صفحات العالم

جنوب تركيا العربي الذي صار جنوبها الكردي

 

    جهاد الزين

بعد مقالَي “الجيوبوليتيك يبتسم للأكراد”(19-3-2013) و”تركيا دولة ثنائية القومية” (30-3-2013) هنا مقالٌ ثالث يرصد التحوّلات “الكردية” في تركيا وسوريا والعراق لمناسبة “الاتفاق” غير المسبوق بين رجب طيّب أردوغان رئيس الحكومة التركية وعبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردي.

خرائط دول المنطقة تهتز بل اهتزت. وفي هذه اللحظة الاهتزازية يختار “الحزب-الشخص” الأقوى في “الدولة-الأمة” التركية تثبيت حدود الدولة من بابها الأكثر خطورة، الباب الكردي، مع فتح أفق غير معروف للتغيير الداخلي.

مع الخرائط الجديدة للمنطقة، الرسمية في السودان والعراق، والواقعية في سوريا يجب التفتيش على أنابيب النفط والغاز الموجودة أو المرسومة مثلما كان الرحّالة يفتّشون عن أضواء منبعثة من مكان ما ليتجهوا نحوه أو مثلما يفتّش المحقق الجنائي عن “خيوط” جريمة.

لبلد مثل تركيا حيث بورجوازية صاعدة باتت ضخمة المصالح الصناعية لا يمكن أن تحضر الحسابات السياسية الكبرى بدون حسابات اقتصادية كبرى. حتى أن هناك من يقول أن اندلاع التمرّدِ الكرديِّ المسلّح بقيادة “حزب العمال” (PKK) في منتصف الثمانينات من القرن الماضي تحوّل مع الوقت، أي مع تصاعد الرد العسكري العنيف الذي يقوم به الجيش التركي، إلى عنصر اقتصادي مهم من حيث ضخ الميتروبولات الصناعية التركية في  اسطنبول وإزمير وأنقرة وغيرِها بيدٍ عاملة كردية رخيصة وفّرتها أعدادُ الهاربين الأكراد من عنف المعارك في الجنوب الشرقي إلى ضواحي المدن الكبرى. يدٌ عاملة كانت ضروريةً لدفع النشاط الصناعي التركي إلى مستوياتٍ متقدّمة سمحت له بأن يكون تنافسيا في الخارج… مما سيحوّل تركيا خلال 15 عاما إلى “نمر” اقتصادي في الشرق الأوسط والبحر الأسود والقوقاز وآسيا الوسطى ونسبياً في بعض إفريقيا.

اليوم، على ما يبدو يجب أن نبحث عن النفط ومصالحه في جنوب تركيا العراقي والسوري… أي هذا الجنوب العابر للحدود الذي يجب أن نتعلّم أن نسمّيه “الجنوب الكردي” لتركيا لا العربي أي في إقليم كردستان العراق وفي “الأمر الواقع” الكردي على طول الحدود مع سوريا التي أصبحت بمعظمها حدوداً كردية باستثناء أقصى الغرب في لواء أسكندرون.

تؤكد التقارير المتخصصة وبينها “بيزنس مونيتور انترناشيونال” صورة علاقة اقتصادية استراتيجية  بدأت ترتسم في الأعوام الأخيرة بين تركيا وإقليم كردستان العراق وتتحوّل الآن بعد التطورات في سوريا وانعكاسها على علاقات تركيا بالمنطقة إلى علاقة استراتيجية سياسيا. خصوصا حين يصبح إنتاج النفط والغاز وخطوط إمداده من إقليم كردستان العراق في قلب هذه الصورة، وفي سياق البحث التركي الدائم عن تخفيف الاعتماد على الغاز الروسي والإيراني.

 مائة شركة تركية على الأقل تعمل حالياً في شمال العراق الكردي. وإذا كانت تطوّراتُ الصراع في سوريا وعلى سوريا تجعل من شبه المؤكد استمرار تراجع العلاقات بين بغداد وأنقرة سياسيا واقتصاديا بكون بغداد هي اليوم عضوٌ شبه معلن في “الهلال الشيعي”، فإن موضوع النفط في إقليم كردستان سيحظى باهتمام تركي أوسع ولو كانت الطاقة الانتاجية والتصديرية لنفط شمال العراق تعتبر ضئيلة قياسا بالتي لنفط الجنوب.  وهذا الفارق يكمن فيه أحد تفاسير “التفاهم الأميركي- الإيراني ” الغامض ولكن المتواصل على الوضع العراقي؟ وهو ما يدفع، حسب العديد من التقارير الجادة، واشنطن إلى نصح القيادات الكردية العراقية بالسعي للتفاهم مع حكومة بغداد.

تحوّل تعقيدُ الوضع السوري إلى تعقيد للسياسة التركية اختار رجب طيّب أردوغان أن يخوض غماره لأنه بات يعرف أن لا عودة بعد اندلاع الثورة السورية. هو يعرف أنه اختار سياسة عدم الاستقرار والولوج من معارجها لتأمين مصالح تركيا كما تراها نخبتها “الإسلامية” الحاكمة الجديدة بعدما استنفدت سياسة دعم الاستقرار في الشرق الأوسط (العربي) أهدافها من وجهة نظر هذه النخبة. وهكذا يتبيّن أن تغيير المعادلات الداخلية التركية مع إضعاف بل إلغاء دور قيادة الجيش في “توجيه” الوضع الداخلي حمل معه صورةً أخرى للسياسة الخارجية كجزء من دينامية التغيير الجارية في العالم العربي.

اللعبة خطرة لأن الجزء الكردي منها المباشرَ التأثيرِ على تركيا هو العنصر الجديد المتنامي فيها من العراق بعد 2003 إلى سوريا بعد 2011.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى