صفحات الثقافةممدوح عزام

جرس الإنذار/ ممدوح عزام

 

هل يمكن أن نقول إن رواية “العطر” عمل قبيح؟ فهي تروي حكاية الرجل الذي عمل طوال النص على ذبح النساء، كي يستخرج من أجسادهن تركيباً عطرياً لا مثيل له في التجارب والمنتجات السابقة.

أي خيار فظيع هو هذا؟ ومع ذلك فقد تُرجمت الرواية إلى معظم اللغات الحيّة في العالم بما في ذلك لغتنا العربية، واستقبلت بنجاح تؤكده أرقام التوزيع الهائلة التي رافقت عمليات بيعها في المكتبات. وماذا نقول عن “الحرب والسلام” التي تؤرخ في الحقيقة للحرب، أكثر مما تسأل عن السلام.

في “شرق المتوسط” أو “الآن هنا” لـ عبد الرحمن منيف، تقدّم الرواية صوراً عن تعذيب مرعب، يتعرّض له السجناء في منطقتنا. لا يتوقف التعذيب عن أن يكون صورة عن الرعب وحده، بل إنه يشوّه الروح الإنسانية، ويدمّر كل وجدان. ما الذي يدفع القراء لاقتناء كتاب يسبّب كل هذا الرعب والهلع؟

ومن قرأ “جسر على نهر درينا” لا يمكن أن ينسى مشهد الإعدام على الخازوق، الذي اقتيد إليه الفلاح راديسلاف. سبق أن راهنتُ العديد من أصدقائي على أن يكونوا قد قرؤوا هذا المشهد الدنيء الذي يصوّر خسّة ولؤم ووضاعة ووحشية بعض بني البشر، دفعة واحدة.

يصعب في الحقيقة قراءة النص بسبب تلك “المهارة” الكتابية التي أبدع فيها إيفو أندريتش روايته تلك. ثمة من يقول إن “البرود” الاستثنائي الذي كتب به الروائي ذلك المشهد المرعب، والحياد المعجز الذي استطاع أن يضمنه لنفسه، هما العاملان اللذان ساعدا على منح هذا التأثير المشحون بكل هذا الألم.

تتهم بعض هذه الروايات أنها تتسبب في نشر اليأس والإحباط في نفوس البشر، فإذا كان الكائن البشري عاجزاً عن متابعة القراءة في نص يحاكي غرف التعذيب، أو مشاهد الموت، فإن من المنطقي أن يكون فراره من احتمال التعرّض لتجربة مشابهة أمراً مفهوماً أخلاقياً.

غير أن هذا الاستنتاج لا يشمل سوى الفئات القارئة، وبالطبع فإن الرواية ليست مسؤولة في أي حال عن فرار البشر من ساحات القتال، وليست هي من يتسبّب في ذلك، بل الحدث نفسه، حيث لا يمكن للروائي أن يتجاهل ما يجري حوله من فظائع، وقباحات، وأفعال وحشية يرتكبها بشر ضد بشر آخرين.

أما حالات الركود، أو الصمت، أو اللامبالاة التي تبديها الجماعات البشرية، فإن سببها حاضر في أشكال القمع والتهجير القسري الذي تتعرض له، ودافعها مدوّن في الطبيعة البشرية المجبولة على حب الحياة، وإرادة البقاء، لا الفناء أو الموت.

يمكن للرواية أن تكون، في هذه الحالة، جرس إنذار، تحذيراً من البشاعة والوحشية، عبر تسجيل ما يمكن أن يحدث في التجربة المماثلة. وفي هذه الحالة فإن تصوير القبح، أو البشاعة، أو الوحشية، في عمل فني، إنما يحاول أن يمنع الطاغية أو المجرم من امتلاك الصمت الذي يريد إسداله على الوجود من حوله، أو تأبيد الخنوع عبر التعريف الفني بما يرتكبه من جهة، وتذكير البشر بما يمكن أن يواجهوه، إذا ما تم ترويضهم على قبول الموت.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى