صفحات الحوار

جنى فواز الحسن: هاجسي هو الكتابة

 

                                            حاورها/ زهير حمداني

 لدى الروائية اللبنانية جنى فواز الحسن الكثير لتقوله ولتكتبه بعد، فهي لم تقل كل ما لديها في روايتها “أنا، هي والأخريات”، رغم أنها تحمل مقاربات اجتماعية وثقافية متعددة ومتشابكة كما الواقع اللبناني والعربي.

 وصلت الكاتبة الشابة بروايتها تلك إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية، لتحجز لنفسها مكانا في المشهد الروائي العربي في بداية تبشر بالكثير، لكنها تعتبر وصولها إلى هذه المكانة يضع أمامها تحديات كبيرة على الصعيد الإبداعي.

الجزيرة نت حاورت جنى الحسن عن روايتها “أنا، هي والأخريات” وهواجسها الإبداعية والإنسانية ورؤيتها للأدب كحامل جمالي وتعبيري.

وصلت ضمن مجموعة من الكتاب الشباب إلى القائمة القصيرة لبوكر العربية، كيف تقاربين هذه هذا الصعود، وإلى أي مدى تساهم الجوائز في دفع حركة الإبداع العربي بحسب رأيك؟

– الكتّاب الكبار بدؤوا شبابا، وقد ظهرت أسماؤهم في سنّ مبكرة، ومن الطبيعي أن ينتج كل عصر كتّابا جددا، وهؤلاء بدورهم سيفرضون أنفسهم من خلال كتاباتهم وينالوا فرصتهم. وبعد مدّة زمنية، سيصبح الشباب كبارا وسيأتي جيل جديد، هل سنتنكّر له؟

لا أظن أن الجوائز هي دافع للإبداع، هي فرصة لانتشار العمل، لكن الكتابة بحد ذاتها عمل فردي وشخصي. قد تعزّز الجوائز الحراك الأدبي العربي، لكن الكتابة لا تحتاج إلى حوافز، هي أمر يفرض نفسه عليك، وأنا أحسبها أقوى حتّى من أن نختارها، إنها هي التي تتلبسنا.

تجمعين بين كتابة الشعر والقصة والترجمة والرواية، فهل الوصول للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية سيكون بمثابة الحافز لاختيار طريق الرواية كخيار إبداعي؟ وما الذي يعنيه لمبدعة شابة أن تجد نفسها في قائمة بوكر القصيرة، مع وجود أسماء روائية كبيرة؟

– يعني أني كبرت قبل الأوان، وهو أمر يحتمل وجهين: سلبي وإيجابي… ولا أقصد هنا الوصول إلى القائمة القصيرة، هذا أمر رائع من دون شك، ولكن أقصد شعوري أني كبرت قبل الأوان وأني اختبرت الكثير من الحياة في سنّ مبكرة.

الأمر يعني أيضا، من الجهة الأدبية، أنّ أمامي طريقا طويلا وتحدّيات كبيرة… أمّا بالنسبة للشعر والترجمة والقصة وعملي في الصحافة أيضاً، فهي كلّها إضافة لخدمة هدف رئيسي بالنسبة لي وهو الرواية.

خيار الرواية كان موجودا عندي منذ البداية، وخير دليل على ذلك أني لم أبادر إلى نشر أي مجموعة قصصية أو شعرية… قراري كان أن أركّز على كتابة الرواية، وفعلاً كثّفت الجهد في هذا الاتّجاه وتعاملت بحرفية مع نص “أنا، هي والأخريات”.

بين أربع روايات لبنانية ضمن قائمة بوكر الطويلة، كانت روايتك تتجاوز الحرب الأهلية كموضوع مركزي للمدونة السردية اللبنانية وتلتفت إلى قضايا الراهن. إلى أي مدى يمثل صوت جنى اتجاها يتجاوز مركزية الحرب كثيمة لعمل إبداعي.

– لكل زمن حكايته، لا شك أن الحرب الأهلية اللبنانية أمر جدير بالكتابة، ولكنها ليست الحكاية اللبنانية الوحيدة. أنا من جيل لم يعش الحرب ولكنه يعيش الآن تبعاتها ويتمزّق في النزاع الصامت بين الطوائف.

لقد أخذت الحرب الأهلية حيّزًا كبيرًا من الرواية لأنّك لا تستطيع أن ترمي أعواما من ذكريات الدمار من دون أن تدوّنها… ولكن الجيل الحالي له هموم ومشاغل أخرى، وله نظرة مختلفة عن الحرب. والإبداع، كما قلت مسبقاً، ليس محدوداً بموضوع واحد، بل هو القدرة على أن نغوص داخل الحكايا كلّها ونستخرج التفاصيل الصغيرة منها، تلك التي تحدث كل الفرق.

في عملك الروائي الكثير من البوح، وشخصياتك الروائية تصور واقعا يبدو قاتما ترفض الرضوخ له وتطلق صرخة جماعية ضده. إلى أي مدى عبرت من خلال ذلك عن الواقع الاجتماعي السائد، وهل الرواية تعد شاهدا على التحولات الاجتماعية؟

– فعل الكتابة أساسا هو اعتراض، وليس بالضرورة اعتراضا اجتماعيا، ولكنه اعتراض بالمطلق، اعتراض وجوديّ حسّي إنساني. الكاتب عموما إنسان قلق مثقل بالأسئلة والشك والصراعات، على عكس الصورة التي نرسمها له كشخص حكيم ومفكّر ومتوازن يرتدي نظارات سميكة ويملك الإجابة على كل شيء.

أنا امرأة من صلب هذا الواقع، كان لي نصيبي الوافر من عذاباته والخسارات التي يفرضها علينا. نحن أفراد نعاني منذ أن نأخذ أنفاسنا الأولى من محاولات متكررة ومستمرة لقتلنا، والسيطرة على تفكيرنا عبر جعلنا نشكّك بأنفسنا إن حاولنا تخطي التفكير النمطي المفروض علينا اجتماعيا وسياسيا ودينيا.

والمشكلة باتت أبعد من الأثر الاجتماعي، فقد تسبّبت سنوات من القمع بشرخ نفسي عميق ومتعب في دواخلنا. شخصيات روايتي عبّرت عن هذا الرفض، بطرق مختلفة، البعض وقع فريسة تعبيره لأنّ “الفخ” الذي تنصبه “السلطة” في عالمنا لم يعد محصوراً في ثغرة واحدة، بل انتشر في عدّة أشكال تتربّص لنا حيثما التفتنا، وتخطّي كل تلك “الأفخاخ” يحتاج إلى درجات عالية من الوعي.

أمّا هل تعدّ الرواية شاهدا على التحولات الاجتماعية، ربّما تفعل في محطاتٍ عدة، ولكن الأمر ليس ضرورياً. جمالية الأدب، والرواية ضمنا، تكمن في أنّه أبعد من أن نحدّد له مهمة أو حتى إطارا واحدا. هو عالم واسع ينبت عوالم متجددة ومفتوحة على جميع الاحتمالات.

شخصياتك الروائية، حتى الذكورية منها، تعاني من الخيبة والظلم وضياع الهوية دون أن تجد مخرجا أو منفذا إلى الخلاص. ما الذي أردت قوله؟ هل يؤشر ذلك إلى مجتمعات تفتقد القدرة على تلمس مسار الحرية والعدالة الاجتماعية، وهل نحن أمام عدمية جديدة على صعيد التغيير؟

– التغيير كلمة كبيرة جداً، والتغيير لا يحمل بالضرورة انفراجات مطلقة ستحوّل الحياة إلى مكان جميل خالٍ من التناقضات والمشاكل. قد يكون هذا التناقض في الحياة هو صلبها. لا محطة وصولٍ في الحياة. هي رحلة يكمن سرّها في تلك العجلة المستمرة في الدوران. لن نستطيع أن نصبح مجتمعات كاملة، ولكن بإمكاننا أن نصبح مجتمعات أفضل.

ومن هنا التغيير هو ذاك الحراك والسعي الدائم نحو التطوّر. لا يوجد مجتمع، مهما بلغ القاع، فاقد للقدرة على تلمّس الحرية. على العكس، السعي الذي يأتي من القاع هو الأصدق والأصعب لأنّه سيتضمّن مخاضات عسيرة وسيصطدم بحواجز عديدة يصعب تحطيمها وسيرتكب أخطاء كبيرة، وبالنسبة لي هي ضرورية لكي تتبلور التجربة.

لذلك، أشخاص روايتي يعبّرون عن واقعية التغيير، وليس عدميته، هم ينبشون جذور الألم ليتمكنوا من مداواته لاحقا، فالمواجهة أولى مراحل التحوّل.

تغلب على روايتك الشخصيات النسائية وهمومها، بداية من العنوان وتغوص عميقا في عالم المرأة، فهل هي تعبير عما يطلق عليه “الأدب النسائي” أو “أدب المرأة”، وهل كنت تتعمدين ذلك من منطلق إيمانك بهذا التصنيف على المستوى الأدبي وفي السياق الاجتماعي؟

– أنا لا أؤمن بهذا التصنيف على الإطلاق وأعتبره محاولة لتسخيف الأدب والحكم على المرأة مجدداً بأنّها أدنى شأناً من الجنس الآخر، وبالتالي يجب حصرها في تصنيف أدبي محدّد كأنّها عاجزة أن تكتب عن غير الهمّ النسائي. لماذا لا يوجد مصطلح كـ”أدب الرجال” أو “الأدب الذكوري”؟

أنا كاتبة أولا وأخيرا، وفي الكتابة يمكنني أن أكون رجلاً أو امرأة على حدٍّ سواء. صحيح أنّي غصت في عالم المرأة، ولكني فعلت ذلك انطلاقاً من تناولها كبيئة خصبة للقمع الذي يعاني منه كلا الجنسين.

قاربت جسد البطلة المعنّف إلى مدينة معنّفة بأكملها، وهي مدينة طرابلس في شمال لبنان. وفي الرواية شخصيات رجال لا تقل أهمية في تأثيرها عن شخصيات النساء. الأب مثلاً يمثّل شريحة كبيرة من اليسار المحبط والغارق في أمجاده القديمة وخيبته وعدم قدرته على ركوب موجة جديدة من الحياة، وهذا أمر موجود في واقعنا الآن، وواضح من خلال انحسار دور اليسار حالياً وعجزه عن قيادة الربيع العربي…

مررت على التطرف الديني وبداية نشوء حركات الإسلام السياسي المتشدد. هل يمثل هذا وجها لضياع الهوية والفصامية مقابلا لضياع “سحر” و”هالة” والأخريات؟

-هو كذلك قطعاً… التطرف الديني هو نتيجة الإفلاس الاجتماعي والسياسي والثقافي والفراغ الذي يعاني منه الشباب. هذا الفراغ يولّد بيئة هشّة آيلة للانجراف وراء أي تحرّك يشعر الشباب بالانتماء. الجماعات المتطرفة دينياً نفسها تتّبع هذا التكتيك، بمعنى أنّها تتّجه إلى الشباب المهزوم والغارق في المشاكل لأنه يسهل السيطرة على هذا النوع من الأشخاص، وبالتالي تجنيدهم لخدمة أجندات لا علاقة لها بالدين، بل بهدف تعزيز “سلطة” هذه الجماعات.

قلت في روايتك كل شيء دفعة واحدة عن الهوية المتشظية والمجتمع الذي يراوح مكانه ويعيد إنتاج نفسه، أية هواجس تراودك لعمل جديد؟

– أظن أن لدي الكثير لأقوله بعد… الهاجس هو الكتابة، أن أتمكن من أن أفيها بعضا من حقّها…

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى