صفحات الرأي

جزين: بؤس التعايش من ماضي الاصطياف إلى حاضر القلق الطائفيّ والإقليميّ

1 من 2

حازم صاغية – بيسان الشيخ

ذات يوم، قبل 1948، كان المصيفان الوحيدان في لبنان عاليه وجزّين. أمّا البلدات الأخرى، كبحمدون وصوفر، فكانت تهمّ أن تصير كذلك. ولأنّ جزّين غير بعيدة من فلسطين المتّصلة بمصر، غدت مصيف الباشوات المصريّين وسواهم من المتّجهين شرقاً وشمالاً. هكذا، نشأت مبكراً فنادق تحمل أسماء «الأهرام» و «فلسطين»، فيما عرفت المنطقة انتعاشاً لم يتكرّر إلّا في الستينات والسبعينات، قبل أن يذوي مع حرب السنتين في 1975.

وكانت قد جُدّدت البنية التحتيّة للبلدة، فجُرّت المياه في 1927، واعتُمد الصرف الصحّيّ في 1940. وأهمّ من ذلك كانت البنية النفسيّة للجزينيّين: ذاك أنّ صفات مرنة وقليلة العصبيّة وسمت شخصيّتهم، مثلهم في ذلك مثل جوارهم المسيحيّ في شرق صيدا. فلئن طغى على شمال متصرّفيّة جبل لبنان المارونيّ، في زغرتا وبشرّي، افتخار ابن العشيرة الغاضب، طغى على جنوب المتصرّفيّة المارونيّ، في جزّين، اعتدال ابن العائلة – النواة الذي يهيّئ نفسه للعصر الحديث. وإذا درج الأوّل على إطلاق العنان للسانه تعبيراً منه عن شعور حادّ ألمّ به، لم تفارق الثاني عفّة اللسان واقتصاد سلوكيّ تشارك فيهما مع جاره الدرزيّ في الشمال.

وهذا ما كان منّة الطبيعة التي غدت، في وقت لاحق، لعنتها. فالمحيط المسيحيّ هناك إنّما ولد أصلاً بصفته منطقة عازلة بين الشوفيّين الدروز والجنوبيّين والبقاعيّين الشيعة الذين أقام أسلافهم في جزّين. وعن موقع كهذا، منوط به امتصاص التوتّر، ينشأ التوسّط بالمقدار الذي ينشأ فيه التكيّف.

والحال أنّ معظم أسماء الجزينيّين الذين برزوا في الشأن العامّ يصحّ فيهم النعت هذا. فزعماء جزّين، من جان عزيز إلى سمير عازار، يوصفون بـ «الاعتدال»، أمّا أحدهم، إدمون رزق، فلم تحلْ كتائبيّته التي استمرت عقوداً، دون كونه خطيب المناسبات العاشورائيّة. ولئن عُرف الشاعر الكلاسيكيّ بولس سلامة بالملاحم في عليّ بن أبي طالب ومواقعه، فإنّ البطريرك المارونيّ بولس المعوشي اشتُهر بمعارضته عهد كميل شمعون الذي أخذ عليه تطرّفاً في المارونيّة.

وعلى امتداد سنوات الحرب حافظ سياسيّو جزّين، موحّدين أو متفرّقين، على نهج يصون العلاقة مع الجوار، لا الشيعيّ أو الدرزيّ فحسب، بل السنّيّ في صيدا كذلك. وهي مهمّة كانت بالغة الصعوبة في ظلّ احتدام الأوضاع وتشابك ما لا حصر له من عوامل تستحيل السيطرة عليها. إذ، كما قال لنا جزينيّ مُلمّ بأحوال الدنيا: «كيف لنا أن نتحكّم بما يقرّره الإسرائيليّون والفلسطينيّون والسوريّون والإيرانيّون؟».

الجهد أوّلاً

بيد أنّ سبباً آخر جعل تلك الشخصيّة تكتسب ما اكتسبته من مواصفات. فالجزينيّون لم يكونوا من المحاربين والعصاة أو الكفّار، بل نشأوا نشأة فلّاحين. والقضاء كلّه، وهو الحدود الجنوبيّة للمتصرّفيّة، كان ملكاً لآل جنبلاط الذين ورثوا بيت القاضي. ويروي الأستاذ الجامعيّ الياس قطّار أنّ السكّان الذين انتقلوا إلى جزّين وجوارها إنّما فعلوا بصفتهم شركاء لكبار الملّاكين، فأحرزوا ما أحرزوه بالعمل والجهد واستصلاح الأراضي. وهذا ما جنّبهم المبالغة والإطناب وعلّمهم درس التوافق مع الآخر، منطقةً كان الآخر أو طائفةً أو طبقة اجتماعيّة، بحيث باتوا يؤثرون حلّ المشاكل بالّتي هي أحسن. «فنحن»، كما يقول أنطوان رزق، رئيس لجنة التجّار في جزّين، «نملك من تركيبنا ومن وضعنا الجغرافيّ ما لا يسمح لنا بأن نختلف مع أحد».

والجزينيّون لا يكتمون ارتياحهم لما هو سلميّ وحديث في حياتهم. فمنطقتهم، وهي قضاء جنوبيّ، تنتمي سياسيّاً واجتماعيّاً إلى جبل لبنان، كأنّها بذلك تستأنف سيرتها في عهد المتصرفيّة. هكذا، كانت تيّاراتها السياسيّة امتداداً لما هو سائد في الجبل، بحيث عُرف إدمون رزق طويلاً بكتائبيّته، واشتُهر كلود عازروي بكتلويّته، وانتسب نديم سالم إلى «حزب الوطنيّين الأحرار» قبل أن ينضوي في «حركة التجدّد الديموقراطيّ». وهي اليوم حيث يعمل المخفر والمحاكم والبلديّات، وحيث تنعدم الجريمة أو تكاد. ذاك أنّ عائلاتها، التي فرّعها انتشار التعليم، كفّت عن التلاحم الانتخابيّ وراء مرشّح بعينه والتعصّب له ضدّاً على عائلة أخرى. وبتواضع يحتفي أهل جزّين بتاريخهم الحديث، ما يعكسه تمثال صغير ووديع في ساحة البلدة لسليمان كنعان «بك»، عضو مجلس إدارة جبل لبنان وأوّل زعمائهم.

والحقّ أنّ التمثيل السياسيّ للقضاء نمّ عن الكثير من تلك المواصفات. فلعشرات السنين تعاقب أصحاب المهن الحديثة، لا سيّما منهم المحامين، على مقاعدها البرلمانيّة. وإذا صحّ أنّ القضاء لم يحصل على ما يستحقّه من تصدّر سياسيّ، صحّ أيضاً أنّ المركزيّة الجزينيّة أرحب من مركزيّة بلدات لبنانيّة أخرى. ذاك أنّه، في أواخر الخمسينات، حلّ في البرلمان نائب من قرية البابا الصغيرة هو نقيب المحامين فريد قوزما الذي شغل الوزارة ثلاث مرّات في العهد الشمعونيّ، كما اتّسعت السياسة المحلّيّة لبروز كلود عازوري من قرية عازور، الصغيرة هي الأخرى.

الوجهة المعاكسة

ليس من المبالغة إذاً أن يقال إنّ جزّين مصغّر لبنان في الهشاشة حيال خارج مضطرب. «فنحن»، وفق أنطوان رزق، «جعلَنا الموقع الجغرافيّ والاعتماد على السياحة، لا نحتمل اهتزاز الأمن في أيّ مكان: فإذا انهار في طرابلس فكّرنا بما قد يحصل في صيدا، وإذا تردّى في بعلبك أو سواها خفنا من إغلاق المطار». ويضيف جزينيّ سألناه عمّا قد يحدث لبلدته فيما لو اصطدم الشيعة في الجنوب والشرق بالسنّة في الغرب أو بالدروز في الشمال: «يجتاحوننا في طريقهم».

وهذا ما يرفع التعايش، والطلب على الأمن تالياً، إلى سويّة الشرط الشارط لأهل جزّين. غير أنّ الخارج بدأ يضطرب مبكراً. ووفق الوزير السابق إدمون رزق شرع التدهور يذرّ قرنه مع الانقطاع عن الدولة أواخر الستينات، حين قامت «فتح لاند» وأُسقطت اتّفاقيّة الهدنة، ثمّ ظهر، في 1976، «جيش لبنان العربيّ» الذي أسقط ثكنات الجيش في الجنوب. وردّاً على المناشدات بالانضمام إلى تلك الثكنات، طالب رزق قائد الجيش حنّا سعيد بإنشاء تجمّع للجيش اللبنانيّ في الجنوب يضمّ أبناء المنطقة بسائر طوائفهم. وفعلاً نشأ التجمّع الذي انضوى فيه 870 عسكريّاً ساعدوا جزّين على الصمود. لكنّ أواخر العام ذاته، 1976، شهدت مذبحة العيشيّة، على حدود القضاء مع النبطيّة، فقضى على أيدي القوّات الفلسطينيّة واللبنانيّة المتحالفة أكثر من 70 قتيلاً.

حينذاك تداعى سياسيّو جزّين وقادتها إلى إنشاء لقاء عهدوا برئاسته إلى «أكبرنا» جان عزيز، فيما تولّى إدمون رزق النطق بلسانه. وفضلاً عنهما ضمّ اللقاء النائبين فريد سرحال ونديم سالم والمطران ابراهيم الحلو. أمّا الهدف من اللقاء هذا فكان تشجيع السكّان على البقاء في البلدة وتأسيس هيئة أهليّة تطوّق الحوادث وتفضّ النزاعات.

لكنّ الأحداث ما لبثت أن فاضت بما يغمر القدرات المتاحة. ففي 1978 كان الاجتياح الإسرائيليّ الأوّل حيث نشأ الشريط الحدوديّ و «جيش لبنان الحرّ» الذي صار لاحقاً «جيش لبنان الجنوبيّ». وبعد أربعة أعوام كان الاجتياح الأكبر وما تلاه من محنة تهجير الجبل في 1983 – 1984، حيث هُدّدت جزّين نفسها. وفي 1985 كان الانسحاب الإسرائيليّ من الأوّليّ وقد تبعه الفلتان والفوضى وتهجير ما سمّي ساحل منطقة جزّين وشرق صيدا.

وحيال عجز الدولة أمام تلك الأحداث الجسام وتمنّعها عن إدخال جيشها، وفّر «جيش لبنان الجنوبيّ» الأداة الوحيدة للدفاع عن جزّين المسكونة بمذبحة العيشيّة وبأعمال التهجير في الجوار. لكنّه وفّر أيضاً الذريعة لإبقائها في مرمى نيران الجماعات التي تقاتل إسرائيل.

فجزّين بدت عالقة في الفراغ، لا هي مضمومة إلى الشريط الحدوديّ ولا هي في عهدة الدولة التي لا تجرؤ على ضمّها إليها. هكذا، بدا طبيعيّاً الإقبال على «لبنان الجنوبيّ»، أو «جيش أنطوان لحد»، دفاعاً عن النفس.

لكنّ تلك الأسباب لا تختصر علاقة الجزّينيّين بالجيش اللحديّ. ذاك أنّ تهجيري الجبل وشرق صيدا قذفا بالآلاف من أبناء المنطقتين المذكورتين إلى جزّين. وهم نزحوا غاضبين ويائسين، ولكنْ أيضاً مُفقرين تركوا وراءهم أملاكهم وأشغالهم وما ادّخروه، ليقيموا في بيوت جزّين المهجورة ومبانيها العامّة. والحال أنّ أبناء المهجّرين هؤلاء كانوا، وفق الياس قطّار، أكثر من انضووا، مدفوعين بالحاجة، في قوّات لحد، فيما أبقى بعض الجزّينيّين أبناءهم خارج بلدتهم كي يجنّبوهم التجنيد في تلك القوّات. وبينما كانت الليرة اللبنانيّة تنهار أمام الدولار، وبانهيارها تتقلّص القدرة الشرائيّة للأجور، تقاضى المجنّد في «لبنان الجنوبيّ» 400 دولار شهريّاً، ما حرّك الاقتصاد المحلّيّ نسبيّاً، خصوصاً أنّ متقاضي تلك الأجور لا يستطيعون إنفاق نقودهم خارج جزّين.

ذاك أنّ الأخيرة التي أتاح لها موقعها، في أزمنة السلم، كثير المعابر والممرّات إلى بيروت، أضحت رهينة معبر واحد، يُغلق في الخامسة مساءً، هو قرية باتر الشوفيّة. فمن خلاله وحده استمرّ التواصل المخنوق مع العاصمة بين 1985 و1999، مثلما استمرّ تواصل الدروز الشوفيّين مع دروز حاصبيّا.

بطبيعة الحال لم يكن الجزينيّون مسرورين بحصارهم وما آلت إليه أمورهم. هكذا، يروي القائمقام السابق توني عازار قصصاً لا تنقطع عن بؤس الحياة في تلك السنوات المُرّة. ففي الخامسة مساء كانوا يلوذون ببيوتهم، يزيد من شعورهم بالاكتهال ذاك التجنيد الإجباريّ الذي يفرّ منه الشبّان ولا يعودون بعد ذاك. وإذ حاصرهم الاختناق، تأدّى عن إعاقات المعابر تردّي الوضع الصحّيّ تبعاً لصعوبات الانتقال إلى المستشفيات. وهذا، كما يضيف عازار، «ما لا تعوّضه بتاتاً المعاشات التي تُدفع للجنود والتنفيعات التي يحظى بها المتعاونون».

لقد خسر قضاء جزّين 400 شابّ قُتلوا إبّان الاحتلال الإسرائيليّ، وكانت تمرّ أيّام يدفن الجزينيّون في واحدها ما بين 10 و15 قتيلاً.

مشيئة «سوريّة الأسد»

لكنّ تلك المحنة المتمادية لم تكن بعيدة عن تصوّر «سوريّة الأسد» لصراعها مع إسرائيل ونظريّتيها الوظيفيّتين عن «الساحة اللبنانيّة» و «تلازم المسارين». فبغضبٍ يعلن إدمون رزق، معلّقاً على تلك الأطوار الدموية، أنّ «الجريمة الأكبر في تاريخ لبنان كانت عدم إبرام اتّفاق 17 أيّار، بسبب صفقةٍ مع السوريّين قضت بإسقاطه، فاتحةً الباب للفوضى التي مثّلها الانسحاب الإسرائيليّ الأحاديّ». أمّا سيمون كرم، السفير اللبنانيّ السابق في الولايات المتّحدة، فيلاحظ أنّ «سوريّة، منذ المسار الذي ابتدأ بمؤتمر مدريد في 1991 وتُوّج بمعاهدة أوسلو في 1993، تشدّدت في لبنان عبر تنشيطها العمليّات العسكريّة. لقد عطّلت عرضاً أميركيّاً – إسرائيليّاً للانسحاب من جزّين بموجب معادلة «جزّين أوّلاً». وفي ظلّ التحكّم السوريّ بلبنان خُوّن أهل جزّين عن بكرة أبيهم، وهُدّدوا بالعمليّات التي راحت تتعدّى جيش لحد إلى السكّان المدنيّين، كما كانت تشنّها، فضلاً عن «حزب الله»، الأحزاب والقوى الأخرى التابعة لدمشق. وبالفعل، صارت جزّين الخاصرة الرخوة عند كلّ تعادل ميدانيّ يطرأ بين إسرائيل وحزب الله».

وفي هذه الغضون، وفي 1997 تحديداً، أنشئ «لقاء مار روكز» المدعوم من البطريرك نصرالله صفير، والذي ضمّ إدمون رزق ونديم سالم وسيمون كرم وكلود عازوري وشخصيّات، سياسيّة ودينيّة، أخرى. فهؤلاء كانوا، ضدّاً على الرغبة السوريّة، يسعون إلى حلّ لبلدتهم وقضائهم يقوم على انسحاب لحد ودخول الدولة. لكنّ ما لم يحصل في أواسط الثمانينات لم يحصل في أواخر التسعينات. فقد وافق لحد وامتعضت دمشق، صاحبة «تلازم المسارين»، فجبنت بيروت المحكومة من دمشق.

وبالفعل انسحب لحد وقوّاته المثخنة بالجراح صبيحة 1/6/1999، فعوقبت جزّين على انسحابه منها بعدما عوقبت على بقائه فيها. أمّا شكل العقاب فكان، هذه المرّة، الانتقام.

فقد حوكم حوالى 300 شابّ ممّن لم يُعامَلوا معاملة سائر الميليشيات بعد اتّفاق الطائف. وهم لئن طاولتهم أحكام معتدلة تراوحت بين السنة والسنوات الثلاث، فإنّ سجلّاتهم وسجلّات أهلهم بقيت مفتوحة، كما بقي التسلّط عليهم سهلاً، استدعاءً إلى مراكز المخابرات، وتضييقاً في فرص التوظيف، وتحكّماً بمخاتيرهم ورؤساء بلديّاتهم، ومساءلةً عند السفر أو عند العودة.

وإذ رأى سيمون كرم أنّ «هذا السلوك إنّما تمأسس»، ذكّرنا إدمون رزق بقوله أمام المحكمة، فيما هو يدافع عنهم، إنّ «الذين هربوا وفرّوا يتّهمون اليوم الذين صمدوا».

هكذا، أقامت الحرب الأهليّة الضامرة، حصاراً ثمّ عقاباً، وراء الصراع المعلن مع إسرائيل. وكان ما ضاعف المرارة أنّ أكثريّة المجنّدين في جيش لحد لم يكونوا جزينيّين أو مسيحيّين، بل كانوا من الشيعة الجنوبيّين. بيد أنّ ارتباط المقاومة بـ «حزب الله» الشيعيّ وفّر لهم عفواً عمّا مضى، في الواقع كما في الرواية. هكذا، ارتسمت صورةٌ لمقاوم كامل في مقابل متعاون كامل، فيما كانت سنوات الوصاية السوريّة، وابتزازها المسيحيّين بالتعاون مع إسرائيل، تُحبط تطويرَ أيّة رواية جزينيّة للأحداث يدافع فيها أصحابها عن أنفسهم ويشرحون ظروفهم إبّان الاحتلال. لقد ساد التعثّر والتأتأة في مواجهة الفصاحة الظافرة.

جزين: بؤس التعايش… مسألة الجوار وبيع الأراضي و… وعد ميشال عون الخلاصيّ2 من 2

بعد أن تناولت حلقة الأمس ماضي الاصطياف وحاضر القلق الطائفيّ والإقليميّ، هنا التتمة الأخيرة:

لا يستطيع الجزّينيّ، بسبب معاناته مع فائض الجغرافيا، أن يفكّر بنفسه إلّا من خلال جواره. والحال أنّ التاريخ هناك سخيّ في استعراض ما فعلته الجغرافيا، بدلالة المرارة والألم اللذين تذكّر بهما أحداث 1860، وهي التي كانت على وشك أن تتكرّر مع حرب الجبل في الثمانينات. وإذ يلوح الآن أنّ العلاقة بالدروز هادئة ومستقرّة، ترسم العلاقة بالسنّة والشيعة لوحات أعقد.

الجوار الصيداويّ

مدينة صيدا التي هي سوق الجزينيّين التجاريّة ومقصدهم الخدميّ كانت أيضاً مصدراً لبعض مصطافيهم، خصوصاً منهم الموظّفين وأبناء الطبقات الوسطى والدنيا. وهذا ما حمل الجزّينيّين تقليديّاً على رصد شهر رمضان بشيء من القلق: فإذا حلّ شتاءً كان الأمر بشيراً «لأنّهم سيصطافون عندنا»، وإذا حلّ صيفاً كان نذيراً.

هكذا، استلزمت مصلحة الطرفين وتجاورهما علاقة سويّة ومؤدّبة لا تسمو إلى صداقة ولا تنحطّ إلى عداوة. وبقيت هناك، بطبيعة الحال، استثناءات، كمودّة أفراد جزّينيّين لمعروف سعد، نائب صيدا الراحل، الذي كان يصطاف في بكاسين. وهو ما استؤنف، بمزيد من الطقوس والكلفة والبرودة، مع بهيّة الحريري، نائب صيدا الحاليّة، والتي تحرص على دعوة وجهاء جزّين إلى مناسباتها العامّة. وعلى العموم، لم ينقطع تبادل «الواجبات» الاجتماعيّة بين أفراد من هنا وآخرين من هناك.

لكنْ، في تلك الغضون، اهتزّت العلاقة اهتزازاً حادّاً في الثمانينات، مع الحرب في شرق صيدا وحواجز «القوّات اللبنانيّة» التي اضطهدت الصيداويّين وآذتهم من غير أن تستشير في ذلك الجزينيّين الذين دفعوا أكلافها لاحقاً. وكان مؤلماً، خصوصاً، هدم المجمّع الضخم، الطبّيّ والتعليميّ، الذي أنشأه رفيق الحريري في قرية كفر فالوس بذريعة أنّه مشروع لـ «أسلمة لبنان».

أمّا اليوم فلا يُخفي أهل جزّين، المرتاحون عموماً إلى صيدا، برمهم ببعض ما يصدر عنها، كـ «حركة» الشيخ أحمد الأسير التي ترتّب عليها، بين ما ترتّب، إرهاب موسم السياحة وإضعافه. «ذاك أنّ موسمنا، يبدأ في 20 حزيران (يونيو)، وفي الوقت نفسه بدأ الأسير حركته هذا العام». كذلك يلاحظ توني عازار أنّ موجة التديّن حدّت من صعود الصيداويّين «كي لا يُتّهموا في مدينتهم بأنهم يشربون عندنا».

لكنّ هذا لا يرقى إلى المشكلة المعقّدة المتّصلة ببيع الأراضي. فهنا، وحيال مخاوف الطوائف الضعيفة من الطوائف الأقوى، ينبغي نسيان كلّ القوانين المعروفة عن الرأسماليّة وسيولة البيع والشراء، وطي صفحة الدستور في ما خصّ حقّ اللبنانيّ، أيّ لبنانيّ، في التملّك في أيّة منطقة من لبنان.

ذاك أنّ الجزّينيّين الذين يأتيهم الخوف من تحت الأرض يخيفهم شراء الأرض في قضائهم. فقرية كفر جرّة، مثلاً، القريبة من صيدا «بيع معظمها وأقيمت فيه مجمّعات سكنيّة»، أمّا جائزة الترضية فجسّدتها تسمية الجامع الذي أقيم هناك «جامع عيسى بن مريم». وثمّة من يخشى أيضاً، وامتداداً لحركة الشراء الصيداويّة، أن يشتري فلسطينيّون من عين الحلوة أراضي في جزّين.

الجوار الجنوبيّ

ووفق الرواية الجزّينيّة اشترى علي تاج الدين، أحد متموّلي «حزب الله»، 5 ملايين متر مربّع أقام عليها 472 وحدة سكنيّة يسمّيها بعض الجزّينيّين «مستعمرات». وهذه تتخلّلها مراكز تجاريّة تضمّ مزارع دجاج ومصانع موادّ غذائيّة، ما نمّى بلدة كاملة «على أطرافنا، يسكنها شيعة من المناطق كافة حتّى بعلبك». وهنا أيضاً ثمّة جائزة ترضية، إذ إنّهم، وبأموال قطريّة، رمّموا كنيسة قرية القطران هناك. ويبدو أنّ حركة بيع الأراضي، التي اعترضت عليها بكركي، تلقى حذراً مشابهاً عند دروز الشوف، شمال جزّين، ممّن يشاطرون الجزّينيّين هواجسهم الأقلّيّة.

صحيح أنّ شراء الأرض الذي يهبّ من صيدا يفوق كمّاً مثيله الجنوبيّ والبقاعيّ، غير أنّ أموراً ثلاثة تجعل الشراء الشيعيّ أشدّ إقلاقاً للجزّينيّين.

فهو، أوّلاً، ذو بعد أمنيّ مباشر. ذاك أنّ «حزب الله» أنشأ مواقع عسكريّة له على تلال جزّين، فبات يمنع المزارعين هناك من قطف مواسمهم أو استصلاح أرضهم بحجّة عدم المساس بأمن المقاومة.

ووفق سيمون كرم، جعل «حزب الله» جزّين، منذ التحرير في 2000، قاعدة خلفيّة له، إلّا أنّه حوّلها، بعد حرب 2006، قاعدةً رئيسة، ما استوجب تمدّده على تخومها وصولاً إلى البقاع.

والشراء الشيعيّ، ثانياً، مكتفٍ بذاته، لا يؤدّي إلى أيّ اتّصال بالحياة الجزّينيّة وطرقها. وهذا يخالف الوضع في ما خصّ صيدا، حيث ثمّة مساحات مشتركة وعلاقات قد تتّسع وتضيق، بيد أنّها لا تختفي. فـ «حزب الله» الذي بات يتحكّم بالخيار الثقافيّ اليوميّ للشيعة وينشر الحسينيّات في قراهم، يغيب عن كلّ مناسبة يشتمّ أنّ فيها خمراً أو موسيقى وغناءً. وقد حدّثنا أحد الجزّينيّين عن محاولة لمدّ الجسور بعد حرب تمّوز، حيث أقيم احتفال بانتهاء الحرب وعودة الكثيرين من المهجّرين إلى قراهم في القضاء. لكنّ أحداً من «حزب الله» لم يحضر بسبب اشتمال الحفل على برنامج فنّيّ.

وأخيراً، هناك الحضور الشيعيّ في قضاء جزّين الذي يرفع، والحال على ما هي عليه، سويّة التوجّس. فثمّة، في القضاء، قرية سنّيّة وحيدة هي بنواتي، وبعض السنّة في قرية الجرمق، وكذلك قرية درزيّة لا غير هي السريرة، وبعض الدروز في قرية عاراي. بيد أنّ أكثر من نصف قرية روم الكبيرة شيعة، كذلك فاق الشيعة في كفرحونة المسيحيّين، بينما معظم عرمتى ومليخا من الشيعة أيضاً. وبذلك صار الشيعة خُمس الكتلة التصويتيّة في قضاء جزّين، متفوّقين على الروم الكاثوليك الذين تقلّصوا إلى سُدسها.

صحيح أنّ الذاكرة الجماعيّة للجزّينيّين لا تنطوي على عداء للشيعة. وفي الستينات، حين كان زعيم الشوف كمال جنبلاط متحالفاً مع زعيم صيدا معروف سعد، كان الجزّينيّون «يأخذون روحاً» بزعامة كامل الأسعد في الجنوب. وحتّى مع موسى الصدر الذي أثارت حركته بعض قلقهم، ظلّ الدفء يطبع العلاقة ويبدّد المخاوف. إلّا أنّ حقبة الاحتلال الإسرائيليّ ومضاعفاته أسّست أحقاداً وخلّفت ذيولاً نفسيّة حيال «حزب الله». وهذا ما لم يستطع ميشال عون، بتحالفه معه، أن يؤثّر فيه إلّا سطحيّاً، لا سيّما أنّ الامتدادات الاجتماعيّة لتحالف كهذا معدومة، لا يتيحها تكوين الحزب المغلق على أيديولوجيّته وطقوسه وعالمه المضادّ.

عون المخلّص

في ساحة جزّين تبدو صورة ميشال عون الأكبر بين صور قليلة لسياسيّين. فزعيم «التيّار» شكّل، في انتخابات 2009، لائحة مكتملة من مارونيّين وكاثوليكيّ اكتسحت المقاعد الثلاثة ومعها بلديّات القضاء. جاء هذا بعد مقاطعة الجزّينيّين الدورات الانتخابيّة السابقة، استجابةً لدعوة الكنيسة المارونيّة ثمّ اعتراضاً على القانون الانتخابيّ الذي ألحق جزّين المسيحيّة بالجنوب الشيعيّ.

هكذا، ووفق الياس قطّار، قضم «التيّار» الزعامات التقليديّة وبات يمثّل ما بين 60 و65 في المئة، معطياً الشباب المهمّش سياسيّاً بعض الثقل الملحوظ.

لكنْ، كيف أصبح عون ملك جزّين، على رغم تحالفه مع «حزب الله»؟

تجيب عن هذا السؤال أسباب منها البسيط ومنها الأكثر تعقيداً.

فعائلة عون كبيرة في جزّين، موزّعة على قرى عدّة، ومنها كان أسلاف ميشال عون قد انتقلوا إلى حارة حريك بعد مذابح 1860. ثمّ إنّ الأحزاب السيـاسـيّة، كما يشرح الزميل أنطوان الحاج، لم تقوَ مرّةً في البلدة ولم تتمكّن. فهي نمت نسبيّاً في قرى القضاء الصغرى، أو في العائلات الصغيرة للقرى الكبرى، ما لم يشكّل وزناً يعيق الصعود العونيّ اللاحق. وقد ضمّت العونيّة، في من ضمّت، مهاجري أوائل الستينات إلى ضواحي بيروت الشرقيّة في عين الرمانة وفرن الشباك والحدت، ممّن فرزوا، في حرب السنيتن، مقاتلين من بينهم يدافعون عن أحيائهم وشوارعهم أكثر ممّا ينشدّون إلى الأحزاب المسيحيّة المقاتلة. كذلك ضخّم العونيّةَ أنّ الأقليّة الكاثوليكيّة، في تماهيها مع الأكثريّة المارونيّة، تبنّت الدعوة الجديدة وتشدّدت فيها. وأصيبت عائلات التقليد السياسيّ بالوهن، وانتهت إمّا إلى انعدام الوريث أو إلى تعدّد الورثة وتطاحنهم. ولئن تمكّن الإعلام العونيّ، لا سيّما محطّة «أو تي في» غير المعروفة بالذيوع والانتشار، من أن تنتشر في جزّين تغطيةً وتوجيهاً، التفّ حول قائد الجيش السابق عدد من كبار المتموّلين في عدادهم غازي الحلو، شقيق رئيس البلديّة وليد الحلو، وعصام صوايا الذي صار نائباً، وشقيقه جاد، وأمل أبو زيد.

أبعد من ذلك أنّ دعوة «الجنرال» جاءت تستثمر مقت الجزّينيّين لـ «القوّات اللبنانيّة»، خصوصاً منهم المقيمين في بيروت. فهؤلاء لم ينسوا تهجير شرق صيدا ومردوده عليهم، ولا نسوا حواجز «القوّات» في المنطقة، في الثمانينات، بمضايقاتها للسكّان الذين تعوّدوا المكوث ساعتين أو ثلاثاً على الحاجز.

أهمّ ممّا عداه أنّ العونيّة استنطقت في الجزّينيّين ذمّيّةً سهّلها الاستضعاف المترتّب على الاحتلال الإسرائيليّ وعلى مقاومته، تماماً بمقدار ما أشاعت وهم الانتصار على تلك الذمّيّة. وهي سيرة تبدأ مع سيطرة نبيه برّي على قرار الجزّينيّين المهيضي الجناح وعلى تمثيلهم السياسيّ.

وكانت نيابة النائب السابق سمير عازار التعبير المحلّيّ عن «هيمنة برّي» التي اتّخذت أشكالاً عدّة. فمثلاً، حين انضمّ النائب الكاثوليكيّ نديم سالم إلى «لقاء مار روكز» المعارض في 1997، عاقبه الزعيم الشيعيّ باستبعاده عن لائحته. وفي انتخابات 2000 تضامن الجزّينيّون مع سـالم بأن أعـطوه 26 ألف صوت، لكنّ عشرات آلاف الأصوات الجنوبيّة، في ظلّ وحدة الدائرة، أسقطته.

ويرى إدمون رزق، في هذا المعنى، أنّ الالتفاف حول عون ردّ فعل على الأخطاء الكثيرة المرتكبة بحقّ الجزّينيّين. وعون، من هذا القبيل، لم يتكاسل في التركيز على نقطتين: أنّه «سيستردّ» جزّين بعدما أُخضعت لزعامة شيعيّة، وأنّه سيحميها بفعل تحالفه مع «حزب الله».

بيد أنّ النتائج لبست لبوس المفارقات. فصعود العونيّة رافقه التمدّد العسكريّ لـ «حزب الله» على تخوم جزّين. وهذا فضلاً عن أنّ وصاية برّي غير مكلفة، في ما خصّ طريقة الحياة، قياساً بمراعاة حزب الله. أمّا الذين أحلّهم عون محلّ سمير عازار فقليلون جدّاً من لا يقرّون بتفوّقه عليهم.

فعازار، ابن المحامي والسياسيّ إبراهيم عازار، أحد المعبّرين عن تقليد الاعتدال الجزّينيّ. هكذا، لم تحلْ بَرّيّته دون بنائه علاقات جيّدة مع جميع القوى السياسيّة، بمن فيها آل الحريري. غير أنّه مطّ هذا الاعتدال كثيراً في زمن التمدّد العسكريّ والسياسيّ الشيعيّ وتعثّر جزّين في إنتاج روايتها عن الاحتلال والمقاومة. هكذا، قايض موقعه التقليديّ في بلدته وتوفيره غطاءً مارونيّاً لبرّي بحصوله على خدمات لجزّين قدّمها «مجلس الجنوب»، كشقّ طريق صيدا – جزّين، وإقامة شبكات للماء والكهرباء، ودفع تعويضات للمتضرّرين الجزّينيّين في حرب لحد و «حزب الله».

أمّا النوّاب الحاليّون فكلّ كلام عنهم يعرّج على المشاحنات في ما بينهم. وهو ما يكمّله حال المجلس البلديّ لجزّين ولبلدات أخرى، حيث عجز الفائزون، وكلّهم عونيّ، عن الوفاء بتعهّدهم التزام مبدأ المداورة في ما بينهم. فوق هذا لا يزال صعود أولئك النوّاب أقرب إلى فورة انقلابيّة يُستعاض بها عن ضعف الركائز التي يستند إليها تمثيلهم. ذاك أنّ أحدهم، زياد أسود، مناضل عونيّ سابق ينتمي إلى إحدى أصغر العائلات التي لم تعش قبلاً في البلدة. أمّا ميشال الحلو، المحامي الثريّ، فيُستدلّ على برّانيّته في أنّ والده دُفن خارج جزّين، فيما الثالث، عصام صوايا، فـ «جديد على المنطقة»، عائلته محصورة في قرية كفر حونة.

وهم، إلى هذا، ردّوا على مبالغة عازار في الاعتدال بالمبالغة في التجرّؤ على الاعتدال. «فنحن ليس من عاداتنا شتم زعماء الجوار، ولا نملك هذا الترف أصلاً»، كما قال أحدّ الجزّينيّين. وهو ما تغيّر مع النوّاب العونيّين الذين يتهجّمون على الزعامتين الجنبلاطيّة والحريريّة في الشوف وصيدا، من دون أن ينتزعوا أيّ تنازل فعليّ من شقيقهم الحزبيّ الأكبر. فحين تُطرح مثلاً مسألة من بقوا في إسرائيل، يتكشّف الخلاص العونيّ عن عجز كامل.

ويتبدّى، على نحو موعى أو غير موعى، كأنّ التعلّق بعون، حليف «حزب الله»، ينطوي على لحظة تكفير عن ذنب «التعامل مع إسرائيل»، وطيّ لصفحة لحد واللحديّة. وهو ما وُصم به الجزّينيّون فيما حُرموا القدرة على تفنيده.

المكان المهجور

واليوم تلوح جزّين كئيبة، تكاد أن تكون مهجورة. فسنوات الاحتلال قطعتها عن بيروت وعن جيل من أبنائها نما خارجها. وإذ استقرّ باقي لبنان، مع الطائف، بقي الجنوب على حاله، بلا استثمار ولا مستثمرين. لكنْ، بعد 2001 عاد البعض إلى جزّين متفقّدين قراهم وبيوتهم، كما انتعشت حركة اصطياف أكثر منها إقامةً فعليّة على مدار العام. وعندما أتيح البناء بلا تراخيص، شهدت المنطقة فورة إعمار استمرّت حتّى الانفجار السياسيّ في 2005 الذي أخمدها.

وكان، ولا يزال، ما يضاعف الانقطاع تردّي التعليم. فهناك اليوم ثلاث ثانويّات فقط في القضاء كلّه، واحدة خاصّة واثنتان رسميّتان، علماً أنّ القضاء نفسه حضن 35 مدرسة رسميّة في 1974. ويقول أنطوان رزق إن الجزّينيّين يحضّون، من سنوات، جامعتي الروح القدس والأنطونيّة على إقامة فروع لهما في جزّين من دون جدوى. هذا فضلاً عن محدوديّة وسائل الترفيه للشبيبة، لا سيّما وقد جعل تحسّن الطرق الوصول إلى العاصمة أسهل كثيراً من قبل.

فالمقيمون في القضاء كلّه لا يتجاوزون شتاءً العشرين ألفاً، ولئن بلغ عدد مقترعي قرية قيتولي 2700 مقترع، فإنّ المقيمين فيها شتاء لا يتعّدون المئة. أمّا رئيس بلديّتها فؤاد الحاج فيحدّثنا عن تعاظم الهجرة إلى بيروت لأسباب شتّى، خصوصاً أنّ فرص العمل خفّت وأن هناك مدارس تقلّصت مع تراجع عدد السكّان. فتكميليّة قرية بكاسين مثلاً تضمّ 86 تلميذاً سوريّاً و10 تلامذة لبنانيّين.

وتعيش جزّين تقليديّاً على السياحة ومقلع الحجر والوظيفة الرسميّة، وعلى مواسم الزيت والصنوبر والتفّاح الذي تنتج منه حوالى 300 ألف صندوق سنويّاً، كان الجيش اللبنانيّ يشتري معظمها إلى أن توقّف في 2009. غير أنّ المواسم كلّها عانت آثار الوضع السياسيّ وانعكاسه على العبور والنقل، خصوصاً منذ اندلاع الثورة السوريّة. ولئن اعتادت البلديّة إقامة مهرجانات فنّيّة كلّ صيف، يحضرها خمسون ألفاً على مدى 20 يوماً، فهذا ما توقّف الصيف الماضي بسبب النزاع على رئاسة البلديّة وما رافقه من تهم بالفساد.

ويعيش اليوم في بلدة جزّين قرابة 1300 سوريّ معظمهم من دير الزور. لكنّ الذين هم أكراد منهم يعرّفون عن أنفسهم بأنهم كذلك، إذ تبدو «الكرديّة» أرحم بهم من «السوريّة». بيد أنّ أنطوان رزق، ومن موقعه كربّ عمل، يشرح الحاجة الماسّة إلى العمالة السوريّة لأنّ العامل اللبنانيّ «تحتمله على مدى الشتاء ثم يتركك حين يأتي موسم الصيف».

وهذا، على أيّ حال، ليس الشعور السائد إذ يُمنع على السوريّين التجوّل في البلدة بعد السابعة، حيث «الوضع مضبوط بين مخابرات الجيش والبلديّات». وكانت البلديّة، وفق رواية أحدهم، «اتّخذت قراراً بإعادة بعض السوريّين ممّن يسكنون في محالّ أو كاراجات أو خيم غير مجهّزة ومكتظّة ولا تستوفي الشروط الصحيّة». ويُخبرنا فؤاد الحاج عن قيتولي، حيث العونيّون يسيطرون أيضاً على البلديّة، أنّ هناك ما بين عشرين وثلاثين عاملاً سوريّاً لم تنضمّ عائلاتهم إليهم، و «أنّنا أخذنا صوراً عن هويّاتهم ورفعناها إلى المؤسّسات الأمنيّة، وأفهمناهم أنّكم تعملون هنا وأنّ من يريد منكم أن يقاتل فلـيذهب إلـى هناك».

والـبؤس له دائـماً وجـوه عدّة تـتداخـل وتـتوزّع بين «هنا» التـي يقيـم فيها الـكثـير من «هنـاك»، والـ «هنـاك» التي غالباً ما تصير «هنا».

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى