صفحات الثقافةفواز حداد

جغرافيا البلاد التي لن تعثر عليها/ فواز حداد

 

 

 

لا يعني المكان بالنسبة للرواية مجرد مدينة وشوارع ومساجد وحارات ودكاكين… المكان يزيد عن معالم قائمة على الأرض، أو خلفية مرافقة للحدث الروائي، فعدا عن دلالته على تقدم الزمن وحركة التاريخ، ما يشيدانه أو يهدمانه على الأرض، ينفض الغبار عن الذاكرة ويضيف إليها، كما ويسهم بموضعته داخل العمل الروائي، بجماليات تزين مفاصل الأحداث بتصورات عنه، تستنبطه الذاكرة، أو تتخيله، وتستـأثر به على أنه جزء من ماض يمت إلى السيرة الذاتية، يحرك الحنين إلى زمن مضى، أكثر مما يدعو إليه منطق الرواية.

مهما كانت الرواية، فلابد من تلك الرقع المكانية التي تشكل جغرافيتها. على التأكيد، سيفكر كاتبنا بالأرض التي سيمشي عليها بطله، والمعالم التي سيتحرك فوقها أشخاص روايته. ما يساعده على طرح أسئلته، وجلاء بعض الغموض، فالمكان متغير، أو يشوبه الغبش، لكنه ليس كل شيء، إنه أحد عناصر الرواية فقط. هناك من الكتاب من لا يشكل له المكان الحقيقي عنصراً لازماً، فيخترع مدينة وشوارع يمنحها اسماً، لكنه مهما شط به الخيال، فالأصل حاضر قائم بذاته، والكاتب إنما يعمل على نسخه، ولو كان في وارد رواية من الخيال العلمي، أو حتى عن تاريخ لم يوجد.

الشغف بالمكان، يحث الكاتب على تقصي علاماته من زمن إلى زمن، فيرسم لكل فترة خريطة، فجغرافية دمشق في زمن الانتداب الفرنسي، أتت عليها متغيرات، ميزتها عن دمشق الزمن العثماني، والزمن المملوكي… وهكذا. كان جيمس جويس يرسل الرسائل إلى معارفه في دبلن، ليتأكد من بعض معالم مدينته، من حانات وكنائس ومقابر ومحلات … ماذا حلّ بها؟ ما المتغيرات التي طرأت عليها؟ ترى المكتبة التي تقع على ناصية شارع… مازالت تبيع الكتب أم تحولت إلى…؟

يفكر كاتبنا، ما الفضاء المكاني الذي سيتحرك فوقه أشخاص روايتي؟ في أية قهوة سيتناقشون في السياسة، “الهافانا” أم “البرازيل”؟ أين سيتناولون طعام الغداء، في “الصفا” أم “الريس”؟ ماذا تقدم هذه المعلومات للرواية؟ ربما لا شيء سوى انها تداعب على الأغلب شيئاً في صميم الكتابة والكاتب: إعادة إحياء المكان.

وربما في استجلاء غوامض يعتقد الكاتب انه سيكشف الغطاء عنها، ما يحفزه على مقاربتها. فالأمكنة لديها أسرارها التي لا تبوح بها للعابر، وأحياناً للمقيم. إذ لكل مكان خصوصيته بعدد من يحاولون التعرف إليه، وعلى الكاتب تلمسه من تقاسيمه، فللبيت الدمشقي خصوصيته ومفاتيحه: الباب القديم الداكن اللون لا يوحي بالجنة الصغيرة التي يقوده إليها دهليز معتم، ثم إلى القسم التحتاني من البيت؛ المبهر بالنور، باحة الدار، الليوان، القاعة والصاليا، المطبخ، فالدرج المؤدي إلى الفوقاني؛ غرف النوم، الفرنكة، ومن ثم السطح. عدا ما يحتويه من دخلجات مثل، الداكونة، بيت المونة، الليوك، الخص…

تجمع بين الكاتب والمكان علاقة يتبادلان منافعها، إذ بقدر ما يتحسس الكاتب صميمية المكان ومعالمه من الداخل، بقدر ما يمنح سنداً واقعياً لروايته. ولو كان التعامل معه يختلف بين الكتاب، فمنهم من يكتفي بالمعالم الخارجية للأزقة والبيوت واللافتات. وآخرون لا يهملون التفاصيل الصغيرة من زخارف ونمنمات وأشجار ونباتات…الخ.

لا ينجو المكان في المشهد الروائي من الزمن سواء كان محدداً أو غير محدد، فيتدخل يؤرخ الأحداث ويؤطرها. مثلما لا يفلت الزمن من تدخل المكان، فيرصد تحولاته وتقدمه في العمر، حتى أن الكاتب في أحلامه الهلامية الزئبقية، العسيرة على الضبط، يستعيره من الواقع.

إذا واتانا الحظ وعدنا إلى سورية، فلن نصادف بلادنا التي نعرفها، ولن نجد العلامات والأسهم والأضواء والإشارات… التي اعتدنا عليها؛ لا مرابع الصبا، ولا خلوات الشباب، ولا السينمات والمسارح والمطاعم… التي ارتدناها. لا طريق طالع او نازل، لا أزقة سد، أو دخلات وعوجات، ولا شوارع مفتوحة على ساحات، لا شيء هناك سوى الحواجز تغلق الأفق، وتمنع النظر إلى ما بعدها.

ستمشي أيها العائد، إن قيض لك أن تعود، في خراب على مد النظر، خراب على طول البلاد وعرضها؛ تلك هي جغرافيا البلاد التي لن تعثر عليها.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى