تهامة الجنديصفحات الثقافة

جسدي الميت في صوفيا/ تهامة الجندي

صباح يوشك على البكاء…

أحاول تجاهل كآبتي، إلهاء نفسي بالكنس والطهي وترتيب منزلي الصغير. أتفقد هاتفي، لا يرنّ! بضيق أجلس قبالة نافذتي، أدخّن، أرقب شجرة عارية على قارعة الطريق.

أقلّبُ ألبوم الصور، لم أكن سعيدة، أو مستقرة بالمعنى الذي يعرفه البشر. كنت أعشق الحياة، المغامرة مفتاحي، كيف تشابهت الألوان في أحداقي، واختزلت نفسها بالرماد؟!

أقلّبُ أوراقي: الكتابة حرفة الغرباء، الكتابة وطن زائل ومنفى.

أهرب منيّ إلى الخارج.

مطر خفيف ينساب على شعري، وفي قلبي. شوارع العاصمة تفتح لي ذراعين باردتين، الأمكنة تضج بالذكريات، رأسي يضج بالألم. خطواتي تتباطأ، تغيّر دربها في اتجاه لحن قديم: “قفي، لا ترحلي، سوف أغدو حزينا من دون راحتيك”. لم أسمع هذه الأغنية منذ عشر سنين، يا إلهي، عقد بأكمله انفرط، وكلما وطئت خطاي أوراق الخريف، تذكرت كم مرة كسرني الحب.

قدماي تجرّانني تجرّني إلى جهة أجهلها، وحين وجدتني في “حديقة الحرية”، فاجأني أني أسرع في اتجاه “بحيرة الأماني”. “حديقة الحرية” أكبر الحدائق وأجملها في وسط صوفيا، ممتدةً في قلبها كيلومترات عدة. أما “بحيرة الأماني” فهو الاسم الذي أطلقته المعلّمة على بحرة اصطناعية بطول أمتار عدة، في الربع الأخير من الحديقة، معلّمتنا التي قادتنا إليها ذات صباح، قبل عشر سنين، وكنا حينها طلابا جددا، نتعلم اللغة البلغارية.

كان المكان أشبه بجنّة العشاق: أشجار الصنوبر والصفصاف تتوّج الفضاء، العشب الناعم وزهر البراري يرسم الأرض، شقائق النعمان والغاردينيا تتمايل على وجه البحيرة، وفي أعماقها تتلألأ نقود معدنية صغيرة، والأثير معطر برائحة المسرّات.

وقفنا مسحورين، نتأمل الجنة، وبعيون خجولة نسترق النظر إلى صور الحب المنثور على المقاعد، في الظلال، حين قالت معلمتنا: النقود في قلب البحيرة أمنيات المحبيّن، جرّبوا حظّكم. بسرعة تمتمت شفاهنا أمانينا، وألقتها في الماء. رجوت البحيرة أن تعيد لي حبيبي الأول، وحين عدتُ إلى غرفتي في المدينة الجامعية، وجدته في انتظاري.

بعد سنتين عدت ثانية إلى البحيرة، ولم تخيّبني، وهبتني أحلى حب: تنفسّتُ بعمق، ابتسمتُ، حضّرتُ نقودي، وبثقة سرت، تسبقني دقات قلبي، ورجائي احتاج من أناديه حبيبي. حين وصلت، سربلتني القشعريرة، لم يكن هناك ماء ولا عشّاق، بحيرة الأماني جفّت، وغطّتها القمامة.

عدتُ أدراجي، أضمّ خيبتي بين ذراعيّ، أمسح الاتجاهات بيأسي. وحين أطبقت عليَّ جدران منزلي، بكيتُ طويلاً وغفوتُ، رأيته في منامي، يقف قبالتي عند البحيرة، ينظر إليَّ شامتاً، ويبتسم، استيقظتُ والعرق يبللني، لم يغفر لي.

مدرب الرياضة، بوجيدار أو “بوبي”، كما كنت أناديه، التقيته بعد أقل من ثلاثة شهور على وصولي للدراسة في بلغاريا. كنت وحيدة في غرفتي، أكتب، حين نقر بابي في المساء، وأطل بعينيه الخضراوين، بشرته الحنطية، شعره الأسود وشاربه، وسألني بالبلغارية عن زميلتي في الغرفة. اعتقدتُ أنه سوري، وأجبته بالعربية: “لم تعد من الجامعة بعد”، ابتسم وقال: “أنا أشبه العرب، وأنتِ تشبهين البلغاريات”.

استأذن أن ينتظرها، ريثما تعود، وافقتُ على مضض، الغرفة بالكاد تتسع للطاولة الكبيرة، الكراسي والأسرّة الثلاثة، وأنا منهمكة بتحضير دروسي. دخل وجلس أمامي، ارتبكتُ، وأغلقتُ دفاتري، عرضتُ عليه فنجانا من الشاي، شربنا، تحدثنا قليلاً، وساعدني في دروسي، قبل أن تفتح تمنوشكا علينا الباب. تكررت زياراته المسائية، يسأل عنها، وينتظرها، يعلّمني البلغارية، ويقهقه على طريقتي في اللفظ وأخطائي، أسقيه الشاي والقهوة بالهال، أطعمه المسكرات والحلويات السورية، فيُفتن بمذاقها، حتى خُيّل لي أنه يجاملني. في البداية اعتقدتُ أنه حبيب صديقتي، وبعدها أدركت أنه يأتي لرؤيتي، وبتّ أنتظر قدومه بفارغ الصبر، وأتعمّد أن أكون وحدي.

حلّ رأس السنة، ودعتني تمنوشكا، لأن نقضي المناسبة عند أهلها في كازنلك. في موعد الانطلاق كانت مفاجأتي سعيدة: بوبي هو من سيقلّنا. الحرارة أقلّ من الصفر، وكلتانا واقفة تنتظر، أن يزيل الثلج عن زجاج سيارته الـ”لادا”. مشيتُ إلى باب السيارة، تمايلتُ وقلت: “بردت، افتحني”، فقال باسما: “بكل سرور”، وهي صحّحتْ: “افتح لي”.

وصلنا المدينة بعد ثلاث ساعات، لم أستطع أن أتبيّن ملامحها تحت ندف الثلج والمساء، لكن منزل العائلة كان دافئاً، بموقد كبير، وأرض خشبية يغطيها السّجاد. كانوا في غاية اللطف، مائدتهم عامرة بألذّ الأطعمة، والنبيذ الأحمر من صنع أيديهم. بوبي قربي، يسكب لي الطعام، يصبّ الشراب، يرقص معي، يحاول اختراق مسافة الأمان، التي اعتدتُ أن أضعها بيني وبين الآخرين. أبتعدُ وأقول “أنا عربية”، يقلّدني، يضحك، وحين أعلنت الساعة حلول عام 1982، لم تكن قبلته بريئة، ولم أكن أعرف طعم القبل. قطّعت الأم قالب الحلوى، وزّعته علينا، في قطعتي ظهرت علامة الحظ، فصفّق لي الجميع، وأهدوا إليَّ أجمل الأماني. منذ تلك اللحظة صار لي أهل في بلغاريا، ودّعتهم مساء اليوم التالي، وعدت إلى صوفيا مع بوبي. في الطريق طلب مني الزواج، قال: “لأجلك، سأشهر إسلامي”، فلم أجبه، ضحكتُ من شدة ارتباكي، قدّم لي البوظة التي أحبّها، وسألته: “وين المخدة؟”، “بدّك تنامي؟”، “لأ، بدي آكل”، “بتقصدي الملعقة”. عاشقين مشينا في شوارع صوفيا، يده تشبك يدي، تمسح وجهي، تداعب شعري. عرّفني بأهله وأصدقائه، قدّمني لهم “زوجة المستقبل”، وببلغاريتي الركيكة حدّثته عن بلدي وحياتي، علّمته عبارات الحب بلغتي. أعجبه معنى اسمه بالعربية “عطا الله”، واستطاب أن أناديه به، قرأ قرآني، فراقه تعدد الزوجات. قرأتُ إنجيله، وفي الكنائس أوقدت له الشموع. كان بوبي مشدود القوام، في سنته السادسة والعشرين، له تجارب عديدة مع النساء قبلي، ويستغرب انعدام خبرتي، حاول أن يُشعرني بأنوثني، تشنّجتُ ورفضتُ، احترم تمنّعي، ولم يفهمه قط.

جسدي ميتٌ، لا أشعر به، لم أعدّه لقبول المتعة، أعددته لدخول السجن، وصدّ التحرّش بي. لا أشرب المسكرات، ليظل يقظاً ومتنبّهاً لمن حوله. لا أعطيه المسكّنات، أتركه يتألم ويتألم، وأقيس صبري، وكنت أختبر طاقته على الاحتمال. مرة ًأطفأتُ سيجارتي في ذراعي، ومرةً هرستُ كأس الزجاج بيدي، ورحت أراقب دمي، وكان يجنّ جنوني، إذا لمسني أحدهم في الطريق. حين بدأتُ مراهقتي كانت الاغتيالات والسجون، قد بدأت تحصد السوريين، وكنت من أسر المعارضين. لم يكن الخوف قد استولى على قلبي بعد، لكنها كانت فترة سوداء، خرجتُ منها منهكة. وحين التقيتُ بوبي، كنت طفلة تبحث عن أمن ينقصها، أتكوّر في حضنه، وألقي رأسي المتعب على صدره، لا أشعر بالإثارة، ولا أدري أني أثيره.

دعاني لقضاء يوم المرأة العالمي في فندق على الجبل. خفت على بكارتي، ورفضتُ. أصرّ، وقال إن لزم الأمر، سوف يتزوجني اللحظة، لم يعد قادراً على احتمال هذا الحب العذري. لم أفهم تماماً، واستغربت ما الذي ينقصه؟ تشاحنّا وتشاجرنا للمرة الأولى. هددني إن لم أذهب معه، فسوف يذهب مع غيري، فقلت: إفعل ما يحلو لك، وتركني مقهوراً. في الثامن من آذار انتظرته طويلاً، لم يهاتفني، ولم يأت لتهنئتي، ورؤية ورود زملائي التي ملأت الغرفة. لم أنم جيداً تلك الليلة، وفي الصباح المبكر حزمتُ حقيبتي، مزقتُ رقم هاتفه، وانتقلتُ إلى غرفة أخرى.

لم أترك عنواني الجديد لزميلاتي. بعد اليوم لن يراني، المدينة الجامعية تمتد على مساحات مترامية، فيها قرابة مئة مبنى سكني، تفصل بينها الشوارع العريضة، الحدائق والمخازن والمقاهي والملاعب ومطعم الطلبة. سكني الجديد في المنطقة الحديثة، أبعد ما يكون عن البناء القديم الذي كنت فيه، أبداً لن يعثر عليّ، إن رغب في لقائي.

استلمتُ مفتاح غرفتي الجديدة، بدأتُ أرتّب أغراضي، فوقعت صورته الصغيرة من بين كتبي، حملتُها، نظرتُ إليها، تحسستُها بأصابعي، رفعتُها إلى فمي، قبّلتُها، ووضعتُها على مكتبي. بعد أيام صرت أحنّ إلى لمسة يديه، ذراعيه تطوّقان خصري، شفتيه. أتذكره، وأشعر بالرغبة تسري في دمي. بات شوقي إليه يضغط على قلبي، يعذّبني، يمنعني من النوم والتركيز. أهيم في الطرق، أذهب إلى الأمكنة التي كنا نرتادها، ولا تجمعني به المصادفات. أريد ان أراه، ولم أحفظ عنوان منزله أو عمله. شهر كامل أعيتني مشاعر لم أعرفها في حياتي، ولا أدري كيف أداويها؟ كدت أموت.

حين رأيته من بعيد، في ذاك النهار المقدّس، جالساً على المقعد الخشبي، كدت أطير من الفرح، وددتُ لو أركض نحوه، أقفز، وأعانقه، أصحبه إلى غرفتي، وأدعه يأخذني كيفما يشاء. لكني جمدتُ في مكاني، وحين اقترب مني ليحضنني،

أبعدته، قلت: “آسفة صار عندي حبيب غيرك”، وحين حاول جرّي للحديث، قطعته. رأيت الدمع يصعد إلى عينيه، أدرتُ له ظهري، وتابعتُ طريقي. دخلتُ عزلتي، وبكيتُ من قسوتي. كان جسدي معطوباً تماماً، لن أنعم به، سوف يقهرني ويربكني. ينفر، ويعذبني بشهوتي، يتألم، يتذمر، ويتصرف على خلاف رغبتي.

 كاتبة سورية

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى