صفحات الناسياسين الحاج صالح

جانب من سيرة الإشاعات السياسية في سورية/ ياسين الحاج صالح

 

 

إشاعات للتهدئة

لم يكد يمر وقت منذ الأسابيع الباكرة لاعتقالنا دون أن نسمع بشائعات عن قرب الإفراج عنا، نحن المعتقلين السياسيين في ثمانينات القرن العشرين. “يقولون” إن هناك “عفواً” عن المعتقلين بمناسبة العيد، أو في ذكرى “الحركة التصحيحية” (انقلاب حافظ الأسد في 16/11/1970)، أو بمناسبة “تجديد البيعة” (الاستفتاء على رئاسته مرة كل سبع سنوات) إلخ، يُبلغنا زائرونا أو زائرو بعضنا. وينسبون الكلام إلى ضابط في جهاز أمني، أو إلى رجل دين من هذه الجماعة الدينية أو تلك، أو إلى متمول كبير، وقد يتناهى “الخبر” إلى مصدر غير مُسمّى في “القصر”.

كنا في سجن حلب المركزي في “المسلمية”، عددنا نحو 100 أغلب الوقت، موزعون على عدد من التنظيمات السياسية المعارضة للنظام. ولم تكن لنا حقوق معلومة. كان كل شيء يسير بالعُرف: الزيارات متاحة، لكن قطعت فجأة على نحو مستغرب في شباط 1982 (وقت مجزرة حماة)، ومنعت عشرين شهرا بين عامي 1987 و1988. ولم نتلقّ عونا حقوقيا خلال تلك السنوات، أو نلتقِ بمحامين، أو نُقدم إلى محكمة أو نُتّهم بشيء، إلا في رييع 1992، أي بعد 11 عاما و4 أشهر من الاعتقال في حالتي الشخصية. وأهم من هذا كله أننا لم نكن نعرف كم سنبقى في السجن: أشهر، أعوام، أكثر، مدى الحياة، ربما نموت هنا! لا نعرف ولا يعرف أهالينا.

هذا هو المنبع الأول لشائعة قرب الإفراج عنا: نقص المعلومات أو انعدامها، وعدم وجود جهة أو مصدر للمعلومات الموثوقة في شأن قضيتنا. شائعات لا مصدر محددا لها هي البديل الوحيد المتاح عن معلومات لها مصدر معلوم. الثقة بالمعلومات هي الثقة بمصدرها.

وكان الافتقار إلى المعلومات مصدر كرب هائل لأهالينا. رابطت أمي يوما صيفيا طويلا على باب ضابط في المخابرات العسكرية في حلب كي تعرف شيئا عن اعتقال ابنها الثالث في صيف 1986، ولم تعرف؛ ورابط إخوتي أياما على باب مقر جهاز الأمن السياسي في دمشق في شتاء 1995 كي يعرفوا شيئا عن مصيري، ولم يعرفوا! كنت أنهيت لتوي 15 عاما في السجن، وبدل أن يفرج عني، انقطعت أخباري عنهم.

وكان للمعلومات ثمن كبير: باعت نساء إسلاميين وأخواتهم وأمهاتهم مصاغهن الذهبي أو “أهدينه” لأم رئيس سجن تدمر في الثمانينات (العميد فيصل غائم) كي تتوسط لهن عند ابنها ليعرفن إن كان الزوج أو الأب أو الأخ المفقود لا يزال حيا، وكي يزرنه دقائق في محبسه إن كان حياً. كان بيع المعلومات عن الحياة والموت مصدر ثروات هائلة في ثمانينات القرن العشرين.

كانت قضية الاعتقال السياسي في سورية سرا يعرفه الجميع، لكن يفترض بهم أن يتظاهرا بأنهم لا يعرفون عنه شيئا. التطرق إلى الموضوع علنا خطير جدا، والمسؤولون السوريون لا يذكرونه أبدا، ويُنكرونه إن صادف أن سئلوا عنه. والصحفيون الغربيون استبطنوا محرمات النظام السوري، فكانوا قلما يسألون حافظ الأسد أو أحد رجاله عن الأمر.

من المحتمل أن مراتب دنيا في النظام كانت تهدئ الأهالي بتعليلهم بإفراجٍ قريب عن أبنائهم أو أحبائهم، والأهالي اليائسون يُصدِّقون ما يسمعون، أو يفضلون تصديقه من أجل تقوية عزمهم، وعزم عضو الأسرة المعتقل.

أو قد يتعمد النظام إشاعة أخبار عن قرب الإفراج عن معتقلين، في أقنيته غير الرسمية. ومن المحتمل أن الغرض امتصاص ضغوط من جهة المجتمع وقت كان عدد المعتقلين في السجون والمقرات الأمنية بعشرات الألوف، أو أيضا اختبار تفاعل قطاعات من السكان مع المعلومات المُسرّبة. وهنا مصدر ثان للإشاعة، غير نقص المعلومات أو انعدامها، أعني التضليل المتعد أو نشر معلومات غير صحيحة من قبل أجهزة النظام.

وفي هذه الحالة الأخيرة فقط من الأنسب أن نتكلم على إشاعة، وليس على شائعة. كلمة إشاعة تحيل إلى فاعل قام بنشر المعلومة غير الصحيحة أو “إشاعتها”، وإن يكن الفاعل غير معروف، فيما تبدو الشائعة ذاتية التولد، معلومة غير صحيحة تنتشر بجناحيها الخاصين في أوساط بعينها. لكن في واقع الأمر، الشائعات لا تتولد ذاتيا، وليس هناك شائعات لا يعمل على إشاعتها مُشيع ما لغرض ما. كل الشائعات إشاعات أصلا. وفي الوقت نفسه، لا تعيش الإشاعة حياتها الاجتماعية، أعني لا تروج في وسط اجتماعي، في بيئة شيوع أو في “مَشاعٍ” ما، إلا إذا انفصلت عن مشيعيها، وتعذرت نسبتها إلى مصدر بعينه. بهذا المعنى كل الإشاعات شائعات.

وهاذ يثير سؤالا عن فاعل الإشاعة/ الشائعة: هل هو المُشيع الغامض الذي أطلقها؟ أم هو بيئات الشيوع التي تتداولها وتشيع في أوساطها؟ نميل إلى أنه بعد شيوع الإشاعة واستقلالها بحياة خاصة بها يتحول الفاعل من مشيعها الأول إلى بيئة الشيوع التي تضيف إليها وتعدل فيها وتحذف منها، بحيث تنفصل الإشاعة كثيرا، في مضمونها وفي وظيفتها، عن صيغتها الأولى.

وفي حالتنا كسجناء سياسيين في زمن سبق، من المحتمل أنه كان هناك مصدر ثالث للشائعات عن قرب خروجنا من السجن، غير نقص المعلومات وغير التضليل المتعمد، هو قنوط الأهالي وآمالهم، وقنوط السجناء وآمالهم أيضا. يحول الناس أشواقهم إلى وقائع، أو يعبرون عنها بصورة تصلح للتعبير عن وقائع. إنهم هم فاعلو الشائعة، ليس بمعنى أنهم هم من أطلقوها، ولكن بمعنى أنهم يوظفون فيها عواطف وأحلاما، تساعدهم على تحمل العيش في أوضاع قاسية. لقد صارت ملكهم. في إحدى الزيارات بعد سنوات من اعتقالي، قال والدي: أيام السجن معدودات! وهذا قول مأثور، فحواه أن زمن السجن مهما طال يبقى متناهيا. نقلت لرفاقي ما قال والدي، فبدا أشبه معلومة، وصِرت أسأل عن مصدرها! الحاجة إلى الأمل تنتج معلومات مواتية وعالم أقل إحباطا.

مضمون الإشاعة في وضعنا كمعتقلين سياسيين هو الشيء الذي نفتقر كل الافقار إلى معلومات عنه: متى يفرج عنا؟ بل ما هو مصيرنا؟ من وجهة نظر المعتقلين وذويهم، الإشاعة هي البديل عن معلومات غير متاحة. ومن وجهة نظر النظام الإشاعة هي عنصر مكمل من عنصر حجب المعلومات أو تزييفها، أو وسيلة لامتصاص ضغوط من الأهالي.

ولعله يمكن التكلم على مثلث للإشاعة، نقاطه هي الجهة المروِّجة التي تملك السلطة والمعلومات (الجهاز السياسي الأمني)، ثم الجهة المستهلكة التي يراد تهدئتها أو تضليلها في المجتمع (أهالي المعتقلين)، ثم الجهة موضوع الإشاعة التي هي نحن، مجموعة المعتقلين السياسيين وقتها. تروج شائعات بعينها في أوساط بعينها يعنيها مضمون الشائعات، شائعات الإفراج عن المعتقلين مثلا بين أهالي المعتقلين، وليس بين طلاب الجامعات مثلا، أو أوساط الفنانين مثلا. بالمقابل، لا تروج الشائعات عن الفنانين بين أمهات المعتقلين، التربة ليست خصبة لرواجها هنا.

ذو دلالة أنه حين أحلنا إلى محكمة أمن الدولة في ربيع 1992، تراجعت الإشاعات بفعل انكسار ضلعين من أضلاع مثلث الإشاعة: الجهة المروّجة التي لم تعد مضطرة لضخ متعمد أو عفوي للشائعات، والجهة المستهلكة التي صارت تتلقي المعلومات عن سير المحاكمة وتحولات وضع المعتقلين ومصيرهم منهم مباشرة. كنا قد اتهمنا بجرائم متعددة، من بينها “إشاعة” أخبار كاذبة من شأنها توهين نفسية الأمة! كان النظام الذي ترك محكوميه في الظلام بشأن مصير عشرات الألوف منهم يحاكم بعض هؤلاء بتهمة نشر الإشاعات الكاذبة!

إشاعات للتشويه

منذ وقت مبكر من الثورة السورية أشيع أني، بين معارضين آخرين، منهم رزان زيتونة ورياض الترك، مقيم في السفارة الأميركية في دمشق. الموقع الذي نشر “الخبر” ظهر بعد الثورة السورية، وهو مرتبط بأحد أجهزة مخابرات النظام، الملفّعة كما هو معلوم بالسرية والغموض. هنا ثمة مصدر معلوم شكليا، لكنه غير معلوم فعليا، ويتعذر كليا إجراء “تحقيق” عنه. وأخبار الموقع في أكثرها من صنف “البروباغاندا السوداء”، تتناول علاقات المعارضين ودخولهم المادية وروابطهم بقصص مختلقة بالكامل. وبينما تريد الشائعات عموما أن تُصدّق، أن تعامل كمعلومات صحيحة، فإن هناك ضربا من الإشاعات يهدف مروجوها إلى التشويش وتقويض معايير التصديق وتدمير قدرة الجمهور على التمييز بين الصحيح والكاذب. هذا مثال آخر على التضليل المتعمد، وهو أمر تمرست به الأجهزة الأمنية السورية التي تعرف أن فرصتها في كسب معركة الحقيقة معدومة، لذلك تفضل تقويض فكرة الحقيقة كليا.

في الوقت نفسه قيل إن لي عصابات مسلحة، تغتال أشخاصا وتقتل جنودا. كنت خلال هذا الوقت متواريا في دمشق، وينشر لي مقال أو أكثر كل أسبوع يتناول جوانب من الشؤون السورية. وكان من مألوف الإيديولوجية البعثية السورية أن تحول “تحليلاتها الموضوعية” إلى وقائع فعلية. فإذا كنتَ “معاديا للوطن” ومنخرطا في “المؤامرات الخارجية” عليه، وهذا محقق لكونك معارض للنظام جذريا، يستوي أن تكون لديك فعلا “عصابات مسلحة” أو لا تكون، أن تقيم فعلا في السفارة الأميركية أو لا تقيم؟ المهم هو “الشراكة الموضوعية” وخدمة الهدف نفسه. فإذا كنا شركاء، فلماذا لا تكون “العصابات المسلحة” عصاباتي فعلا؟ ولم لا أكون مقيما في “السفارة الأميركية”؟

وما أهمية الوقائع الفعلية، إن كان المخطط العام معروفا؟ المقصد العميق المنبث في الأحداث والوقائع؟ من شأن الإلحاح على الوقائع الفعلية أن تشوش وضوح المخطط، “المؤامرة”، التي هي الواقع الحقيقي. هنا تكون الشائعة هي الواقع الأصح من الوقائع القابلة للمعاينة.

القصد أن هناك أساسا معرفيا للإشاعة، يتمثل في تبخير الواقع القابل للمعاينة على مذبح شهوة الإحاطة الكلية بالواقع وسلطة الحكم. كلمة حكم بالعربية تعني التقرير في شأن الصواب أو الخطأ، كما تعني سياسة الناس وإدارة شؤونهم. كانت أجهزة حكم حافظ الأسد تصف الحاكم حافظ الأسد بأنه القيادة التاريخية “الحكيمة”.

عد عامين، وكنت حينها في الغوطة الشرقية، سئلت في مقابلة صحفية عبر الانترنت عن إقامتي في السفارة الأميركية من قبل صحفي أقرب إلى النظام. قلت إنها إقامة مريحة وآمنة، وأني استمتع فيها بصحبة معارضين آخرين. كان غرضي تفجير الإشاعة بتبنّيها. هذا ما وقع فعلا، لكن ليس قبل فصل فكاهي إضافي. الموالون للنظام والمعادون للثورة السورية وجدوا في إجابتي المتصنعة للجدية إقرارا قاطع الدلالة على ما كانوا يقولونه أصلا من أن الثورة السورية صناعة أميركية، ومنهم أستاذ جامعي لبناني يدرس في جامعة أميركية، ومنهم شاعر سوري شبه معروف، قال إنه كان يعلم قبل “اعترافي” بوقت كاف بإقامتي في السفارة الأميركية، فقد أخبره بذلك “معارض وطني” بينما كانا يشربان القهوة في مقهى دمشقي!

هذا تمرين على كيفة تحويل لا شيء إلى شيء كبير حين تتملك شهوة “الحكم” الناس. ما كان ممكنا لولا ذلك أن يصدق شاعر ستيني وأستاذ جامعي خمسيني أن الأميركيين سيعطون مفاتيح سفارتهم المغلقة لمعارضين يساريين سوريين، يصادف أنهم الأشد عداء نظام للسوري؟ وكيف أن المخابرات السورية التي “تعرف” مثلهم هذه “المعلومات” لم تستفد منها؟ غير المصلحة والهوى، مرجع الأمر هو تبخير الوقائع الصلبة في مخطط مجرد يشكل النسخة الصحيحة من الواقع. استغفل الأستاذ والشاعر نفسيهما لأنهما أرادا استغفال غيرهما والاستئثار لنفسيهما بـ”الحكم”.

في كل حال، الإشاعة هنا أداة في الصراع السياسي، والغرض منهم تحطيم قضية الخصوم.

إشاعات للتمويه

منذ اختطفت زوجتي سميرة الخليل مع رزان زيتون ووائل مادة وناظم حمادي من مدينة دوما في الغوطة الشرقية ليلة 9/12/2013 لم تتوقف الأشاعات عن مصير الأربعة. كانت رزان، المحامية والكاتبة ومؤسسة “مركز توثيق الانتهاكات” تعرضت لتهديد من “جيش الإسلام”، التشكيل العسكري السلفي المسيطر في دوما، قبل الاختطاف بأسابيع قليلة. ليس لديّ دليل قطعي مباشر، لكن من معرفتي بالواقع على الأرض، ومن معلومات أخرى، أجزم أن التشكيل المذكور مسؤول عن الخطف. قالت الشائعات كل شيء: إن النظام خطفهم عبر خلايا سريّة له، أو إنهم عند “جبهة النصرة” (هذا وارد بالترتيب مع جماعة “جيش الإسلام”)، وأن شخصا ما شاهد رزان في سجن ما، وأن هذا أو ذاك من الأربعة موجود في سجن آخر. وفي إيحاء بأنه يجري تحقيق جدي بالأمر، أشاع قائد التشكيل الأخير نفسه قبل حين أن هناك لجنة خاصة تحقق في القضية، وأنها عثرت على “طرف خيط”، وأالمح إلى “اتجاهات خارجية” لها ضلع في الجريمة، هذا قبل أن يشكو من التركيز على قضة رزان وأصدقائها، وإهمال قضية المعتقلين عند النظام و”نساء المسلمين” المعتقلات.

هنا أيضا مصدر الإشاعة هو ندرة المعلومات وغياب مصدر موثوق للمعلومات مستقل عن الفاعلين السياسيين. ولا يبعد أن بعض الإشاعات عُممت كمعلومات مضللة عمدا. أنا على اطلاع على حالة واحدة عل الأقل، زعم فيها أن تشكيلا لم يسمع به أحد هو المسؤول عن الجريمة.

في حالة “مخطوفي دوما الأربعة” ليس مصدر الإشاعة هو النظام وأجهزته، بل سلطات أخرى جديدة و”حاكمون” جدد: على الناس، وبصوابهم الذاتي. هذا واقع جديد في سورية التي كانت الإشاعة فيها تسير دوما في ركاب سلطة الدولة أو ترافقها كظلها. فمثلما انكسر احتكار السلاح بعد الثورة، ومثلما انكسر احتكار الصواب انكسر احتكار التضليل، ومع انكسار التعتيم الرسمي، انكسر احتكار الإشاعة أيضا. يمكن القول إن الإشاعة من أسلحة السلطة غير المراقبة، تشوش بها المجتمع وتضعف قدرته على مساءلتها، وتخيفه من أخطار ودواهم لا يحيط بها.

إشاعات الخوف استفادت منها داعش بخاصة، فمن أجل إفراغ مناطق من سكانها أو تقليلهم فيها، كانت توصل إليهم تحذيرات، أو تسأل عنهم في محيطهم. وهذا كاف كي يفر كثيرون من وجهها. معلوم أنها قامت بأ‘عمال إجرامية كثيرة تضفي صدقية على الخوف منها.

وهذا المثال يفيد بأن قوة الشائعة تتناسب طردا مع قوة الطرف الذي روجها أو تُروّج عنه من جهة، وغموض هذا الطرف من جهة أخرى.

*****

تعتمد الحالات الثلاث المذكورة على الخبرة الشخصية كما سبق القول، كنت سجينا في الحالة الأولى، ومتلقيا مثل رفاقي للشائعات عن مصيرنا؛ ثم متواريا في الثانية، وموضوعا لشائعات؛ ثم من أهالي المخطوفين بصفتي زوجا لمخطوفة وصديقا لمخطوفين ومتلقيا من جديد لإشاعات كثيرة. والحالات الثلاثة تقع في مدارات السياسة، سياسة نظام مغلق، يتصرف مثل منظمة سرية، وكطرف خاص لا كسلطة عمومية مسؤولية. وهو ما ينطبق أيضا على تشكيلات عسكرية سلفية، تتصرف بدورها كأجهزة أمنية. في جميع هذه الحالات المسافة بين السياسة والجريمة ليست كبيرة، ولدى الأطراف كلها الكثير مما تريد ألا ينكشف. الشائعة هي الوجه الآخر للسلطة السرية.

هل يقاوم الناس الإشاعات؟

إذا كانت الحقيقة هي دوما أولى ضحايا الحرب، فقد عاشت سورية طوال نصف قرن في شروط حربية أو شبه حربية، أضعفت أكثر مما هو ضعيف أصلا مطلب معرفة الوقائع الفعلية في الوعي العام. معلوم أن حالة الطوارئ فرضت منذ اليوم الأول للحكم البعثي بذريعة الحرب مع إسرائيل. كان هذا استيرادا لمنطق الحرب إلى الداخل الوطني، وإعداما لشروط ولادة الحقيقة، أعني التقصي المستقل والنظر في الوقائع ومقابلة الروايات المختلفة.

في الشروط الحالية يتشكك الناس في بعض الرويات، لكن ليس من موقع الوقائع القابلة للمعاينة، ولا استنادا لمنطق “طبائع العمران” وما يمكن وما يمتنع، هذا قلما يتاح في شروط الحرب المضاعفة، الحرب الساخنة الجارية فعلا على أرضية حرب باردة أطول، وافتقارنا لمواقع مستقلة للبحث والتحقق مما يجري، وبالأخص ثوة الأهواء والانفعالات مما يميز الثورات والحروب في كل وقت.

يعزز من ذلك أيضا شرط امتثالي ليس نادرا في السيكولوجية الاجتماعية السورية، يتكثف في عبارات من نوع: “لا دخان بلا نار”، أو “لو لم يكن فلان فعل شيئا لما اعتقلوه”! والحال أن هناك الكثير من الدخان بلا نار في عالم اليوم، وأنه يمكن نشر الدخان في مكان من أجل إخفاء النار في مكان آخر، وأن اعتقال المرء أو اختطافه يقول شيئا عن الفاعلين، وليس بالضرورة عن الضحية. ولا يندر في شروط كالشرط السوري الحالي أن يعامل الواحد منا بسوء خاص لكونه هو من هو، وليس لأنه فعل شيئا ما. كلنا يمكن أن نكون متهمين إن كان خطأ الواحد منا هو ما يكون، وليس ما يفعل منتهكا قاعدة عامة مقررة. الطائفية هي هذا: أنت مخطئ لأنك منهم، هم الجماعة الخطأ، وأنا صح لأني منا، نحن جماعة الحق! أعني أن قيمة الأشخاص تابعة لهوياتهم وأصولهم لا لأفعالهم. والقتل على الهوية مؤسس على الانتماء وليس على الفعل. .

نتكلم على الطائفية لأن الطوائف يمكن أن تكون “مشاعات”، تشيع فيها شائعات خاصة قلما تشيع في غيرها أو خارجها. بل إن الطوائف أطر اجتماعية خاصة لشائعات خاصة هي مصدر تلاحم الطوائف، وأحد جوانب سردياتها عن نفسها وغيرها. ويتناسب شيوع الشائعات الطائفية في المجتمع ككل مع كون الموضوع محرما أو تابو في النقاش العام. نصطدم هنا أيضا بشرط ندرة المعلومات أو بالتضليل المتعمد.

وخلافا لما يؤمل، فإن ثورة وسائل الاتصال لا تحد من غزو الإشاعات. فما يساعد على التقصي ويوفر معلومات موثوقة، يوفر وسيطا أيضا لانتشار الأكاذيب الواقع المزورة. وبقدر ما أتبين من المثال السوري فإن المشتغلين في أجهزة نشر سرديات مضللة أقوى عزما في خدمة قضيتهم من المشتغلين على التقصي والبحث المستقلين عن الحقيقة.

إبطال الشائعات: الارتياب بالسلطة ومراقبتها

مع ذلك لسنا عزلا تماما أمام الإشاعة. يمكن أن نقابل رويات بروايات ونتبين نقاط ضعف وثغرات كل منهما. وقت وقوع المذبحة الكيماوية في غوطة دمشق الرقة في آب انتشرت عند أوساط سورية وأوساط دولية، وقبل الجميع عند النظام وابتداء منه، إشاعة تقول إن معارضين هم من استخدموا السلاح الكيماوي. وأجهد نفسه نحو 9 شهور ليخرج بهذه النظرية ذاتها الصحفي الأميركي سايمور هيرش. المشترك بين الأطراف جميعا أن أحدا لم يحاول الاتصال بسكان الغوطة، وفيها اليوم نحو ربع مليون، ويسألهم إن كان هناك من يهمس بوجود سلاح كيماوي في المنطقة أو باحتمال أن معارضين هم من استخدموه. ثم هناك الاعتماد على السوابق: للنظام الأسدي سوابق في استخدام السلاح، ربما بلغت الثلاثين قبل هجوم آب 2011.

هذه أشياء تسعف في التمييز بين المعلومة والشائعة، بين خبر يمكن التوثق منه وبين شائعة كاذبة. الخبر يقول شيئا عن واقعة، الشائعة تقول شيئا عمن أطلقها.

لكن بينما يستطيع أفراد التوثق مما هو متداول من معلومات، فأن فرص ضبط الإشاعات في مجال السياسة مرهونة بوجود مواقع مستقلة للتقصي والبحث غير المغرض. أما على المستوى الاجتماعي العام، فإن مقاومة فعالة للشائعات السياسية تقتضي بخاصة وضع مواقع السلطة تحت المراقبة، وشفافية أكبر في صنع السياسة.

لدينا في اللغة العربية قول منافق ينص على أن: كلام الملوك ملك الكلام! أو ببساطة أن حكامنا هم حكماؤنا. والحال أننا نحتاج إلى تطوير استعاداد معاكس، يقول إن الملوك كذابون، وإن كلام الملوك، أي أصحاب السلطة، غير صحيح إلى أن يثبت العكس، وأنه كلما كان المتكلم صاحب سلطة أكبر وجب إخضاع أقوال وأفعاله لتقص اجتماعي أوسع. وأن الحكام طائشون وغير مسؤولين، ولا يندر أن يكونوا مجرمين.

المعلومات أداة حكم أساسية وأداة مقاومة أساسية في المجتمعات كلها. في بلدنا يحتكر قطب الحكم المعلومات من أجل يحكم على الناس ويحكم بالصواب والخطأ، فيجرد الناس من القدرة على التمييز والحكم والوجه في الواقع، ويضعهم في موقع المتهين الملومين. الفصل بين السلطة والمعلومات، بين الحكم والحكم، أساسي إن شئنا تطوير أوضاع سياسية تحررية وديمقراطية.

الشائعة حسب كل الأمثلة التي أوردنا فوق تسير في ركاب السلطة غير المراقبة. من شأن مراقبة السلطات، الملوك والحكام، أن تبطل قدرتهم على نشر إشاعات تضلل المحكومين المحرومين من المعلومات والسلطة، وتحصن استئثار الأقوياء بالحكم والحكمة.

 

تُقتصر هذه المقالة على تناول الشائعات السياسة في “سورية الأسد”، وتحاول النظر في ما تخفي وتكشف استنادا إلى تجارب وخبرات شخصية للكاتب.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى