صفحات الناس

جرابلس السورية المحررة: تمارين لعودة الحياة/ عمار الحلبي، عدنان علي

 

 

نفضت مدينة جرابلس شمالي سورية، غبار الحرب عنها، بعد أن استمرت لسنوات تحت حكم تنظيم “الدولة الإسلامية”، وذلك إثر سيطرة فصائل المعارضة السورية المقاتلة ضمن عملية “درع الفرات” عليها في 24 أغسطس/آب من العام الماضي. اليوم وبعد أكثر من ثلاثة أشهر من طرد “داعش” من المدينة، دخلت “العربي الجديد” إليها، لترصد أوضاع المدنيين فيها والبالغ عددهم حوالي 40 ألفاً، وأبرز احتياجاتهم، وما تم ترميمه بعد الحرب.

حركة شبه طبيعية

تبدو المدينة قد تعافت على الرغم من وجود بعض المنغّصات، فشوارعها ووجوه العابرين فيها تعطي انطباعاً بأن أهلها ودّعوا الحرب إلى غير رجعة، وكأن كل شيء على ما يرام. أحد أسباب العودة المقبولة نسبياً إلى الحياة في المدينة، هو رغبة السلطات التركية بأن تكون جرابلس نموذجاً للإدارة المحلية الرشيدة وللمناطق الآمنة في الأجزاء السورية المحررة من سلطة النظام السوري. هذه المناطق الآمنة التي تقترح تركيا منذ بداية الحرب السورية إقامتها، ورفض الغرب السير بها، تبدو تجربتها في جرابلس مقبولة جداً، بدعم تركي طبعاً، لكن أيضاً بإدارة محلية ذاتية لا تزال نواقصها محدودة بعد كل هذه الأشهر.

السوق الرئيسي في المدينة يعمل بطاقاتٍ لم يشهدها منذ سنوات، والحركة التجارية أخذت نحو التحسن بعد أن عاد جزء كبير من أبناء المدينة، وأُبعدت الآلة الحربية إلى أقصى حدٍّ ممكن. أسعار السلع داخل جرابلس انخفضت بعد توفّرها، وبينما بلغ ثمن الدولار الواحد حوالي 500 ليرة سورية، بلغ ثمن كيلو السكر 525 ليرة، والزيت 650 ليرة، والبندورة 275 ليرة، واللحوم الحمراء 2750 ليرة، والمازوت 200 ليرة، والبنزين 300 ليرة، وفقاً لما شاهد مراسل “العربي الجديد” في الأسواق.

ولكن على الرغم من عودة أعداد كبيرة من سكان جرابلس إلى منطقتهم بعد أن كانوا نازحين في تركيا ومناطق أخرى، فإن القطاع التعليمي ليس على ما يرام اليوم، فعدد المدارس لا يكفي لعدد الطلاب، إضافة إلى أنه لا توجد مناهج تعليمية واضحة لتدريسها إلى الطلاب. وقال رئيس المكتب التعليمي التابع للمجلس المحلي في مدينة جرابلس علي محمد لـ”العربي الجديد”، إنه تم تأهيل مدرستين في مدينة جرابلس وإعادة افتتاحهما لاستقبال الطلاب مجدداً، الأولى مدرسة صادق هنداوي بطاقةٍ تدريسية تبلغ 1200 طالب، والثانية مدرسة أحمد سليم ملا بطاقةٍ استيعابية تبلغ حوالي 800 طالب، مشيراً إلى أن جرابلس تحتوي على 104 مدارس إضافية لم يتم تأهيلها بعد.

وحول كفاية هاتين المدرستين لعدد الطلاب في المدينة، أجاب محمد: “رفعنا طاقتهما وجعلناهما تدرّسان بدوامين اثنين، لنصل إلى طاقة استيعابية قدرها نصف طلاب المدينة، في حين يبقى النصف الثاني من أبناء جرابلس خارج العملية التعليمية، إضافةً إلى أن النسبة الأكبر من المدرّسين دون رواتب حتى الآن”. لكن هاتين المدرستين تلقّنان الطلاب بلا وجود منهج تعليمي واضح. وفي هذا الصدد، أوضح محمد أنه يتم تدريس الطلاب حالياً “التحليل والتركيب” بسبب عدم اعتماد منهاج محدّد حتى الآن، لافتاً إلى أن هذا الأمر بانتظار الحصول على دعم لتزويد المدارس بمنهج تدريسي. في المقابل، قال مدرّس في مدرسة صادق هنداوي لـ”العربي الجديد”: “بدأت العمل بعد تحرير جرابلس بفترةٍ قصيرة، وحتى الآن لم أتقاضَ ولا ليرة”. وأضاف المدرّس الذي رفض ذكر اسمه، أن الراتب ليس المشكلة الوحيدة، لأن العملية التعليمية تحتاج إلى تأهيل مزيدٍ من المدارس، وإجراءاتٍ إدارية أكثر تنظيماً، يأتي على رأسها تحديد الكادر المؤهّل وتحديد عمله إدارياً وتحديد منهجٍ واحد، وعدد الطلاب في الصف الواحد ليُصار إلى تلقين المعلومات وفق المعايير المعروفة عالمياً.

خدمات صحية متوفرة

بعد السيطرة على جرابلس بشهرٍ كامل، افتتحت وزارة الصحة التركية مستشفى في مدينة جرابلس، لينضم إلى المستوصف السوري الوحيد داخل المدينة، إضافة إلى أن الوزارة حوّلت مدرسة غير فعّالة في جرابلس إلى مستشفى صغير يتسع لأربعين سريراً، وذلك تماشياً مع الحالات الصحية التي بقيت فتراتٍ طويلة من دون علاج. المستوصف السوري الذي تم افتتاحه بعد تحرير المدينة بأيام، وفيه 70 موظفاً بين طبيب وممرّض وإداري، وقدّم خدماتٍ إلى سكّان المدينة وريفها، وتمكّن من إجراء 9 آلاف معاينة وأكثر من مئة عملية جراحية، جرى إغلاقه منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بأمرٍ من الوالي التركي، إذ تم إبلاغ رئيس المنطقة الصحية بإخلاء المستوصف خلال ساعاتٍ من دون توضيح سبب الإغلاق، لتتركّز كل الخدمات الصحية في المستشفى التابع للصحة التركية.

واعتبر مدير المكتب الإعلامي لمدينة جرابلس وريفها، أبو قصي، أن المستشفى التركي يكفي لتغطية كل الحالات الطبية في مدينة جرابلس وريفها، كونه من المستشفيات الضخمة، التي تحتوي على أجهزة ومعدّات متطورة ويعمل على مدار 24 ساعة يومياً، ويقدّم العلاج والدواء بشكلٍ مجاني للمرضى. ولفت أبو قصي في حديث لـ”العربي الجديد” إلى أنه “لم يتم تحديد سبب إغلاق المستوصف السوري أو تحديد موعد لإعادة فتحه حتى الآن”.

مشاكل مستمرة

يغيب التيار الكهربائي عن المدينة لفترات طويلة، وينقطع في بعض الأحيان لمدة تزيد عن 24 ساعة متتالية من دون مبرر أو سبب واضح، وهو ما دفع بعض المؤسسات الاقتصادية للاعتماد على مولدات التيار الكهربائي لتسيير عملها. وأعاد أبو قصي السبب في هذا الانقطاع إلى الضغط الكبير على شبكة الكهرباء التي تم تخصيصها من تركيا للمدينة بشكلٍ مجاني بعد التحرير. وأوضح في حديثه لـ”العربي الجديد” أن “معظم المواطنين اتجهوا لاستخدام المدافئ التي تعمل على الكهرباء، وتحتاج لكمياتٍ كبيرة من التيار”، لافتاً إلى أن استخدام هذه المدافئ زاد الضغط على الشبكة وأدى لانقطاعها في أحيانٍ كثيرة. من جهته، لم ينكر عبد الهادي، وهو أحد سكّان جرابلس الذين عادوا من تركيا بعد تحريرها، أن معظم السكان يستخدمون المدافئ الكهربائية، لكنه عبّر عن استيائه من استمرار الانقطاع. وقال عبد الهادي لـ”العربي الجديد” إن “الكهرباء تستمر بالانقطاع لمدة أربعة أيام متواصلة، وهو ما جعل الأهالي يبحثون عن مصادر أخرى للكهرباء”، لافتاً إلى أن معظم السكان كانوا قد اعتادوا على انقطاع التيار لساعاتٍ طويلة في اليوم، لكن المنغّص أن تنقطع لمدة ثلاثة أو أربعة أيام متواصلة.

الرأي ذاته يتبنّاه المواطن أبو يحيى، الذي أوضح أنه عندما أوصلت تركيا التيار الكهربائي إلى المدينة بعد تحريرها، كان وضع التيار جيداً جداً ولا ينقطع إلا في أحوالٍ نادرة، غير أنه بعد شهرٍ واحد بدأت ساعات الانقطاع تزداد شيئاً فشيئاً حتى باتت تنقطع لأيامٍ متواصلة من دون سابق إنذار.

من جهة أخرى، تشكّلت في جرابلس محكمة مؤلّفة من قضاة ومحامين باقتراحٍ من “المجلس الأعلى للقضاء الحر” في حلب، وبتعاون بين الفصائل والمجالس المحلية، بغية إخماد حالة الفوضى التي تلت تحرير المدينة من تنظيم “داعش”. لكن الخلافات بين الفصائل أثّرت على عمل القضاء بشكلٍ واضح، وإن كان تأثيرها في جرابلس أقل مما هو عليه في مناطق أخرى، إلا أن بعض الخلافات بدأت تنشب بين الفصائل داخلها لتنتهي بسرعة من دون أن يكون لها تأثير كبير على حياة المدنيين. قبل أيام، اندلع خلاف بين فصيلين داخل مدينة جرابلس وتطوّر إلى اشتباكاتٍ امتدت لنصف ساعة، وأُغلق على إثرها عدد من مداخل الشوارع، لينفضّ الاشتباك لاحقاً. وعلى الرغم من أن هذه الحوادث نادرة الحصول، إلا أنها تتناقض مع إخلاء المدينة من المظاهر المسلّحة باستثناء الشرطة والأمن.

وتعليقاً على هذا الأمر، قال رئيس المكتب السياسي في “لواء المعتصم” مصطفى سيجري: “لا ننكر حدوث بعض التجاوزات الفردية، وقلنا سابقاً إننا نعمل على ترتيب الصفوف وتلافي أي أخطاء”. وأضاف في حديث لـ”العربي الجديد”: “كنا قد اتخذنا قرارات سابقة وجرى تنفيذها لإخراج جميع الفصائل خارج المدينة، ومثل هذه الأمور تحتاج إلى تكاتف جميع القوى الموجودة لتفعل دورها”، مؤكداً أنه “إذا قورن ما حدث من أخطاء مع مناطق ثانية فإنها لا تتعدّى 1 في المائة، لكن على الرغم من ذلك يجري العمل للتخلّص من كل الأخطاء الفردية أو تدخّل العسكريين في الشأن المدني”.

وناشد سيجري عبر “العربي الجديد” جميع السوريين أصحاب الخبرة والكفاءات والعلماء للعودة إلى جرابلس قائلاً: “تم تحرير عشرات القرى في ريف حلب الشمالي الشرقي، ولكن لا يمكننا كجهة عسكرية تخطي العقبات من دون تعاون مع الكفاءات في الاختصاصات المختلفة”، داعياً جميع النخب وأصحاب الكفاءات للتوجه إلى جرابلس وباقي القرى لممارسة دورها الطبيعي. ولفت إلى أنه تم استقبال رئيس الحكومة المؤقتة جواد أبو الحطب سابقاً، وتسليم الحكومة المؤقتة مقرات لممارسة عملها داخل جرابلس، حتى يتسنّى للعسكريين التفرّغ بشكلٍ كامل للجبهات وترك الإدارة المدنية للحكومة المؤقّتة والمجالس المحلية.

الدور التركي

وعن الدور التركي في إعادة الحياة إلى جرابلس، فقد أعطى الرئيس رجب طيب أردوغان تعليمات لرئاسة بلدية غازي عنتاب من أجل تنفيذ مشاريع البنية التحتية في مدينة جرابلس وإنشاء حدائق ألعاب للأطفال. وفي هذا السياق، رممت السلطات التركية حديقة أطفال في جرابلس، تستوعب نحو مائة طفل ووضعتها في الخدمة قبل عيد الأضحى. وكان رئيس بلدية كركميش الحدودية المحاذية لجرابلس في ولاية غازي عنتاب التركية، نوح قوجه أصلان، قال إن السلطات تبذل قصارى جهدها للانتهاء من مشكلة غياب المياه والكهرباء عن المدينة، فضلاً عن تجهيز فرن لتلبية احتياجات المنطقة من الخبز. وقامت شركة تركية خاصة تعمل في كركميش بتزويد مدينة جرابلس بالطاقة الكهربائية، حيث جرى حفر خط تحت الأرض، بطول 3 كيلومترات، لمدّ أسلاك الكهرباء من منطقة كركميش إلى جرابلس. ونقلت وسائل إعلام تركية عن مسؤول في الشركة قوله إن مركز توزيع منطقة كركميش قام بتوليد 31.5 كيلوواط من الطاقة الكهربائية، وإرسالها عبر خط التوتر العالي إلى مخازن لتخفيض جهدها إلى 20 كيلوواط، ونقل التيار الكهرباء المخفض عبر كابلات تتحمل جهداً عالياً إلى مدينة جرابلس. يُذكر أن تركيا كانت تزود سورية، عبر شركة خاصة، بحوالى 20 في المائة من الطاقة الكهربائية، غير أنّ الجانب السوري قرر في أكتوبر/تشرين الأول 2012، وقف التزود بالكهرباء من الشركة التركية.

وفي إطار المشاريع التركية لمناطق الشمال السوري، التي تم انتزاعها من تنظيم “داعش” ومن المليشيات الكردية في إطار عملية “درع الفرات”، أعلن نائب رئيس مجلس الوزراء التركي، نور الدين جنكلي، أن بلاده بصدد بناء مدن جديدة في تلك المناطق، وأنها ستعمل على توفير جميع مقومات الحياة للمناطق السورية المتاخمة للحدود التركية، وذلك بطول 95 كيلومتراً وبعمق 45 كيلومتراً. وقد أحيا النجاح الذي حققته عملية “درع الفرات” الآمال لدى الأتراك بإقامة منطقة آمنة في الشمال السوري خالية من تنظيم “داعش” والمليشيات الكردية. وقال مسؤولون أتراك، في وقت سابق، إن هذه المنطقة ستمتد في الوقت الحاضر من مدينة جرابلس الى بلدة الراعي بطول نحو 70 كلم وبعمق 20 كلم.

وكانت جرابلس، قبل خروجها عن سيطرة قوات النظام منتصف العام 2012، بوابة حدودية رسمية مع تركيا، ويقابلها في الطرف التركي بلدة كركميش، ويقطنها نحو 25 ألف نسمة. ومن غير المعروف اليوم بدقة عدد المقيمين فيها من سكانها الأصليين والنازحين إليها من المناطق الأخرى. وكان  قال، في وقت سابق، إن عدد سكان المدينة ارتفع بعد نجاح عملية “درع الفرات” من 3500 إلى 20 ألف شخص.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى