صفحات الحوار

جان دوست: الترجمة تحرير للنصوص من سجون لغاتها  

 

 

حاوره/كمال الرياحي

جان دوست كاتب سوري كردي، وكالعديد من المثقفين الكرد لوّحت بهم الأقدار ليعيشوا في الشتات. يقيم منذ سنوات في ألمانيا ويكتب بالكردية وبالعربية.. يترجم النصوص الكردية إلى العربية وينقل العربية إلى الكردية. هو مسافر دائما بين ثقافتين تتحاوران أكثر مما تتناحران.

في هذا الحوار، تحاول الجزيرة نت أن تجرّه إلى التأمل في تجربته المترامية.

أنت تكتب نصا إبداعيا مهجرا عن لغته الأصلية. نصك له هوية مزدوجة أو متعددة، هوية تقف وراءها ثقافات مهجنة، كرنفالية على حد تعبير باختين: ألمانية وعربية وكردية. الكتابة بلغة الآخر -خصوصا لغة الثقافة المهيمنة- ليست مسألة بديهية، لأنها عملية تهجير وتوطين ومناقلة ثقافية في الوقت نفسه. ونحن نتأمل تجارب كتاب مهاجرين آخرين كسلمان رشدي وأنطون شماس وكاتب ياسين ورفيق شامي وآخرين، فكيف تعرّف تجربتك أنت؟ ما الذي سقط منك وما الذي التقطته في هذه الطريق الوعرة؟

تجربتي تختلف ولا شك عن تجارب من جاءت أسماؤهم في متن السؤال. أنا كردي القومية هذا صحيح، لكنني لم أجد نفسي في أي يوم من الأيام غريبا عن اللغة العربية ومناخاتها الثقافية الواسعة. رفيق الشامي مثلا وفد إلى ألمانيا دارسا فتعلم لغتها وكتب بها، أي أنه طارئ على الثقافة الألمانية، وافد من خارجها. أما أنا فأعتبر نفسي ابن الثقافة العربية بالرضاعة.

لست وحدي كذلك بل كل أسلافي من الشعراء والمبدعين الكرد تحركوا في إطار دائرة ثقافية أوسع من دائرتهم القومية، هي الثقافة الإسلامية. العربية لغتي كما هي الكردية وهنا تكمن المعاناة الحقيقية. تتنازع لغتان في الاستحواذ على عقلي وروحي. أنا قطعة حديد أقف بين مغناطيسين لهما قوة جذب هائلة.

بدأت بالعربية ثم الكردية وبقيت إلى فترة متأخرة أجتنب عن قصد كتابة الإبداع بالعربية لاعتبارات قومية صرف. ثم رأيت أنني ناكر لجميل العربية عليّ إن بقيت في دائرتي القومية الضيقة، فكتبت بها أول نصين إبداعيين بعد هجران طويل: “عشيق المترجم”، و”دم على المئذنة”. ولا أنسى أن العربية رافقتني في كتب أخرى كالترجمة والبحث.

لماذا تكتب بالعربية، وتترجم من العربية إلى الكردية ومن الكردية إلى العربية؟ أهو سفرٌ متسامح بين اللغات، أم ثمة أغراض أخرى تضمرها أثناء التأليف والترجمة؟ هل العربية شريك للكردية كما يقول سليم بركات حقا؟

أكتب بالعربية لأنها جزء من روحي. لا أقول ذلك مجاملة. كيف أهمل لغة المعري مثلا، لغة الشك والريبة والتأمل والفكر؟ لقد نهلت من ينابيع العربية معارف كثيرة وهي صاغتني بمهاراتها العظيمة. بالنسبة للترجمة لا أغراض مضمرة، الترجمة كما أردد دائما تحريرٌ للنصوص من سجون لغاتها الأصلية.

هي جسر لا بد من بنائه بين الثقافات المتجاورة على الأقل. الترجمة ضرورة معرفية. أما قول بركات بالشراكة بين اللغتين العربية والكردية فصحيح لكنها شراكة غير متكافئة، ليست هناك ندية للأسف، الكردية التي تم إهمالها وتهميشها بل محاربتها على مدى سنوات طويلة وفي ظل غياب دولة كردية مركزية لمئات السنوات، وصلت إلينا هزيلة ضعيفة مصابة بآفات كثيرة. الآن هناك محاولات جادة وناجحة لإحيائها وقد بلغت في إقليم كردستان العراق مرحلة متقدمة جدا.

تحرير اللغة من سطوة أهلها، وعودة الابن الضال إلى بيته. كيف تفهم هذه العبارة فيما يخصك ويخص قرارك بترجمة بركات إلى الكردية، وترجمة الأكراد إلى العربية؟ في أي ذات تذوب لحظة الترجمة؟

لا شك أنني لا أتحيز إلا إلى اللغة التي أترجم إليها، أنقل النص بعد أن أجعله عاريا تماما ليتسنى لي أن ألبسه الثوب الجديد. في حالة سليم بركات كانت الصعوبة هائلة، إنه مسكون بهاجس تفجير اللغة العربية من الداخل لاستخراج الأحجار الكريمة من مناجمها، يقف المترجم عاجزا أمام بلاغته الصادمة. ترجمة سليم بركات إلى أية لغة مغامرة كبيرة، لكن ترجمتي لرواية “الريش” تمت بالاتفاق معه، كنت أستشيره في كثير من المقاطع، بعبارة أخرى كنت أخون نصه بالإذن منه.

ولأعد إلى ما ورد في أول السؤال.. أنا لا أعتبر سليم ابنا ضالا في الكردية فهو ببساطة لا يستطيع التعبير بها، حينما نترجم سليم بركات ويقرؤه الكرد الذين لا يعرفون العربية يظنون أنهم يقرؤون نصا كتب في الأصل بالكردية، روح نصوص بركات الأولى خاصة (“فقهاء الظلام” و”معسكرات الأبد” و”الريش”..) هي روح كردية في جسد عربي.

نصك العربي نصٌّ مشحون بالفكر والفلسفة والتأملات، ولغتك العربية لغة “اعتكافية” قادمة من سحر ألف ليلة وليلة ومن أنماط لغوية تقليدية تعبر عن حالة عشق للغة في أصفى حالاتها. لكن ألا تعتقد أن هذا النوع من الكتابة الروائية بالذات -الذي يكاد ينعدم- يضعك في مأزق التهميش لدى الآخر الباحث عن كتابة ما بعد حداثية تواكب لغة العصر؟

أنا نويت الاعتكاف في محراب هذه اللغة الساحرة فعلا. تستهويني اللغة العربية القديمة بمعماريتها الباذخة وزخرفها الجميل، ولا يهمني أن أكتب رواية “تواكب العصر”، متعتي الخاصة أثناء الكتابة تهمني أكثر. حين أكتب وأبتكر استعارات خاصة بي وأوقظ براكين الخيال أصل إلى درجة من درجات الوجد الصوفي. لا يمكنني أن أكتب بلغة غير التي أكتب بها فأنا قادم إلى الرواية من عالم الشعر والشعر صورة قبل كل شيء. مأزق التهميش لم أفكر فيه، أنا لا أكتب لإرضاء “أهل السوق” ولا أريد أن أتعامل مع الإبداع تعامل “التجار” مع منتجاتهم.

أعرف أن رواية كالتي أكتبها ربما لن تروق لكثير من القراء، لكنني أراهن على أهل الذوق والنقاد الذين يمكنهم التعامل مع الروايات من زوايا نظر متعددة. لا يجوز لنا أن نختزل الرواية كجنس أدبي في لون واحد، هذا إجحاف بحق هذا الفن العظيم المتعدد الأشكال وطرائق السرد واللغة إلخ.. .شخصيا أميل إلى رواية الأطروحة، الرواية التي تحمل فكرة معينة وتسهب في الحديث عنها.

في “عشيق المترجم”.. تختار ميدان الترجمة من جديد لتقول ما هو أعمق عن الهويات والأعراق. هل الترجمة تعي صدام الحضارات والثقافات في عمقها أم ماذا بالضبط؟ ما الذي يريده عشيق المترجم من حكاياته؟

“عشيق المترجم” تحمل رسالة معينة، إنها رواية عصر هبّت فيه رياح التطرف على شعوب المنطقة من كل الجهات. هي كرواية تريد أن تقول إن الأدب يقف بقوة في خندق مواجهة التعصب المذهبي والتطرف والنزعات الشوفينية.

نحن شهود عصر باتت فيه الهويات سكاكين ينحر بعضها بعضا، ولا بد لي -كمثقف عانيت ويلات حروب الهويات شخصيا- أن أقول شيئا ما، لا بد أن أجعل روايتي حاملا لموضوعة الترويج للتسامح. ففي الإسلام أفكار عظيمة تدعو إلى التسامح وتستطيع أن تصبح منهجا معاصرا، لكن للأسف يتم تهميشها ويقوم مشبوهو النشأة بإبراز الوجه القاتم المتمثل بسفك الدم العشوائي والتفجيرات المرعبة هنا وهناك.

كيف ترى نفسك كاستثناء في هذه الساحة الأدبية العربية وكاستثناء في الساحة الأدبية الكردية؟ هل أنت “فرخ البط القبيح”؟ الذي وجد ضالته أخيرا؟

لا أدري إن كنت فرخ بط قبيحا أم طائر حجل؟ يشيع بين قومي الكرد أن الحجل عدو قومه لأنه يصيح في الشراك فيغري بقية الطير للوقوع فيه. تعرضتُ لانتقادات كبيرة لأنني كتبت باللغة العربية، اعتبرني كثيرون أنني أخون لغتي الأم. لا يهمني بالطبع ما يقال عني في هذا الصدد، العربية كما قلت في مقدمة روايتي “دم على المئذنة” ملاذي الهانئ وظلي الظليل حين أكتوي بهجير القومية.

“دم على المئذنة” نص يروي جريمة قتل الكردي للكردي، وبالعربية! أليست الكتابة عن هذا الموضوع كالسير في حقل ألغام؟

كانت الجريمة كبيرة حقا. أذهلني أن الكردي المتحرر حديثا يمكنه أن يرتكب مجزرة بنفس وحشية الحاكم غير الكردي. صدمة المجزرة التي ارتكبها فصيل كردي موالٍ لنظام دمشق في عامودا صيف 2013 وقتل على إثرها ستة شبان كرد مسالمين أعادت ترتيب أولوياتي، وأعادت كذلك صياغة وعيي القومي. أما التعبير عن ذلك بالعربية فله تفسيرات عدة، أولها أن العبارات الكردية ضاقت عن التعبير، اتسع المعنى فضاقت العبارة. أفكر حاليا في ترجمة الرواية إلى الكردية بإلحاح من أحد الناشرين الكرد ومن القراء الكرد الذي صدمهم أن أكتب عن موضوع قومي حساس جدا باللغة العربية.

الجزيرة نت

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى