهائل من الثورات السابقة وقياداتها بالدماء الثورية المتجدِّدة، ويكفل علاوة على ذلك أمام الأقطار العربية أشكالا جديدة من أنظمة الحريات السياسية والديمقراطية والعدل والمساواة في توزيع الثروات، ويوفِّر للجماهير العمل والخبز والدواء والتعليم والحماية المجتمعية والرعاية الصحية والحياة الآمنة لأصحاب الدخل المحدود. ناهيكم وأن الثورات العربية في القرن الواحد العشرين لا تفصل ما بينها الحدود السياسية التي كان الاستعمار القديم رسمها لها في القرن الماضي. بل وإن ظهور القيادات الثورية الشابة يَعِدُ بتعزيز النضال المشترك مع المقاومة في فلسطين والعراق، بعدما يكون أزاح السلطة السورية التي تقايض مع إمبريالية الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي على رأس المقاومة من أجل الحفاظ على سلطاتها السياسية والمالية.

إن حث المعارضة الوطنية الديمقراطية في سورية، ومنها هيئة إعلان دمشق، وتجمع اليسار الماركسي، والتجمع الوطني الديمقراطي، والبعثيين المنشقِّين، واليسار الكردي، على الاندماج، في الميادين والساحات والشوارع، بالثورة الجماهيرية بدون إبطاء وطول انتظار، هو وحده الذي يتيح للثورة أن تستمد من الواقع الملموس تحليلاً سياسياَ ملموسا. ذلك أن الممارسة، الممارسة الثورية تبدِّد الأفكار الجامدة وتجدِّد في البرامج السياسية، وتَحمل إلى الوعي والمعرفة ما يستجد في الواقع الملموس من تطور وتغيير وصراع. إن الظروف الموضوعية، مع إطلالة الثورة في 15 آذار/مارس الماضي، تَجتمع كلها لتلزم اليسار في سورية بالاتحاد في جبهة واحدة لتقويض النظامين الداخلي والخارجي واللذين يريدان تذويب الجماهير في سورية وما تنتجه من عمل وثروات وطنية في السوق العالمية الرأسمالية. هذه الظروف هي نفسها التي تفرض أيضا، وفي الوقت نفسه، على جبهة اليسار أن تكون جزءً لا يتجزأ من جبهة وطنية ديمقراطية تتسع لكل الديمقراطيين.

هذا الاتحاد ما بين اليساريين والديمقراطيين لا مفر منه كي تضمن الثورة الجماهيرية في سورية لنفسها أسباب النجاح والاستمرار على مدى المستقبل المرئي. فالثورة الشعبية تستمد من هذا الاتحاد سندا أساسا لترسيخ الديمقراطية على المدى المتوسط والبعيد، وحماية الاستقلال الوطني من تدخل المصالح الرأسمالية العالمية. ذلك أن الثورة المضادة تقف للثورة الجماهيرية في سورية بالمرصاد، وتترقب الفرصة المناسبة، ليس للانقضاض على السلطة البالية للأجهزة القمعية والاستغلالية، وإنما لسد الطريق أمام الثورة الشعبية، حمايةًً لمصالحها في السوق السورية من جهة، ولترجيح موازين القوى الإقليمية لصالح إسرائيل ضد الثورة الفلسطينية والثورة والمقاومة العربية. فالمطلوب، حسب السياسة العالمية المهيمنة في عهد العولمة، من الأجهزة المنتفعة في سورية أن تقضي على الثورة الجماهيرية، فإذا هي لم تنجح، فإن التدخل الرأسمالي العالمي الذي بدأت عوالمه تظهر على لسان العميل بان كي مون، وأرباب الرأسمالية من قادة الاتحاد الأوروبي وأوباما، سينتقل بنفسه إلى حيز التنفيذ في سورية ليجهض الثورة الجماهيرية من جهة، وكي يُضحي، من جهة ثانية وفي الوقت نفسه، بشركائه في السلطة بعدما يتبيَّن له أن البورجوازية الشرقية والقمعية في سورية تحتضر مؤذنة بولادة بورجوازية العولمة، وهي المؤهلة لسرقة الثورة من أبناء الوطن، فيلغي بالتالي الأجهزة الإيديولوجية القمعية للبورجوازية في سورية، من دستور وتشريعات وقوانين، ويستبدلها بأخرى ليبرالية متمشية مع العولمة، بحيث تُطْلِق البورجوازية السورية يدها بدون قيود في استغلالها لأصحاب الدخل المحدود، وتَلحق أيضا بالسوق الرأسمالية العالمية كجزء لا ينفصل عنها.

لذا، فإن اليسار والقوى الوطنية الديمقراطية ملزمة من الآن فصاعدا بتشكيل هاتين الجبهتين إذا ما هي أرادت أن تستعد منذ الشهر الجاري نيسان/إبريل لمواجهة الثورة المضادة، الداخلية والخارجية، لاسيما وأن بأيدي هذين العدوين الاثنين من الأدوات والأجهزة والأسلحة والجيوش وشرائح واسعة من المنقادين، ما يجعل من ثورة 15 آذار في خطر دائم أمام الثورة المضادة. ولن يُكتب للثورة الوطنية الديمقراطية في سورية النصر على هذين العدوين ما لم يتعزز اليسار في ما حضر في جبهة اتحادية تأخذ مكانها من حيث هي مخزون واحتياطي هائل من الطاقة الثورية في قلب الثورة، وفي صميم تحالف وطني ديمقراطي واسع يُشَيَّد بصورة عاجلة ما بين الأحزاب الوطنية. إن العفوية الثورية انعكاس تلقائي واعٍ لواقع ظالم،غير أن إنجاز الانتقال الثوري يتوقف على الانتقال بالثورة إلى العمل المنظَّم في ضوء برنامج سياسي واضح لا يكتفي فقط بشعارات الحرية والديمقراطية، وإنما يستعد منذ اليوم لمواجهة الثورة المضادة التي تهدِّد اليوم بإجهاض الثورة الشعبية الليبية، وتترصد الثورة لإجهاضها في الغد في سورية. فقنابل الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي تدمِّر، من حيث ما هو صريح، علني ومكشوف، الجيش الذي يحمي نظام العقيد قذافي، إلا أنها تقضي في حقيقة الأمر على الثورة الليبية وهي في مهدها، لضمان مصالحها في ليبيا الشقيقة في ظل نظام جديد من الحكم المندمج في السياسة العالمية وعهد الإمبريالية الجديدة.

لكي تتسع الثورة الشعبية في سورية بحيث تتمكن من تعبئة كل أصحاب الدخل المحدود وذوي الأحوال المعيشية الرثة والدخل الآني غير الآمن، وشرائح واسعة من الطبقة الوسطى، لا بد من الارتفاع بسقف المطالب السياسية والمجتمعية إلى درجة أعلى بقليل مما هي عليه اليوم. ف/”مناهضة الطائفية” هي كالمناداة ب/”الوحدة الوطنية” – على سبيل المثال – لا جدوى منها في ما يتعلق بشحذ الثورة ما لم يُستعاض عنه بخطاب سياسي منحاز للأكثرية الشعبية التي لا تملك سوى قوة عملها، وما لم يؤكد أيضا على معاداة التدخل الأجنبي، وما لم يتخلى علاوة على ذلك عن شعار الانتقال التدريجي، ويؤكد على دعم المقاومة العربية طالما تعيش ثورتنا في وسطها الإقليمي والعربي والدولي، ويصرُّ حتى النهاية على إسقاط النظام، وتبني مطالب أصحاب الدخل المحدود وذوي الأحوال الرثة، وهم محرومون من الوطن حرمانهم من الملكية، ويطالب بدون هوادة بالدولة العلمانية بعدما تكون “الدولة المدنية”، وهي خليط مزيج غامض يحتمل كل التفسيرات والتأويلات، سقطت من مفردات المعارضة الوطنية الديمقراطية.

وبتعبير آخر، فإن ثورة 15 آذار في سورية تؤرِّخ لنهاية حرب المواقع مع السلطة، أي إستراتيجية المعارضة بشقيها اليميني واليساري، والتي كانت طوال العشر سنوات الأخيرة، وربما ما تزال، تجزيء المعركة السياسية مع السلطة إلى معارك وشعارات مفكَّكة ومجزأة، كالمطالبة بإلغاء حالة الطوارئ والمحاكم الاستثنائية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، إلخ. وتنادي بالانتقال التدريجي. وتسجِّل، أيضا في آن واحد، ثورة 15 آذار لانتقال المعركة مع السلطة إلى الحرب الشاملة على طول الجبهة، جبهة ضد جبهة، ومعارك معها متأنية أو متزامنة على مختلف مواقع الجبهة المعادية. إلا أن المتتبع عن كثب للمظاهرات وحالات الاعتصام في مدن وريف سورية يلاحظ بيسر أن الجماهير كفرت بالإصلاح ورفعت شعار إسقاط النظام. الشعب يريد إسقاط النظام. في ما لا تزال مسافة ما تفصل ما بين أحزاب اليسار واليمين وبين الجماهير. فالأحزاب ما تزال متردِّدة في ما يتعلق بتخليها عن وهم الانتقال التدريجي والاعتراف بنهاية أسطورة الإصلاح. أما الجماهير الشعبية، فإنها تمضي قدما إلى الأمام على امتداد معركة الجبهة ضد الجبهة من أجل إسقاط النظام حتى ولو كان التقدم على امتداد هذه الجبهة يؤدي إلى الموت.

 

إن مستقبل ثورتنا اليوم في سورية يتوقف على يقظة اليسار واتحاده في جبهة عريضة. يسار يساهم بدوره في بناء الجبهة الوطنية الديمقراطية التي تتسع لكل الوطنيين الأحرار ولا تَستبعد أيا منهم ما دام مصدر الثورة يَجْمَع ما بين مناهضة العدوين الداخلي والخارجي. عدوٌ اسمه الاستغلال بكل أشكاله بما في ذلك احتكار المُسْتَغٍلِّين للسلطة.

سورية عقدة متشابكة من حالات الصراع الجغرافي السياسي. لذا، فإن ثورة 15 آذار أكثر تعقيدا وأشد عنفا من ميدانية القاهرة وامتداداتها وصلاتها بغيرها من ثورات عربية. فالمعركة السياسية من أجل إسقاط النظام الاستبدادي الذي لم يشبع من سلب الكادحين وأصحاب الأجر المحدود ثمرة عملهم، لا تضاهيها من حيث الصعوبات المرافقة لها، أية ثورة غيرها. إنها مرشَّحة حسب التكهنات للامتداد فترة من الزمن، وستكون شاقة، وتحمل بعدا يتخطى حدودها السياسية من جراء التداخل الوثيق ما بين ما هو عربي، وإقليمي، ودولي. وستحمل ثورة 15 آذار هذا الثقل ذو الوزن المضاعف ثلاث مرات على أكتافها. ومهما اتسعت الثورة لشتى التناقضات، وامتد مداها، وطال زمانها أشهرا أو أكثر، واتسعت لتباين وجهات النظر إن لم يكن للنزاعات ما بين أطراف المعارضة، إلا أنها تضيق إلى حد الاختناق إذا ما فشلت القوى الوطنية الديمقراطية في تشييد جبهتها الواسعة، من جهة، وتقاعس اليسار، من جهة ثانية، عن تشييد جبهة يسارية اتحادية تأخذ مكانها في قلب الحركة الوطنية الديمقراطية، أحزابها وتحالفاتها، متذرعا بكل أنواع الحجج، من الخلافات الإيديولوجية، إلى ماضي الحركة الشيوعية في سورية، والتباين في توصيف طبيعة النظام الآيل إلى النهاية، وطبيعة المرحلة ودور الطبقات المجتمعية.

لقد اكتفت حتى الآن المعارضة الوطنية الديمقراطية، إن من حيث الممارسة أم من حيث البرنامج السياسي، ببرنامج الحد الأدنى. برنامج قوامه “الوحدة الوطنية” بعدما انقسمت البلاد – على حد قول بعض القوى – ما بين “أكثرية” و”أقلية” (طائفية). وقد آن الأوان لليسار أن يخوض الثورة بكامل عتاده السياسي كي يكشف الغطاء عن وَهْمُ “الوحدة الوطنية” المزعومة من حيث هو استلاب لا معادل واقعي له في ساحة المعركة ما دام الانقسام الطبقي في المجتمع السوري ما ينفك يتسع منذ الحركة التصحيحية للجنرال أسد. فالوحدة المزعومة لم يعد لها وجود منذ احتكار المُسْتَغِلِّين للجاه والمال والسلطة، وبعدما قاد توزيع الثروة واحتكارها بين أيدي بورجوازية شرقية تَحصُر بأيدي قلة من أهل السلطة وزبانيتها كل رأس المال، قاد إلى انقسام حاد في المجتمع السوري بين أصحاب الملك وبين أصحاب الأجر المحدود والخدم الرثين وشرائح واسعة من الطبقات الوسطى.

إن ثورة 15 آذار في سورية منحازة إلى جانب المُسْتَغلِّين. والعنف اليوم في الشارع السوري يُرتَكب من قِبَل المُسْتَغِلِّين بعدما عادت السياسة بوسائلها السلمية إلى مجتمع المُضْطَهَدين من أبناء شعبنا.

حسان خالد شاتيلا

آذار/مارس 2011

الحوار المتمدن

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى