أكرم البنيصفحات سورية

جنيف والسباق مع الزمن!

أكرم البني *

يتفق الكثيرون على أن الأسابيع القليلة المنصرمة شهدت تصعيداً لافتاً من قبل النظام السوري وحلفائه، إن عسكرياً بتوسيع العمليات الحربية في مختلف أنحاء البلاد، وبخاصة في أرياف دمشق وحمص، على أمل استعادة بعض المناطق المفصلية، وإن سياسياً برفع سقف الاشتراطات لقاء المشاركة في أي مؤتمر دولي، وتسخين اللغة العدائية والاقصائية ضد المعارضة واعتقال المزيد من الناشطين المدنيين ومن تبرعوا لإغاثة المتضررين وتخفيف معاناة المهجرين.

ولكن يبقى الاختلاف في قراءة توقيت هذا التصعيد وأسبابه، ولماذا يبدو النظام السوري اليوم كأنه يسابق الزمن لتحسين حضوره على الأرض.

ثمة من يقرن الأمر بما رشح من زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى موسكو وتوصل الطرفين لاتفاق جديد حول سورية تحت اسم «جنيف 2» الذي يرجح أن يتلقى دفعة قوية في اللقاء المرتقب بين الرئيسين أوباما وبوتين أواسط الشهر القادم، والغرض هو المسارعة لفرض مكانة جديدة تؤهل النظام وحلفاؤه الرد على اشتراطات المعارضة و «أصدقاء الشعب السوري»، وتحديداً حول صلاحيات الحكومة الانتقالية والموقف من استمرار الرئيس حتى الانتخابات المقبلة عام 2014، وفي الطريق إظهار عجز المعارضة عن إحداث تبدل نوعي في موازين القوى، أمام نظام لا يزال يمتلك زمام المبادرة العسكرية، والرهان على ذلك في ارباك المواقف والاصطفافات العربية والدولية وإثارة المزيد من الخلافات في صفوف المعارضة، بين من اختاروا الحسم العسكري طريقاً وحيدة، ومن يعتقدون بأن لا أفق عسكرياً للصراع وان المعالجة السياسية هي في نهاية المطاف، البوابة المجدية.

وربطاً بوضوح دعم خارجي مباشر وغير مسبوق للنظام، ثمة من يرجع السبب إلى عوامل خارجية، مرة إلى قرب موعد الانتخابات الايرانية وتوظيف «الانتصارات» التي يتطلع النظام وحلفاؤه لتحقيقها في تعزيز فرص مرشح الرئاسة المحسوب على التيار المتشدد ومحاصرة الانتقادات التي تتنامى ضد الغرق في أوهام النفوذ الاقليمي على حساب تنمية المجتمع وضمان حياة كريمة للإيرانيين، ومرة إلى حالة الارتباك السياسي التي يشهدها لبنان مع الصعوبات التي تقف في وجه تشكيل حكومة جديدة واستمرار الانقسام حول قانون الانتخابات النيابية المرتقبة، باستثمار أي تقدم يتحقق في سورية بمساعدة «حزب الله» لتمكين الأخير ومنحه وحلفائه قدرة جديدة على فرض الشروط وإعادة توجيه الدفة السياسية، ومرة ثالثة لرفع الروح المعنوية لحكومة المالكي في مواجهة تصاعد الحراك الشعبي السنّي وخطورة إنزياحه نحو صراع أهلي طائفي تأثراً بتداعيات الثورة السورية.

الزمن لم يعد من مصلحة النظام، يقول البعض، ويعتقدون أن الأيام التي تمر على حالة الاستعصاء القائمة تزيد من ضعفه وعجزه، إن لجهة تنامي ردود الأفعال الأخلاقية ضد عنفه المنفلت في اوساط كانت سلبية حتى الأمس القريب، ودليلهم ارتفاع وتيرة التدمير والمجازر لتقوية جرعة تخويف الناس من تبديل مواقفها، وإن لجهة تراجع الثقة به وبقدرته على الاستمرار في ضوء ما تشهده مرتكزاته من تخلخل مع تكاثر حالات التهرب من المسؤولية والانسحاب من صفوف الجيش والأمن ومن الحزب وملحقاته النقابية، أو لجهة الوضع الاقتصادي المرشح لمزيد من التدهور مع انهيار أهم القطاعات الانتاجية الصناعية والزراعية وتدهور قيمة الليرة السورية التي خسرت حتى الآن أكثر من 70 في المئة من قيمتها، ما ينذر باندفاعات شعبية غير محمودة تزيد من تعقيد قدرة النظام على التحكم بما تبقى من مؤسسات الدولة، وأخيراً لجهة ما يرشح عن احتمال لملمة صفوف المعارضة بعد رحلة طويلة من التفكك، كتوسيع الائتلاف الوطني، وما يتضح عن تقدم دور «الجيش الحر» في إدارة بعض المناطق على حساب تراجع المجموعات المتطرفة، التي بدأت تلقى ردود أفعال شعبية رافضة لممارساتها القمعية والوصائية.

ولا يجانب الصواب من يعتبر الأمر على العكس، محاولة من قبل السلطة لكسب مزيد من الوقت وتشديد العنف عساها تكسر حالة المراوحة في المكان وتحقق بعض التقدم الضروري لرفع الروح المعنوية لقواتها، والأهم الافادة من سلبية المجتمع الدولي ومراوغاته في دعم المعارضة، وقد نجحت التطورات التي يشهدها الربيع العربي في تخفيف حماسة الغرب لدعم التحولات الجارية في سورية، وفي تصاعد مخاوفهم ليس من التنظيمات الجهادية المتطرفة فحسب، بل من كل حركات الإسلام السياسي التي بدأت تظهر سمات ديكتاتورية مقلقة، وأيضاً من انعكاس حالة الفوضى التي بدأت تعم بلدان الثورات على الأمن والاستقرار في المنطقة، وتوفر تربة خصبة لتصعيد العمليات الارهابية ضد مصالح الغرب، مثل مقتل السفير الأميركي في بنغازي واحتلال أحد مواقع الغاز في الجزائر والهجمات المتكررة في غير مكان على البعثات الديبلوماسية الغربية.

وفوق التخوف من الاسلام السياسي ومن اليوم التالي لسقوط النظام السوري، هناك الحسابات الاسرائيلية التي تحتل مركز الاهتمام الغربي، وأيضاً وجود رغبة دفينة عند بعض العرب بأن تكون التجربة السورية المحطة الأخيرة في قطار الربيع العربي وأبلغ درس يلقن للشعوب عن الثمن الفادح لمطالبتها بالحرية والكرامة.

والحال، أن ما يجري في سورية يؤكد حقيقة قديمة وجديدة هي أن السلطة لا تزال تدير أزمتها وفق العقلية العتيقة إياها، عقلية إنكار الأسباب السياسية والدفاع عن الوضع القائم بالهروب إلى الأمام نحو توسيع رقعة الصراع وتجريب المزيد من أساليب التدمير والتنكيل، والاستهتار بالنتائج المأسوية التي تخلفها على كيان الدولة ومستقبل البلاد ووحدة نسيجها الاجتماعي.

ويبقى، أن الصراع السوري الذي يدار بأشد أنواع الأسلحة وأكثرها فتكاً، يدور في حلقة مفرغة وعمليات كر وفر متبادلة، ولن يمده الزمن بأية فرصة للحسم بل بالمزيد من التخريب والضحايا، وكأن ليس من شعب يعاني الأمرين وليس من بشر يتعرضون لآلام وخسائر هي على أشدها اليوم.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى