صفحات سورية

جميع الذين حاوروا النظام انتهوا قتلى او سجناء او متهمين بالخيانة.. الحوار ولعبة اكتساب الوقت في سورية

 


محمود ماهر الزيبق

لا يمكن أن نفهم مقصود النظام السوري من دعوة الحوار اليوم إلا من خلال عرض لخطابه السياسي منذ بدء الثورة السورية وإلى يومنا هذا..

أول ما قدمه النظام في بداية الثورة كان إنكار وجودها والتقليل من شأنها ومع اتساع رقعة الأحداث بدأ كسب الوقت في ظل القمع بالحديث عن إصلاحات من خلال خطاب بثينة شعبان… عملية إعلان الإصلاح هذه استهلكت وقتا لتؤخذ على محمل الجد منذ إعلانها، فالخطاب الأول للرئيس لم يقدم فيه شيئا واستنزف المزيد من الوقت وصولا إلى الخـــــطاب التالي، الذي وضع جداول زمنــــية مفترضة للإصلاحات تم استهلاكها أيضا، ثم انتقل النظام إلى أكثر المراحل وحشية ضد المتظاهرين منذ الرفع الوهمي لحالة الطوارئ، حيث غاب الحديث عن الإصلاح رسميا أما جداوله الزمنية فقد أصبحت جداول لعملــــيات الدبابات العسكرية ومداهمات الجيش للمدن.. مــنذ ذلك الوقت والنظام يراهن على قدرته على إخماد صوت الاحتجاج بمزيد من الدموية والقمع والاعتقال والمداهمات ونشر الرعب والفــــزع وتمثيليات العصابات والمندسين في رهان على تحويل المتظاهرين إلى أرقام من القتلى والمعتقلين والفارين خارج البلاد والخائفين المختبئين في مساكنهم.. ومع فشل العملية أو استهلاكها من الوقت أكثر مما توقع محنكو الاستخبارات، وفي ظل اشتداد النكير الدولي للجرائم والمجازر الجماعية كان لا بد للنظام أن يقدم بديلا للصمت الرسمي عن المجازر، واختير طرح الحوار لملء فراغ الوقت.

أبواق النظام ومحللو جرائمه السياسيون الذين أخذوا وقتهم في مرحلة ما قبل الحوار في النفث على المذابح وإذكائها وهم يتحدثون على الفضائيات وفي الصحف عن ضرورة الرد على الإمارات السلفية المزعومة بقبضة حديدية، بدأوا اليوم خطا جديدا كما حددت لهم بوصلة تصريحات النظام التي تفاجئهم بخطوات قد تضطر أحدهم لتبديل كلماته في يوم واحد.. فتحليلاتهم اليوم تندرج في وضع الشروط الرسمية والمقاييس والمواصفات وتلوين صور الدمى التي يفترض بها أن تجلس في مسرح خيال الظل لحوار ‘كركوز وعواظ’ ممن سيمنحون وصف ‘المعارض المقبول’ وطبعا عملية تحديد المواصفات وتأخير الحوار لأجلها هي أيضا إحدى مراحل كسب الوقت مع استمرار الآلة العسكرية بالمجازر والاعتقالات اليومية.

للحوار الذي يطرحه منظرو النظام اليوم على انه ‘راس غليص’ كما نقول بالشامية، مؤشرات أخرى تحدث عن عبثيته، منها نموذجه المصغر في حوار الفنانين الأخير، الذي أدت فيه كلمات مي سكاف الخارجة عن السياق إلى مصادرة كل أشرطة التلفزيون السوري والدنيا ومطالبة الفنانين بمسح التسجيلات عن جوالاتهم قبل خروجهم، إذ لن يقبل في نص الحوار الجديد إلا أبيات شعر مسروقة من عهد الإطناب والإطراء والمديح ودعوات تولية القيادة الحكيمة للعالم والمريخ وزحل بجميع أقماره.

وفي دلائل أخرى لعبثية الدعوة نذكر أمثلة عما حل بالحوارات السابقة للإفادة من نتائجها..

في المعضمية مثلا كانت هناك لجنة للحوار تحاول ان تعمل بالتنسيق مع المخابرات الجوية، فالدكتور فايز غنام الذي ساهم في تهدئة الشارع بعد سقوط أول شهداء المعضمية احمد الدمراني، الذي قتل بدم بارد وسرقت حافلته بعد قتله إلى المخابرات الجوية القريبة وملئت بالأسلحة وأذاع التلفزيون السوري والدنيا أن قتيلا وقع أثناء محاولته تهريب أسلحة، الدكتور فايز غنام طالب المخابرات يومها بالكف عن حديث الأسلحة المزعوم هذا مقابل تهدئة الشارع، وبالفعل توقف الاعلام الرسمي عن بث الخبر يومها وكأنه لم يكن، ونشرت صحيفة ‘الوطن’ في اليوم التالي عن تضارب الأنباء بخصوص الشهيد الدمراني، كمحاولة مقتضبة للتراجع، ثم في اليوم الذي تلاه نشرت توضيحا يفيد بانه لم يكن يحمل أسلحة وأن لجنة برئاسة النائب العسكري شكلت للتحقيق ومحاسبة المخطئين. من لجنة الحوار أيضا العقيد الطيار أحمد بلال الذي نجح أكثر من مرة في وقف التظاهرات مقابل وقف عدوان قوات الأمن والشبيحة على المتظاهرين بتعاون مع جميل الحسن قائد المخابرات الجوية.

وفي المعضمية أيضا النائب مصطفى السيد حمود الذي كان يسير خلف المظاهرات ليتأكد أنها كانت دائما سلمية ولم ترتكب أي تخريب، وفوّض نفسه أكثر من مرة للتوقيع باسم المتظاهرين على تعهدات بعدم الخروج. منذ خمسة عشر يوما تقريبا تقبع كامل لجنة الحوار في سجن المخابرات الجوية، ومن أعضائها فايز غنام والعقيد أحمد بلال وفايز الواوي الذي أشيع قتله بينما يرقد في العناية المشددة ‘سجينا’ مع محمد منصور من بقية اللجنة، أما النائب مصطفى السيد حمود فقد داهموا بيته واعتقلوا أولاده وتم تهديده بأن حصانته قريبة من انتهائها.

من هذه الحوارات أيضا لقاء مناف طلاس بشباب الثورة في داريا.. فبعد أن اجتمع الكثيرون منهم في المركز الثقافي في لقاء أولي تم اختيار أكثر الشباب جرأة بالصدع في الحق وأحرصهم على عدم المداهنة للقاء طلاس، الذي قدم نفسه لهم كصديق شخصي للرئيس الأسد، إضافة إلى منصبه عميدا في الحرس الجمهوري، ملمحا إلى أن الرئيس سئم تقارير الأمن المزيفة واختياراتهم الانتقائية، وهو يريد أن يعرف الحقيقة عن قرب من خلال من يثق بهم من أصدقائه، وهذا مؤشر على جدية الحوار آنذاك والأهم منه هو حديث طلاس الذي استفاض فيه بعدم الرضى عن تصرفات الأمن ورد ذلك إلى ما قال انه عدم خبرة الشباب بالتظاهر وعدم خبرة الأمن بالرد على هذا التظاهر، وأتم الحديث بأن الشباب نجحوا في إجبار الأمن على التراجع وتقديم التنازلات التي ستأتي كإصلاحات مؤكدة، كما دعاهم إلى تشكيل لجنة قيادية تمثلهم للحوار معها في المستقبل، وتم إطلاق جميع المعتقلين من داريا استجابة لهم ثم حاول إقناعهم بالتوقف عن التظاهر خوفا عليهم من المندسين، الامر الذي رد عليه الشباب بتأكيد عدم وجود المندسين وان العنف ارتكب من قبل الأمن. وافق طلاس على عودتهم إلى التظاهر وتم الاتفاق على ألا يقترب الأمن منهم شريطة ألا يطالبوا بإسقاط النظــــام، وحين تحـــدث احد المتملقين بأنه لا داعي للتظاهر مع وعود الإصلاح اسكته طلاس وقال لا دعــــهم يتـــظاهرون وفق ما اتفقنا عليه، وبالفعل نفذ الاتفاق في اليوم التالي وكانت من المظاهرات النادرة التي خلت من الرصاص والاعتقال وبدأت وانتهت بشكل سلمي بسبب غياب الأمن عنها.

كما أن الرئيس الأسد استقبل بنفسه في تلك الفترة وفودا تمثل الأماكن المشتعلة والأماكن المحتملة للاشتعال وسمع منهم كلمات جريئة، منها إشارة احمد الصياصنة من وفد درعا لتزوير ماهر الأسد الحقيقة عما حصل من التخريب الذي نفذته المخابرات وتم إلصاقه بأهل درعا، ولكم أن تتصوروا أن الرئيس أنصت لطرح جريء كهذا وزاد عليه في احد تلك الحوارات بأن وصف ابن خالته عاطف نجيب بـ’الأزعر’ الذي ستتم محاسبته.

كما التقى الرئيس بعدد من رجال الدين في دمشق وحرص على أن يلبي لهم بعض المطالب الهامشية كموضوع إعادة المنقبات إلى التدريس في التربية وإلغاء كازينو القمار الذي كان افتتح مؤخرا.

وفي بانياس سمح لأنس عيروط ومن معه بقراءة بيان مطالبهم من شرفة فرع الأمن السياسي أمام المتظاهرين كعلامة على الاهتمام والجدية في سماع صوت الشارع الثائر.

هذه المؤشرات الجادة نسبيا على الحوار في ذلك الوقت التي صاحبت بعض الأفعال لم تتضمن اعترافا بمعارضة، وإنما كانت محاولة لإسكات صوت الشارع بالاقتراب منه مباشرة ومحاولة استرضائه بخطوات كانت على الأقل تسير رديفة للقتل والاعتقال.. ولكن ماذا حل بتلك الحوارات الجادة؟ إضافة لما ذكرناه عما حل بلجنة المعضمية للحوار تغص السجون اليوم بشباب داريا كغيرهم من شباب الثورة، أما في درعا فقد أجرى النظام مع ابن الصياصنة حوارا من نوع آخر، بدأ محوره الأول بسؤال أين أبوك؟ الجواب: لا ادري السؤال الثاني رصاصة كانت خاتمة الحوار الجديد. أما أنس عيروط فهو اليوم سجين كأمير لإمارة سلفية مزعومة في بانياس.. ولعلماء الشام الذين تحدثنا عن حوار الرئيس مع بعضهم، نصيبهم أيضا، فقد عزموا على نشر بيان دعوا فيه إلى محاسبة قتلة المتظاهرين وإصلاحات حقيقية والسماح بالتظاهر مع إخطار الداخلية من دون انتظار موافقتها. وعقب تسرب البيان لرئيس جهاز المخابرات علي مملوك قبيل نشره وجهت لهؤلاء الموقعين تهديدات شديدة اللهجة وصلت إلى التلويح بالخيانة العظمى، من دون مراعاة لقائهم السابق بالرئيس أو شعبية أسماء بعضهم الواسعة كراتب النابلسي وأسامة الرفاعي، وأشير هنا إلى أن البيان سرب إلى الفيسبوك مؤخرا.

الخلاصة أن جميع المحاورين السابقين هم اليوم إما قتيل أو سجين أو مهدد بقتل أو سجن أو خيانة عظمى، أما الذين يسلط عليهم الضوء اليوم كبدائل في وفود لقاءات الرئاسة، فهم أولئك الذين يجيدون إلقاء الشعر بدل الصدع بالحق، الذين يصفهم النظام بأنهم يستقبلون جنود الفرقة الرابعة بالورود لتمعن القتل والسرقة والنهب في إخوانهم على وقع مدائحهم ومعلقاتهم الشعرية بمكرمات القتل والجريمة.

في ظل هذا كله لا أجد داعيا للحديث عن شروط أو مقومات للحوار مما لم ولن يلتزم به النظام فأصل الدعوة ليست إلا تمثيلية تشغل الضغوط الدولية عن إتمام المجازر في عتمات أريد لها أن تكون أشد حلكة بسرقة الأضواء منها إلى هذا الحوار المزعوم .

‘ كاتب صحافي من سورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى