صفحات الثقافةعبد الوهاب عزاوي

جثثنا وعتبة الحس


    عبد الوهاب عزاوي

  من الأحداث التي انغرست في ذهني كمعضلة غير قابلة للتفسير، الحادثة الشهيرة عندما وضع مارتن لوثر كينغ العديد من الأطفال “السود”، بعضهم لم يتجاوز السادسة من العمر، في مقدمة تظاهرة كانت سبقتها تظاهرة قمعها بوحشية رجال الشرطة والمطافئ مستخدمين كلاباً تنهش الأحياء. كانت فكرة مارتن لوثر كينغ عدم وجود من يقدر على إلحاق الأذى بطفل، حتى لو كان “أسود”. لكن النتيجة كانت مرعبة، ذلك أن الكلاب نهشت الجميع ولم تميّز بين طفل وسواه. تأثر العالم بصورة كلب ينهش طفلاً، مما خلق قضية دولية، اضطر على إثرها جون كينيدي إلى تقديم تنازل تجاه مطالب السود وكان قد تهرب من ذلك طويلاً. لا أعلم أين العقدة أو ذروة التناقض في تلك الحادثة. هل هي في انتهازية مارتن لوثر كينغ أو غبائه، عندما استغلّ الأطفال بهذه الطريقة، مع العلم أن منشأه ديني كنسي، أم أن الخطأ حصل لبلاهة الكلاب الوحشية التي لم تميّز الأطفال عن سواهم، أم أن الخطأ هو في ذلك العالم المتوحش الذي لم يتحرك عندما نهشت الكلاب رجالاً بالغين “كانوا سوداً أيضاً”، وتأثر عندما نهشت الأطفال؟ هل يتعلق الأمر بمجرد ارتفاع عتبة الحس، أم يتعلق بفكرة الغرابة؟ فلو نهشت الكلاب الأطفال على مدار بضعة أشهر لتعوّد العالم على ذلك. أليست الغالبية القاطبة للصور التي تأتينا عن المجاعات، تكون للأطفال والأمهات بأثدائهن المسطحة؟ الصور تبيّن جثث الأطفال، والذباب يتمرغ في وجوههم. كأن المجاعة لا تقتل الكبار. الضباع تنهش جثث الأطفال أيضاً كما فعل أبناء عمومتها من الكلاب في أميركا، ولكن بوحشية أقل، وبألم أقل. ألا نتذكر جميعاً الصورة الشهيرة لنسر أمام طفل يحتضر منتظراً موته ليأكله؟ مات المصوّر بعد الصورة بشهر، منتحراً كما أشيع. إن صدقت تلك الرواية، فهو لم يمت حزناً على الطفل بل قهراً من هذا العالم المتصنع والكاذب والمتوحش. إحدى الدراسات تقول إن ما ألقته أميركا من حبوب في البحر كان يكفي لوقف المجاعة في إفريقيا. هي أميركا نفسها التي لم تمنح السود حقوق المواطنة حتى أواسط الستينات من القرن الماضي. هي أميركا نفسها التي نفذت أكبر إبادة بشرية في العالم (112 مليون هندي أحمر). هو العالم البغيض نفسه الذي قرر ألا يتدخل أمام هول ما يجري لدينا، أمام جثثنا (أطفالاً وبالغين) تحت مطر قذائف النظام ومدفعيته وبراميل مروحياته وأحياناً سكاكين شبّيحته. بالتأكيد، المصالح السياسية هي أساس المشكلة، لكن جزءاً منها يكمن في أنهم ألفوا الرعب هنا أو تجاوزوا مرحلة الاستغراب.

كاتب وطبيب سوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى