صفحات الثقافة

جامع حلب الكبير

 

    محمود الزيباوي

تحوّل الجامع الأموي الكبير في حلب ساحة حرب تتواصل فيها الاشتباكات العنيفة منذ أكثر من ستة أشهر. بين كرّ وفرّ، تستمر هذه الحرب في محيط باحة الجامع وداخلها، فتتوسع رقعة الخراب فيه. في 14 تشرين الاول الماضي، أعلن الجيش النظامي السيطرة على المسجد التاريخي المصاب بأضرار بالغة من جرّاء هذه المعارك. بدورهم، أعلن مقاتلون معارضون أنهم تمكنوا أخيراً من اقتحام الجامع بعد معركة طاحنة. فيما يتبادل الطرفان المتصارعان أدوار “تحرير” الجامع، نقلت وسائل الإعلام المرئي صوراً تُظهر الخراب الكبير الذي لحق بهذا الصرح التاريخي البديع، وتحدّثت عن احتراق متحفه، وتضاربت الأخبار حول مصير محتويات هذا المتحف.

يقع جامع حلب الكبير في قلب المدينة القديمة، في حي سويقة علي، غرب القلعة، على مساحة من الأرض طولها 105 أمتار من الشرق إلى الغرب، عرضها نحو 78 متراً من الجنوب إلى الشمال، يماثل إلى حدّ كبير في مخططه وطرازه جامع دمشق، ويُعرف بـ”الجامع الأموي”، كما يُعرف بـ”جامع زكريا” بسبب دفن بعض من رفات هذا النبي فيه. المعروف أن المسجد الأموي في دمشق يحوي رأس النبي يحيى، ابن النبي زكريا. بحسب الرواية الشائعة، شيّد الخليفة الأموي السابع سليمان عبد الملك هذا المسجد ليضاهي به الجامع الذي بناه أخوه الوليد في دمشق، وتقول مصادر أخرى إن مسجد حلب هو أيضاً من بناء الوليد. في أوائل الخلافة العباسية، نُقلت حجارة المسجد وزينته إلى جامع الأنبار. بعدها، تعرّض الجامع للحرق على يد أمبراطور الروم نقفور فوكاس في عام 962، ثم أصلحه بعد فترة وجيزة ورمّمه الأمير الحمداني سعد الدولة. في عام 1169، خرب الصرح بعدما شبّ حريق كبير فيه، فأعاد الملك العادل نور الدين زنكي بناءه، كما عمل على توسيع مساحته. ازدهر المسجد في زمن المماليك، واتخذ شكله الحالي بشكل أساسي في عهد ثلاثة سلاطين تعاقبوا على الحكم في الربع الأخير من القرن الثالث عشر، الظاهر بيبرس، الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون، والناصر محمد بن قلاوون.

أحسن الجوامع وأجملها

في “الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة”، نقل ابن شداد طائفة من أخبار جامع حلب الكبير، وحدّد مراحل بنائه من العصر الأموي إلى العصر المملوكي. وفقاً لهذه الرواية، “كان موضع الجامع بستاناً للكنيسة العظمى في أيام الروم، وكانت هذه الكنيسة تُنسَب إلى قسطنطين باني القسطنطينية”، “ولما فتح المسلمون حلب صالحوا أهلها على موضع المسجد الجامع”، وكانت الجهة الشمالية من الجامع مقبرةً للكنيسة المذكورة. “كان جامع حلب يضاهي جامع دمشق في الزخرفة والرخام والفسيفساء”، وقيل “إن سليمان بن عبد الملك هو الذي بناه وتأنّق في بنائه ليضاهي به ما عمله أخوه الوليد في جامع دمشق. وقيل إنّه من بناء الوليد”. “ويقال إن بني العبّاس نقلوا ما كان فيه من الرخام والآلات إلى جامع الأنبار لمّا نقضوا آثار بني أميّة من بلاد الشام وعفّوها ولم يزل على هذه الصفة إلى أن دخل نقفور حلب في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة فأحرقه”.

نقفور هو الإسم الذي عُرف به الأمبراطور نيكيفوروس الثاني فوكاس في كتب التراث العربية، وهو القائد “اللعين” الذي استولى على السلطة إثر وفاة الأمبراطور رومانوس الثاني مسموماً في عام 963، بمساندة من أرملة الأمبراطور التي سعت إلى حماية أولادها من الذين تآمروا على زوجها. تُوّج نيكيفوروس أمبراطورا في القسطنطينية إلى جانب أبناء الأمبراطورة الأرملة، وطمع بـ”استعادة” سوريا من العرب، فاجتاح معرة النعمان وكفر طاب، ثم دخل حمص وحماه، وسيطر على الساحل، فاستسلمت له اللاذقية، واستمرّ في التقدم، فاستولى على إنطاكيا، ومنها تقدّم نحو حلب. اختزل أبو الفداء أخبار هذه الحملة، وكتب في “المختصر في أخبار البشر”: “سارت الروم إلى الشام، ففتحوا إنطاكيا بالسيف، وقتلوا أهلها، وغنموا وسبوا، ثم قصدوا حلب، وقد تغلّب عليها قرغويه، غلام سيف الدولة بن حمدان، بعد طرد ابن أستاذه أبي المعالي عنها، فتحصن قرغويه بالقلعة، وملك الروم مدينة حلب وحصروا القلعة، ثم اصطلحوا على مال يحمله قرغويه إلى ملك الروم في كل سنة، وكانت المصالحة بحمل المال المقرر على حلب وما معها من البلاد، وهي حماة وحمص وكفر طاب والمعرة وأفامية وشيزر وما بين ذلك، ودفع أهل حلب الرهائن بالمال إلى الروم، فرحلت الروم عن حلب، وعادت المسلمون إليها”.

رمّم سيف الدولة بعضَ ما تهدّم من جامع حلب، وتولّى ابنه أبو المعالي من بعده مهمة تجديده. وشارك قرغويه حاجب سيف الدولة في هذا التجديد، كما ساهم فيه بنو عمّار، أصحاب طرابلس. زار الرحالة المغربي ابن جبير حلب في تلك الحقبة، وتوقّف في جامعها الكبير، وكتب في وصفه: “هذا الجامع من أحسن الجوامع وأجملها، قد أطاف بصحنه الواسع بلاط كبير متسع مفتح كله أبواب قصرية الحسن إلى الصحن، عددها ينيف على الخمسين باباً، فيستوقف الأبصار حسن منظرها، وفي صحنه بئران معينان. والبلاط القبلي لا مقصورة فيه فجاء ظاهر الاتساع رائق الانشراح. وقد استفرغت الصنعة القرنصية جهدها في منبره، فما أرى في بلد من البلاد منبراً على شكله وغرابة صنعته، واتصلت الصنعة الخشبية منه المحراب فتجللت صفحاته كلها حسناً على تلك الصفة الغريبة. وارتفع كالتاج العظيم على المحراب، وعلا حتى اتصل بسمك السقف، وقد قوس اعلاه وشرف بالشرف الخشبية القرنصية، وهو مرصع كله بالعاج والأبنوس، واتصال الترصيع من المنبر المحراب مع ما يليها من جدار القبلة دون أن يتبين بينهما انفصال، فتجتلي العيون منه أبدع منظر يكون في الدنيا، وحسن هذا الجامع المكرم أكثر من أن يوصف”.

بحسب رواية ابن شداد، احترق الجامع في عام 1169، فأعاد نور الدين زنكي بناءه. كان المسجد يومها ملاصقاً لسوق، موقوفاً عليه، وأحب نور الدين أن يضمّ هذا السوق إلى الجامع لتوسيع حدوده، “فاستفتى في ذلك الفقيه علاء الدين أبا الفتح عبد الرحمن بن محمود الغَزْنَويّ فأتاه بجوازه، فنقض السوق وأضافه إلى الجامع واتّسع المسجد وحسن في مرآة العين”. في عام 1260، استولى التتر على حلب، ودخلوا إلى الجامع، وأحرقوا فيه خلقاً كثيراً، كما أحرقوا الحائط القبلي منه، وأمتدّ الحريق غرباً إلى المدرسة الحلاوية. أعيد بناء المسجد في أيام الملك المنصور سيف الدين قلاوون، في عهد نائب حلب المملوكي قراسنقر، وأُنجز هذا البناء في عام 1285 كما تشهد الكتابات المنقوشة على المحراب الكبير: “بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بعمارته بعد حريقه مولانا السلطان الأعظم الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون أعز الله نصره”، “بالإشارة العالية المولوية الأميرية الشمسية قراسنقر الجوكندار الملكي المنصوري كافل المملكة الحلبية المحروسة أثابه الله وحرسه في رجب سنة أربع وثمانين وستمئة”. تواصل العمل على تزيين المسجد في عهد المماليك، ونجد في الحرم منبراً مملوكياً بديعاً من الخشب المُطَعّم بالعاج صُنِعَ في عهد السلطان الناصر محمد في القرن الرابع عشر الميلادي، كما يُستدلّ من كتابة منقوشة: “عمل في أيام مولانا السلطان الملك الناصر أبي الفتح محمد عز نصره”، “عمل العبد الفقير إلى رحمة الله محمد بن علي الموصلي”، “بتولي العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن عثمان الحداد”.

يتميّز جامع حلب الكبير بمئذنته القائمة في الجهة الشمالية الغربية من الصرح، وتُعَدّ من أجمل المآذن التي خلّفتها العمارة الإسلامية في سوريا. مربّعة الشكل، ويبلغ ارتفاعها حوالى خمسة وأربعين متراً، أما طول ضلعها فنحو خمسة أمتار. بنيت هذه المئذنة على مراحل في الربع الأخير من نهاية القرن الحادي عشر، واكتملت في عهد السلطان تتش بن ألب أرسلان. تحمل هذه المنارة كتابات عديدة، منها نقش يستعيد كلمات من سورة البقرة: “بسم الله الرحمن الرحيم. وإذ يرفع ابراهيم القواعد”. ونقش بالخط الثلث يقول: “بسم الله الرحمن الرحيم إن الله وملائكته يصلون على النبي”. ونقش مدوّن في إطار مزخرف يحمل اسم سلطان دمشق تتش بن ألب ارسلان: “بسم الله الرحمن الرحيم. شهد الله تبارك أمر بإتمام هذه البنية في دولة السلطان المعظم أبو سعيد تتش بن محمد ناصر أمير المؤمنين”.

للجامع الأموي في حلب أربعة أبواب. الباب الشمالي إلى جوار المئذنة، وينفذ الباب الغربي إلى شارع المساميرية، كما ينفذ الباب الشرقي إلى سوق المناديل، وينفذ الباب الجنوبي إلى سوق النحاسين. يدخل الزائر إلى صحن واسع مزيّن ببلاط رخامي جميل تتعاقب عليه تشكيلات هندسية تجمع بين اللونين الأصفر والأسود، ويعود هذا البلاط إلى الحقبة العثمانية. في وسط ساحة الجامع الممتدة كبساط، ترتفع ميضأتان على شكل زهرتين معماريتين تظللان قاصديها للتطهّر.

الخراب الهائل

تُظهر الصور الحديثة الخراب الهائل الذي أصاب المسجد حيث تستمر  المواجهات في حي السبع بحرات في وسط حلب وفي احياء المدينة القديمة وقرب القلعة الاثرية ومحيط الجامع الاموي. وتتحدث آخر الأخبار عن  نسف السور الجنوبي للجامع، مما اسفر عن وقوع اضرار كبيرة فيه وفي المنطقة المجاورة. يتلاحق مسلسل التدمير في حلب، وتظهر صور الدمار الهائل الذي حل في “الزاوية الصيادية” في دار الافتاء، كما تظهر الخراب الذي حل في مواقع تاريخية أخرى لا تقلّ أهمية.

تتواصل اليوم المعارك في حلب كما في مناطق أخرى من الأقاليم السورية الواسعة، وتتعرض الكثير من المواقع السورية التاريخية للدمار. في المقابل، يتوسع نشاط “لصوص الحرب” الذين يتهافتون على نهب القطع الأثرية لبيعها في الخارج، كما تشير التقارير العالمية الخاصة بهذا الشأن. في نهاية شهر آذار الماضي، دعت منظمة الأونيسكو جميع أطراف النزاع في سوريا لحماية مواقع التراث الثقافي السوري بأشكالها كافة، وكررت هذا الدعاء في تموز، كما أعربت عن بالغ قلقها إزاء التقارير التي تفيد بوقوع مواجهات عنيفة في حلب وإزاء أخطار نهب الممتلكات الثقافية، وعمدت إلى تنبيه المنظمة العالمية للجمارك والمنظمة الدولية للشرطة الجنائية “الإنتربول” والبلدان المجاورة لسوريا إلى خطر الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية السورية.

في انتظار نهاية هذه الحرب المدمّرة، تتوسّع دائرة الخراب، وتفقد سوريا الكثير من الكنوز التي صنعت مجدها وعزّها، والحال التي وصل إليها جامع حلب الكبير خير دليل على ذلك.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى