مراجعات كتب

جمال باروت مستكشفاً أدوار ابن تيمية

 

 

الدوحة – العربي الجديد

في كتابه “حملات كسروان في التاريخ السياسي لفتاوى ابن تيمية”، الصادر حديثاً عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، يحاول المؤرخ السوري محمد جمال باروت مَرْحَلَة أدوار ابن تيمية وتحديدها في سياق الصراع السياسي المملوكي-الإيلخاني على بلاد الشام، مستكشفاً ثلاثة أدوار له، تحت أسماء “ابن تيمية الأول” و”ابن تيمية الثاني” و”ابن تيمية الثالث”؛ ليصل إلى مرحلة “ما بعد ابن تيمية الثالث” في القرن الرابع عشر الميلادي الذي حلّ فيه زمان التعصّب بحسب رأيه.

في الفصل الأول “إيستوريوغرافيا الحملات الكسروانية: كسروان في الرؤية التاريخية السردية المتركزة طائفياً”، يقول باروت إن المصادر التاريخية اللبنانية المعاصرة، ارتكزت حتى أواسط سبعينيات القرن الماضي في إعادة بنائها تاريخ كسروان، ولا سيّما الحملات المملوكية الثلاث عليها؛ على تحديد الهوية الطائفية الكسروانية، فكانت زجلية جبرائيل بن القلاعي “حروب المقدّمين ومديحة كسروان” مصدراً رئيساً، وتاريخ الأزمنة لإسطفان الدويهي، وتاريخ طنوس “أخبار الأعيان في جبل لبنان”، والتي دوِّنت كلُّها بفاصل قرنين ونيف، على الأقل، عن تاريخ حدوث الحملات. وفي هذا السياق، يعدُّ باروت المؤرخين أحمد بيضون وكمال الصليبي ووجيه كوثراني من أبرز من وجه النقد الإيستوريوغرافي إلى أعمال المؤرخين اللبنانيين بشأن تاريخ لبنان.

وفي فصل “رسالة ابن تيمية إلى السلطان وإعادة التعريف الهوياتي الطائفي لكسروان”، يقول باروت إن رسالتين وصلتانا من ابن تيمية؛ الأولى أرسلها من داخل كسروان إلى ابن عمه الشيخ عز الدين ابن تيمية في دمشق، يصف فيها الكسروانيين المعتصمين في الجبال من دون أن يفصّل انتماءاتهم تفصيلًا دقيقًا، ذاكرًا “مجريات تدمير كسروان عبر دينامية المحاكاة التخييلية المقارنة، بتأكيد أن ما حدث هو شبيه بغزوة الرسول محمد لبني النضير؛ إذ يرى شبهاً كثيراً بين الكسروانيين وبني النضير”؛ والثانية أرسلها إلى السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون، كتبها بعد نهاية الحملة الثالثة (705هـ/1305م)، بدت فيها هويّة أهل الجبل أشدّ وضوحاً، ويرى باروت أن التعرُّف إلى هذه الرسالة مثل نوعاً من انقلاب في التواريخ اللبنانية الكسروانية المعاصرة؛ إذ أنهضت دراسات تاريخية جديدة، متركزة شيعياً ودرزياً وسنّياً.

يدرس باروت في فصل “الحملة الكسروانية الأولى التي لم تحدث” رواية الصراع بين السلطان المملوكي قلاوون الألفي ونائب السلطنة في الشام الأمير سنقر الأشقر، وتمكن قلاوون من حسم الصراع بتجريد الأشقر من إقطاعاته، والزجّ به في السجن، لينادي في عام 1287 بالحملة ضد كسروان والجرد.

يتطرّق باروت أيضاً إلى استسلام دمشق للتتار بقيادة غازان في عام 1299، فنهبوا حواضرها، يكتب باروت: “بسبب ما فعله التتار بالصالحية وحواضر دمشق مثل المزة وداريا، بدأ ابن تيمية يتحوّل من ابن تيمية الأول (الذي بدأ حين ورث منبر والده برواق الحنابلة بجامع دمشق يفسر القرآن الكريم وغير ذلك) إلى ابن تيمية الثاني الذي اضطلع “بمقومات التأثير والقوة في المجال الفتويّ – الاجتماعي – السياسي اليومي المباشر، وبالضغط الشديد على المركز المملوكي في القاهرة في وقت واحد لصدّ هجمة التتار. وخلال فترة الفراغ في السلطة هذه، غدا ابن تيمية بطل دمشق في صدّ التتار”.

بحسب باروت، يبدأ ابن تيمية بالتحوّل من ابن تيمية الثاني إلى ابن تيمية الثالث بعد حملة كسروان الثالثة، كما عبّرت عن ذلك بصورة أنموذجية رسالته إلى السلطان الناصر، بُعَيد نهاية الحملة في عام 706هـ/1306م. يقول: “سيحكم هذا الطور الثالث أساس الربط في مرحلة تجدّد الصراع المملوكي-التتاري، بين الفِرق الشيعية والثيو-صوفية العرفانية والتتار، على أساس أن تلك الفِرق هي العدو الداخلي لدولة الإسلام المملوكية في مقابل العدو الخارجي الخارج عن الإسلام، على الرغم من تلفظه بالشهادتين، فما عادت جزءًا من ظاهرة المنافقين المنتشرة بين المتفقهة والمتصوفة، والعامة والخاصة، والمقاتلة والأمراء، بل أضحت نِحَلًا قائمة بذاتها يتجسم بها مفهوم عدو الإسلام. ومن الناحية الفقهية والمعرفية، سيحكم ذلك في مرحلة ابن تيمية الثالث إنتاج أفكاره وفتاويه التي تحمل أول مرة رائحة من الناصبية، بالمعنى الذي كان يميز فيه ابن تيمية موقفه منها حتى أواخر حياته”.

لم يقاوم الكسروانيون الحملة الثانية عليهم (8 – 19 تموز/ يوليو 1300م) التي قادها جمال الدين أقوش الأفرم، نائب السلطنة في دمشق، بل استسلموا متجنبين الهزيمة. يقول باروت إن أعيان الكسروانيين أتوا ابن تيمية فتوسط بينهم وبين الأفرم الذي حاول أن يحل المشكلة معهم بطريقة سياسية، كي يحول بولائهم دون أي تقدّم صليبي محتمل نحو دمشق. بدوره أوفد الأفرم ابن تيمية والأمير بهاء الدين قراقوش ناظر بعلبك، إلى الكسروانيين لحثهم على الرجوع إلى الطاعة، بينما شرع بتجهيز الحملة الكسروانية الثالثة الكبرى (1305م) التي أدت في النهاية إلى خراب كسروان، والتي انخرط فيها ابن تيمية شخصيةً مملوكيةً أيديولوجيةً تعمل في الفضاء الديني-المذهبي لعمل الأفرم. وإذ يشير باروت إلى ما قيل عن إفتاء ابن تيمية بهذه الحملة، يسأل عن نص هذه الفتوى فلا يجده. يقول: “لا يعني هذا السؤال إنكار كتابة ابن تيمية إلى تلامذته للالتحاق به في الحملة على كسروان، بل الغرض منه محاولة تبيّن تطور موقف ابن تيمية الفقهي- العملي السياسي من كسروان خصوصا، والجماعات الاعتقادية الإسلامية غير السنيّة عموما”.

بعد الحملة، عاد ابن تيمية إلى دمشق، واصطدم بفقهاء رموه بالخروج على العقيدة الأشعرية في التوحيد والأسماء والصفات، فأمر السلطان المملوكي بعقد مجلس فقهي لسؤاله عن عقيدته. وجرت مناظرة على الأساس النصي للعقيدة الواسطية، فلم يستطع الفقهاء أن يجدوا مستمسكاً اعتقادياً واضحاً على فساد عقيدته. يقول باروت إن هذه المحاكمة كانت مظهراً أيديولوجياً لصراع سياسي بين مراكز القوى في الجهاز السياسي-الفقهي المملوكي، فاضطربت دمشق بين من وقف معه ومن وقف ضده في ما عرف بـ”فتنة دمشق”. حوكم ثانية في القاهرة وأودع في السجن، إلى أن عفا عنه السلطان المملوكي وأخرجه.

في الفصل الثالث “ابن تيمية الثالث والسلطان: توتر العلاقات السنّية المملوكية – الشيعية الإيلخانية”، يتكلّم باروت على مرحلة ابن تيمية الثالث وعودة دوره إلى البروز في شروط توتر العلاقات المملوكية–الإيلخانية، وتنتهي بمحاكمته من جديد لتبدأ بعدها سلسلة اضطهادات وتهميشات له حتى وفاته في عام 1328م.

يتناول الباحث أخيراً اضطهاد الفرق الصوفية العرفانية والشيعية وطردها من مجال الجماعة، وحلول زمن التعصب بإخماد حركة الإحياء الشيعية الأولى بعد حملات كسروان، والتحوّل من حقبة إحياء السنّة بالوسائل الهجيمونية، إلى فرضها بالأساليب القسرية المؤسسية.

يختم باروت كتابه بالقول إن زمن ابن تيمية زمن صراع سياسي مملوكي-تتاري صريح، “حكم بدرجة أساس فتاواه ومنظوراته كفقيه مميّز من أقرانه في المؤسسة الفقهية المملوكية في كونه مستقلاً، ولا يتلقى أجراً ولا أعطيات من السلطان، وهو ما يفسّر تعقد العلاقة بينه وبين السلطان وجهازه الفقهي-البيروقراطي المحيط به، وانتهى هذا الصراع ومضى، بينما لا يزال التطييف السنّي-الشيعي الذي عبّرت عنه سجالية ابن تيمية-الحلّي للصراع السياسي في عصرهما مستمراً في صيغة الماضي-الحاضر-المستمر، في شكل عصبيات سنية-شيعية طائفية مسيّسة، أورثت المجال الإسلامي الحاضر الطائفية السنية-الشيعية العدوانية المتجددة والاستقطابية في طور تسييس الطوائف. فلا يزال قسم كبير من مراجع إظهار الصراع السياسي اليوم في شكل صراع طائفي سنّي-شيعي يضرب بجذوره في الصراع المملوكي-الإيلخاني في القرن الرابع عشر، الذي تنمذج في صراع ابن تيمية مع الحلي، ولا تزال صراعات المصالح والسيطرة تعيد إنتاجه في شكل كابوس طويل لم يستفق الوعي الإسلامي منه حتى الساعة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى