صفحات مميزة

جنيف 8 –تحليلات وتوقعات –

 

وداعاً لإسقاط النظام!/ عمر قدور

يُجمع المراقبون ومحلّلو الشأن السوري على أن سيرة إسقاط الأسد قد انطوت؛ هذا قد لا يكون مهماً بقدر ما تبدو المعارضة نفسها قد وضعت هدف إسقاط تنظيم الأسد وراءها. فنحن اليوم إزاء كتلتين من المعارضة تفترقان “بصمت” عن ذلك الهدف؛ هيئة التفاوض بعد أن ضمت في عضويتها منصة موسكو التي تجاهر برفضها رحيل بشار، والمعارضة التي تعمل بدعم أردوغان وتنتظر منه إيعازاً للانضمام إلى مؤتمر سوتشي، بعد تحمّلها مسار آستانة رغم خرق تفاهماته مراراً وتكراراً.

وبينما يغلب على المعارضة التي اجتمعت في الرياض الطابع السياسي، رغم تمثيل فصائل عسكرية أبرزها “جيش الإسلام” الواقع تحت الضغط العسكري حالياً، تحظى القوى المدعومة من أردوغان بحضور عسكري أقوى على الأرض، فضلاً عن التجانس الأيديولوجي لفصائلها الإسلامية. الهجوم الوحشي على الغوطة الشرقية لا يبعد عن ذلك الانقسام، ففي الجانب السياسي منه هجوم على ما تبقى من حضور عسكري للرياض، وإن قدّم فصيل “أحرار الشام” المقرّب من أنقرة الذريعة بهجومه المباغت على ثكنة ضخمة لميليشيات الأسد والميليشيات الشيعية المتمركزة فيها.

الحديث عن تنافس بين المسار الأممي في جنيف ونظيره الذي ترعاه موسكو، بالاتفاق مع طهران وأنقرة، يكتمل بوجود أدوات محسوبة على المعارضة السورية ضمن المسارين. وإذا كان ظاهراً على السطح وجود حكم الملالي كحليف ضمن المسار الروسي، بسبب طغيان الحديث عن الصراع الشيعي السني في المنطقة، فهو يغطي على وجود أردوغان الذي يطرح نفسه قطباً سنياً، وينافس على هذا الصعيد الزعامة السعودية. وكما كان الأمر خلال سنوات الحرب ستغيب عن الواجهة آثار ذلك التنافس، رغم أنه كان من العوامل الأسوأ تأثيراً في الميدان، ورغم استمراره في تشتيت جهة خصوم الأسد في مرحلة حرجة تهدد بتصفية القضية السورية.

إلا أن أي كلام عن أثر التنافس الدولي أو الإقليمي لا يلغي مسؤولية المعارضة، بخاصة عندما تفقد هدفها تحت تلك الضغوط، أو تحافظ عليه لفظاً في انتظار لحظة إعلان إفلاسها وعجزها التام. تكرار الإشارات عن ضعف المعارضة وضرورة تحليها بالواقعية لا يستقيم مع محاولات ترويضها وتحجيمها خلال السنوات الماضية، وإذا كان بعض تلك المحاولات يبتغي إيصالها إلى هذه اللحظة “لحظة الاستسلام” فالوصول إلى هذه النتيجة أيضاً مسؤولية أولئك الواقعيين الذين أسلموا قيادهم إلى قوى الأمر الواقع الخارجية. مع ذلك، ليس محتماً اضطرار المعارضة إلى قبول ما كانت ترفضه سابقاً، إلا إذا كان محتماً رضوخها لشتى أنواع الضغوط على حساب قضيتها.

تملك المعارضة حتى الآن، بالطبع بعضها لا كلها، أن ترفض محاولات دفعها إلى التوقيع على تسوية تُبقي تنظيم الأسد في السلطة. السؤال عن الخيارات البديلة أمامها يوحي بوجود مكاسب من عملية التسوية، وهذا ما تكذّبه مجريات كافة جلسات التفاوض حتى الآن، سواء في جنيف أو آستانة. عملياً كانت هناك إرادة دولية منعت إسقاط الأسد، والآن لا توجد إرادة دولية لعقد صفقة سياسية يتنحى بموجبها، وفي كل الأحوال لن تكون الصفقة المأمولة مع سوريين بل مع الروس والإيرانيين، وطالما بقي الملف السوري في عهدة موسكو وطهران فموعد الصفقة بعيد جداً، إذا لم تكن سراباً.

كذبة المفاوضات برعاية أممية تكاد تنتهي، فخلال ثماني جولات لم تكن هناك مفاوضات فعلية، ولم تكن هناك مواكبة دولية في حدها الأدنى، بل تُركت لموظف دولي يتنقل بين الغرف، ولا يندر أن يعبّر عن تفاؤله رغم اعترافه بعدم تحقيق أية نتيجة! ما يحدث في جنيف، أو ما لا يحدث، لا يعني فقط عدم نضج التسوية الدولية، الأقرب إلى الدقة هو وجود لامبالاة أمريكية إزاء الملف السوري، إن لم نقل وجود تواطؤ أمريكي مع موسكو لإفشال المسار الأممي. تصريحات وزير الخارجية الأمريكي في هذا الشأن قد لا تعكس رأي إدارته، وعلى أية حال هو مهدد بالاستغناء عنه بسبب خلافاته معها.

ولكي ترفض المعارضة استخدامها في إنعاش تنظيم الأسد فالأمر يتطلب منها عدم الانصياع للأوامر الإقليمية، حيث ثبت أن الاعتبارات الإقليمية لا تقيم أدنى شأن لمصالح السوريين، وثبت ضمن الصراع الإقليمي الأوسع استعداد كافة القوى المؤثرة للتضحية في ملف لقاء الكسب في ملف آخر. وأهم التغيرات الأخيرة في هيكلة الوفد المفاوض ليس استبعاد بعض الأشخاص على خلفية الخلاف الخليجي مثلما قيل، وإنما ضم تيار شبه موالٍ للأسد على خلفية التفاهم مع موسكو، ما يوضّح أن قضية التغيير في سوريا غير موجودة ضمن أولويات الدول الإقليمية التي تتسابق لإرضاء قوة الاحتلال الروسي، ولعل أنقرة كانت سبّاقة على غيرها في الإرضاء وفي حصد النتائج لصالحها.

تستطيع المعارضة أن تقول “وداعاً لإسقاط النظام” الآن، لأن الظروف غير مواتية حقاً؛ هذا مختلف عن توقيعها تسوية تفرّط بحقوق السوريين. تستطيع عطفاً على ذلك إعلان فشل الخيار العسكري، لأن هذا الخيار غير ممكن عملياً من دون دعم دولي جاد، وقد كُتبت نهايته منذ التفاهم الدولي والإقليمي على تسليم حلب بثقلها ورمزيتها.فوق ذلك ينبغي على المعارضة الاعتراف بأنها فشلت فشلاً ذريعاً على الصعيد الخارجي، لا لأنها راهنت على قوى خذلتها فحسب، وإنما لأنها جعلت من القوى الإقليمية وسيطاً بينها وبين القوى الدولية المؤثرة، ومن ثم قبلت بأن يكون الوسيط وصياً عليها وعلى توجهاتها. هذه هي الواقعية التي قد تفيد المعارضة، وهي غير تلك التي تنص فقط على النتيجة الحالية والاستسلام لها.

لا تكسب المعارضة احترام السوريين بشعار إسقاط النظام بينما تنصاع لما يخالفه، ولا تكسبه وهي تتبدل بموجب الرعاة والأوصياء، وأيضاً لا تخسر بشرف. يمكن للمعارضة أن تكون “واقعية وتطلب المستحيل” عندما تستعيد قرارها وتمثيلها تطلعات السوريين، وبالطبع يمكن لها الانتظار مطولاً برفقة ديمستورا، وأن تتعلم منه تمسكه بوظيفته بخلاف أسلافه.

المدن

 

 

 

 

عقدة الأسد/ برهان غليون

ذكرت لي إحدى المشاركات في فيلم وثائقي فرنسي عن اغتصاب الفتيات والنساء السوريات، المعتقلات أو المختطفات، سوف يُعرض في 7 ديسمبر/كانون الأول الجاري على قناة فرنسا 2، أن الطريقة الوحيدة لإقناع الضحايا بالبوح بما عانينه على يد الوحوش الضارية كانت تذكيرهن بأن هناك محاولات عديدة لإعادة تأهيل الأسد، وأن أحاديثهن سوف تساهم في العمل ضد هذا الاتجاه. وقد اعتبرن الإدلاء بشهادتهن على قناة تلفزيونية استمرارا لكفاحهن الطويل من أجل تحرير شعبهن من نظام الإرهاب والطغيان. وما من شكّ في أن فكرة إعادة تأهيل الأسد التي أصبح واضحا أنها الأكثر تداولا في الأوساط الدولية، حتى التي لا تتردّد في وصفه مجرماً، تثير مشاعر من غير الممكن ضبطها من الألم والبؤس والاحتجاج عند غالبية السوريين الذين فقدوا كل شيء، بسبب سياساته وخياراته الخرقاء والإجرامية، أبناءهم ووطنهم. وينظر إليها كثيرون على أنها إمعان في احتقار القيم الإنسانية، وتجديد الحرب ضد السوريين.

1

وبالفعل، لا أدري كيف يمكن لرجال دولةٍ وديمقراطيين أن يفكروا لحظة في أن من الممكن المراهنة من جديد على الشخص الذي كان السبب الأول في إطلاق شرارة الحرب ضد شعبه، منذ الأيام الأولى للثورة، من أجل إعادة السلم الأهلي، وتدشين حقبة جديدة في تاريخ سورية، من المفروض أن أساس جدّتها هو قطعها مع حقبة الأسد السوداء وتاريخها وقيمها ومؤسساتها وطرق إدارتها، وقبل أي شيء رموزها. والغريب أننا عندما نتحدّث عن ذلك مع الدبلوماسيين والسياسيين الغربيين، لا نجد أحدا منهم يجد ذريعةً واحدةً تخفف من مسؤوليته، أو تبرّر سلوكه. بالعكس، إنهم يعترفون جميعا، بما في ذلك الروس في بعض اللقاءات، بأنه المسؤول الأول عن الكارثة الإنسانية والحضارية التي تشهدها سورية، وأن ما قام به من أعمال القتل المنظم والقصف الأعمى واستخدام الأسلحة المحرمة دوليا لا يمكن أن يصدر عن رجلٍ لديه الحد الأدنى من النضج والاتزان. وبعض المسؤولين الدوليين الكبار، إن لم يكن معظمهم، ينظرون إليه إنسانا أحمق ومجرما خطيرا، قادرا على ارتكاب أبشع الجرائم للاحتفاظ بالحكم.

لكن في كل مرة يطرح هذا الموضوع، وبعد التأكيد على عدم صلاحية الأسد للقيادة، لا قبل الثورة ولا بعدها، يخرج السؤال الذي رافق المعارضة والثوار منذ بداية المشاورات مع من أطلقوا على أنفسهم اسم أصدقاء الشعب السوري: ما هو البديل؟

ليس هذا الطرح جديدا، فقد كان يطرح علينا منذ الأيام الأولى لتشكيل المجلس الوطني. ومع

“كيف يمكن لرجال دولةٍ وديمقراطيين أن يفكروا لحظة في أن من الممكن المراهنة على الشخص الذي كان السبب الأول في إطلاق شرارة الحرب ضد شعبه”

بدء عملية بناء علاقاتنا الدولية مع المجتمع الدولي، تحت تأثير انقسام المعارضة، أو بالأحرى الأصوات النشاز التي كانت تشوش على قيادة المجلس الوطني، ليس لخلافاتٍ سياسية في الواقع، وإنما لحساسيات شخصية على الأغلب. وكان جوابي الدائم على هذا السؤال أن المعارضة ليست هي، ولا تطلب أن تكون البديل عن بشار الأسد ونظامه، وليس من المهم كثيرا انقسامها. فليس المطلوب استبدال حكم طغمةٍ بحكم طغمة أخرى، ولا ديكتاتورية الأسد بديكتاتورية غليون أو أي شخص آخر، ولكن إقامة حكم يقرر فيه الشعب مصيره، وينتخب هو نفسه ممثليه، ويمكن له أن يغيرهم في أي وقتٍ يدرك أنهم لا يخدمون مصالحه، ولا يلبون طموحاته. بمعنى آخر، البديل هو من طبيعة مؤسسية، يقوم على تغيير بنية السلطة وممارستها، لا على تغيير رجالها. ولو افترضنا أن الشعب مال إلى انتخاب رجالٍ كانوا من النظام القديم، فهو حر في ذلك. وهذا ما حصل في البلدان التي كانت تابعةً للاتحاد السوفييتي السابق، حيث حصل الحزب الشيوعي في بعضها على الأغلبية في مراحل الانتقال الأولى. لكن المهم أن ذلك حصل ضمن بنيةٍ ديمقراطيةٍ وتعدّدية للسلطة، تسمح بتغييرهم هم أيضا في دورةٍ لاحقة.

وكنت أصر على أن المفاوضات بشأن المرحلة الانتقالية لا ينبغي أن تكون مفاوضاتٍ على تفاصيل الحكم ودقائقه، لأن المعارضة ليست ممثلةً للشعب، وإن مثلت، في أحسن الأحوال، الثائرين في صفوفه، ولكن على شروط التعاون من أجل إيصال السوريين إلى مرحلةٍ يستطيع فيها الشعب نفسه أن يقرّر مصيره، وأن ينتخب ممثليه، ويشكل الحكومة التي يريدها، والتي يستطيع هو أيضا إقالتها، وسحب الثقة عنها وتبديلها، في انتخاباتٍ نزيهة وحرة. وهذا يعني أن البديل ليس المعارضة، وإنما مجلس شعب منتخبٍ وممثل للشعب. وهذا المجلس هو الذي سيقود سورية ما بعد الأسد، لا المجلس الوطني، ولا المعارضة، ولا شركاؤها من أنصار النظام في المرحلة الانتقالية. وكل ما يطرحه المبعوث الأممي اليوم من نقاشٍ بشأن الدستور ورؤية سورية المستقبل من وثائق نهائية لا معنى له، وهو يستجيب لمطالب الروس الذين يريدون أن يلغوا المرحلة الانتقالية بموازاة إلغائهم تغيير النظام، واستبدالها بتفاهمٍ نهائيٍّ بين المعارضة والسلطة على الحكم القادم من وراء الشعب، وضد مصالحه. المطلوب مبادئ دستورية لقيادة المرحلة الانتقالية فحسب، قبل إيصال الحكم إلى الشعب وجمعيته الوطنية التي لها وحدها الحق في أن تصوغ الدستور النهائي، وتتفق على المبادئ فوق الدستورية أيضا.

لكن هذا الطرح الذي يركّز على إيصال الحقوق إلى أصحابها، أي إلى تطبيق مبدأ ممارسة الشعب حقه في تقرير مصيره في انتخاباتٍ حرّة ونزيهة، وما يريد الروس قطع الطريق عليه بتكريس اتفاقاتٍ مسبقة ونهائية بين المعارضة والنظام، لم يستطع أن يقاوم للأسف طويلا متطلبات الدبلوماسية الدولية التي لا تريد أن تسمع كثيرا، وربما لا تؤمن بأن فرضية الحل الديمقراطي، المقبول والمطلوب في كل مجتمعات الأرض، يصلح لسورية. وبعد استقالتي من رئاسة المجلس، ومع إصرار الغرب والشرق، بما في ذلك الدول الصديقة، على فكرة البديل الجاهز، دخل السوس إلى فكر المعارضة التي أضعفت موقفها بالاعتراف بأنها لا يمكن أن تكون بديلا، ولا تملك البديل، بدل أن تؤكد أنها لا هي ولا الأسد ونظامه البديل، وإنما الشعب وجمعيته الوطنية المنتخبة. وهذا ما كانت تحتاجه الدبلوماسية الدولية، لقطع الطريق على المرحلة الانتقالية، والاتجاه إلى فكرة المشاركة في حكومةٍ واحدة، أو ما تسمى وحدة وطنية.

2

الواقع أن المطالبة المسبقة والشاملة ببديل، بمعنى بطاقم حكومي جاهز ومؤسسات بديلة، يحل محل طاقم الأسد ومؤسساته، لم تطرح على أي ثورة أو حركة احتجاج في العالم، فهي تستبطن أمورا عديدة.

أولا، أن من الممكن بناء قوة جاهزة ومنظمة سياسية، أو كتلة قادرة على الحكم وحدها منذ

“حتى الروس يشهدون، في بعض اللقاءات، أن الأسد هو المسؤول الأول عن الكارثة الإنسانية والحضارية”

البداية. ولا أدري كيف يمكن لهذه القوة السياسية المنظمة والقادرة على استلام الحكم أن تتكون في ظل ديكتاتورية فاشية وهمجية، في الوقت نفسه، تُخضع الأفراد إلى مراقبةٍ يومية، وتحرّم أي شكل من التواصل بينهم، الفكري والسياسي، وتُخضعهم لمحاكمةٍ دائمةٍ وتجرّدهم من أي حماية سياسية أو قانونية. وأول برهان على ذلك روسيا المنتفضة على النظام السوفييتي نفسها.

وتستبطن ثانيا استبعاد أن يكون الشعب صاحب السيادة والصلاحية في اختيار ممثليه في انتخاباتٍ حرّة ونزيهة، أي أيضا الاعتقاد بأن الشعب السوري ليس على مستوى من النضج يسمح له بممارسة حقوقه السيادية. وهذه هي الفرضية وراء فكرة مؤتمر شعوب سورية الذي أعلن الروس عن عقده في حميميم، ثم نقلوا مكانه إلى سوتشي، ولا يزال غامض المصير. وبينما تهدف مفاوضات جنيف للتوصل إلى تفاهم بين الحكم والمعارضة على صيغةٍ للانتقال السياسي من سنة ونصف السنة إلى سنتين، تشكل مدخلا لتطبيع الحياة السياسية، والدخول في نظام الديمقراطية الذي يكرّس سيادة الشعب، وحقه في تقرير مصيره بحرية، يفترض مؤتمر شعوب سورية حوارا بين المكونات الإثنية والطائفية والعشائرية السورية، يلغي إشكالية الانتقال من جذورها، ويفتح باب الحوار بين جماعاتٍ مختلفةٍ ومتنابذةٍ على تقاسم المناصب، ويفضي، لا محالة، إلى تحييد الدولة، وإحلال إدارات محلية مكانها، تضمن لكل قوة احتلت جزءا من الأرض السورية الاحتفاظ بنفوذها ووصايتها في المنطقة التي بسطت سلطتها عليها. ولو حصل ذلك، لكانت طهران التي تتمتع بحضور أوسع وأكثر عمقا، سياسيا وعسكريا وبشريا، اليوم في البلاد، هي صاحبة الكلمة الأولى، والسيطرة الأكبر على الحكومة والإدارة وجميع المرافق الاقتصادية والخدمية في الدولة السورية القادمة.

ويستبطن هذا الطرح ثالثا أن ما يرمي إليه الحوار والمفاوضات ليس الانتقال الذي أعلنته الثورة نحو نظام ديمقراطي، يلبي مطالب الحرية والكرامة والتطلع إلى ملاقاة قيم العصر. وإنما التمثيل الشامل والميكانيكي لجماعات الهوية، وإلغاء مفهوم المواطنة التي تقوم على حكم القانون والمساواة بين الأفراد، وقبل ذلك حرية الفرد ومسؤوليته السياسية لصالح مفهوم العصبية الأهلية الجمعية، الطائفية والإتنية. وهو النظام الذي فرض، حسب المنطق نفسه، في لبنان، وبعده في العراق، والذي يكرّس إعادة تنصيب زعماء العشائر والقبائل ووجهاء المناطق والقوميات على الدولة والسياسة، وتوريث مناصبهم لأبنائهم، وإلغاء أي فرصةٍ لتكوين نخبة وطنية سياسية، تتناغم مع مفهوم الدولة، وهو ما يهدف إلى إجهاض أي حياة مدنية حقيقية، ودفع السوريين إلى الانشغال بصراعات هويةٍ وتنازع على مناصب الدولة والإدارة، لا تنتهي، بدل مساعدتهم في الارتفاع على الانقسامات العمودية، وتوسيع قاعدة التعاون بين الأفراد، بصرف النظر عن انتماءاتهم الأهلية، وتوحيد القوى والجهود من أجل تحديث المجتمع السوري، وتطوير مؤسساته المدنية والسياسية، وتعميق روح الوطنية والقيم الإنسانية الكونية.

ويستبطن رابعا أن الوظيفة الرئيسية لنظام سورية القادم ليس تجاوز النقائص والعيوب التي حالت دون تفاعل أبناء الشعب السوري، وتكون إرادة وطنية فعلية، وهو ما عبّرت عنه شعارات الثورة، وأولها “واحد واحد الشعب السوري واحد”، ولكن إقامة نظام من الطبيعة نفسها التي جسدها نظام الأسد، والتي لا تهدف إلا إلى تلبية المطالب والمصالح الخارجية، والاستقواء بأصحابها لعزل الشعب السوري سياسيا، وتقويض وحدته وإرادته الوطنية. ما يعني أن ما هو مطلوب للخروج من الحرب والدمار والخراب ليس مصالحة الشعب السوري مع نفسه وتاريخه، وحل الإشكالات التي دفعته إلى الثورة والحرب، وإنما زرع بذور نزاعاتٍ لا تنتهي، ولا يمكن السيطرة عليها. وأن وظيفة النظام المنشود ليست خدمة السوريين ورعاية شؤونهم، كما هي وظيفة النظم السياسية، أو أغلبها، وإنما خدمة الأطراف الخارجية التي تضمن بقاء النظام وحمايته واستمراره. وهذه كانت وظيفة نظام الأسد الذي استمد قوته ونفوذه وفرص استمراره من اشتغاله على ضبط السوريين وتحييدهم، وشل إرادتهم لحساب دول وحكومات ومصالح أجنبية. وهذا ما جعل من مسألة تغييره أو استبداله، عندما فشل في تحقيق مهامه، وانتفض السوريون ضد سياساته، مسألة إقليمية ودولية وعالمية خارجة عن إرادة السوريين.

لم تترك موسكو، التي تعمل صاحب تفويض دولي في المفاوضة مع المعارضة، فرصةً من دون أن تستغلها لقطع الطريق على خيار الانتقال السياسي الديمقراطي، والسعي إلى إغراق مسألة سيادة الشعب السوري بمسألة التعددية الإثنية والطائفية والسياسية، والدفع في اتجاه حلٍ يقوم على تقاسم السلطة بين الجماعات الأهلية وتقسيم البلاد إلى أقاليم ذاتية الإدارة بعد أن فشلت في فرض الفيدرالية.

3

لا ينبع التذكير الدائم بغياب البديل، كما قد يخطر إلى البال، من القلق على مستقبل سورية، أو على نجاح عملية الانتقال السياسي فيها، ولا من الاعتقاد بالفعل بغياب شخصيات قادرة على

“وظيفة النظام المنشود ليست خدمة السوريين ورعاية شؤونهم، وإنما خدمة الأطراف الخارجية التي تضمن بقاء النظام وحمايته واستمراره”

الحكم، أو عن الخوف من عقم المجتمع السوري وعجزه عن إنتاج “شخصية فذة” مثل بشار الأسد، ولا من عدم إمكانية الحؤول دون عمليات الانتقام الجماعي، أو انهيار مؤسسات الدولة، أو الدخول في الفوضى، كما يزعم بعضهم. ولكنها تنبع من الخوف من أن لا تتمكّن القوى التي كانت وراء الأسد، واستفادت من حكمه، وعقدت صفقاتٍ كبرى معه على حساب حرية الشعب السوري، وحقوقه وتقدمه وأمنه، من إيجاد البديل المطابق له. أي في الواقع من أن لا تتمكن هذه القوى من ضبط الأوضاع السورية في إطار نظام ديمقراطي، يعكس إرادة الشعب وتطلعاته، ويعمل لخدمة أهدافه والدفاع عن مصالحه، ويعمّم نشر روح الحرية والكرامة والاستقلال والسيادة في ربوعه. وهو ما كان سائدا قبل عهد الانقلابات العسكرية، والذي جعل من السوريين، في حقبة الخمسينيات، في طليعة حركة الكفاح التحرّري والاجتماعي الذي خاضته الشعوب حديثة الاستقلال في العالم. فالبديل المطلوب للأسد وحشٌ مثله مستعدٌّ، لقاء ضمان استمراره في السلطة وتوريث الحكم لأبنائه، لقتل شعبه وتحويل سورية إلى معتقل جماعي، وجاهز للقيام بجميع المهام القذرة، الداخلية والخارجية، التي قبل بتنفيذها نظام الأسد، غالبا بمبادرته الخاصة، خلال نصف قرن، وضمنت استقرار النظام الإقليمي والدولي القائم على تجميد الحياة في المنطقة، وحرمانها من أي فرصة للتعاون من أجل التقدم والتنمية والتطور الاجتماعي والسياسي والفكري، في سبيل الحصول على رضى الدول الكبرى وتلبية مصالح وكلائه، بصرف النظر عن مصالح السوريين، وعلى حسابها في أغلب الأوقات. ولأن هؤلاء الوكلاء ليسوا واثقين من قدرتهم على تدجين الشعب السوري، بعد تضحياته الهائلة، وسوقه إلى إنتاج نظامٍ شبيه بنظام الأسد، وقادر على أداء مهامه الداخلية والخارجية، كما فعلوا في بلدان الربيع العربي الأخرى، فليس لهم خيار سوى الدفاع حتى آخر نفسٍ عن إعادة تأهيل الأسد نفسه، حتى لو كانت قناعتهم بعدم صلاحيته، وربما بسبب ضعفه، بل موته السريري نفسه أيضا.

ليس المطلوب “دوليا” في سورية نظاما ديمقراطيا مدنيا، يضمن وحدة الشعب وتفاهمه على قواعد واضحة وثابتة وكونية للشرعية وتداول السلطة، ويمكن للشعب أن يختار ممثليه ويستبدلهم بحرية، كما الحال في الدول الديمقراطية جميعا، وإنما المطلوب، كما تبين في السنوات الست الماضية، العكس تماما، أي نظاما يجرّد الشعب السوري من سيادته، ويفرض عليه خياراتٍ لغير مصلحته، تضمن الأمن والاستقرار والتوسع والازدهار لدولٍ بعينها في الشرق الأوسط، وتحفظ هيمنة الغرب، وروسيا جزء منه، على عالم الشرق والإسلام والعرب الذي يبدو أكثر فأكثر مرتعا للقوى المتمرّدة والمتطرّفة والثائرة. وليس هناك بديل عن الديكتاتورية الفاشية المتهاوية تحت ضربات الثورات العربية، للحفاظ على هذه المصالح الكبرى والتوازنات، سوى نظم مقوّضة العزم والشرعية، ودول مفكّكة تلغي الشعب، وما له من قوة وكيان سياسيين، وتحل روابط المجتمعات، وتفتك بقيمها ورموزها، وتباعد بين أقاليمها وجماعاتها، أي سوى فرط عقدها وتحويلها إلى إثنيات وطوائف ومحليات، وتقسيم أراضيها إلى كانتونات ومناطق معزولة وعازلة، منطوية على نفسها، لا شاغل لها سوى التنازع على البقاء في منطقة محرومة وعاجزة عن إيجاد شروط التنمية، تعاني أكثر فأكثر من شحّ الموارد، ومن حروب أهلية دائمة، ونزاعات هوية، لا حل لها ولا تسوية فيها. هذا هو البديل الوحيد الذي يضمن، في الوقت نفسه، تحييد الشعوب، وإخراجها من معادلة القوة، والإبقاء على الأسد وأمثاله رؤساء وقادة لدولٍ لم يبق منها سوى الاسم، ومن وراء ذلك، تكريس المكاسب الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية الكبرى التي حقّقتها الشراكة المدنّسة بين طهران وموسكو وتل أبيب وواشنطن وأتباعهما، عوائد الحرب التي فجّرها الأسد على السوريين نيابة عن الجميع، وبمساعدتهم، لسحق ثورة الحرية والفتك بأبنائها، وتشريدهم في كل بلاد المعمورة.

ما أنتج عقدة الأسد التي عطلت مفاوضات الحل السياسي ست سنوات متواصلة، ليس وجود الأسد وشخصه، أو النزاع على دوره، ولكن تصميم الفاعلين الإقليميين والدوليين على رفض خيار التحول الديمقراطي الذي يلبي تطلعات السوريين، ويضمن حقوقهم بالتساوي، من خلال انتخابات حرّة ونزيهة لممثليهم وقادتهم، الحقيقيين والشرعيين، والإصرار على الإبقاء على نظم استبدادية ليست بحاجة إلى أي توجيهٍ، أو ضغوط استثنائية، كي تقوم بتنفيذ مهمتها التاريخية في الدوس على رقاب الشعوب وتفكيكها، وإخضاعها بالقوة، وإن لم تستطع تشتيت شملها بحروب الإبادة الجماعية، المادية والسياسية معا. لتحقيق هذه المهام، الإبقاء على كواسر أثبتت قدرتها على الفتك، من دون أن يرفّ لها جفن، بشعوبها، هو بالتأكيد الخيار الصحيح لدولٍ تتصرف هي نفسها كوحوش ضارية.

العربي الجديد

 

 

جنيف 8 بين الواقعية والاستسلام السياسي/ حسين عبد العزيز

خصوصية المرحلة

إستراتيجيات متباينة

مستقبل غامض

لم تكن مستغربةً حالةُ الاستياء والتشدد التي ظهر بها النظام السوري في جولة مفاوضات “جنيف 8″، سواء فيما يتعلق بموقفه من مخرجات مؤتمر “الرياض 2” أو بوثيقة ستيفان دي ميستورا. وإذا كان هذا التشدد يعكس الهوة الكبيرة بين مواقف طرفيْ المفاوضات، فإنه يعكس أيضا حالة الأرق والارتباك التي تعتري النظام مع دخول مارثون المفاوضات مرحلة جديدة، تشكّل قطيعة مع المراحل السابقة.

خصوصية المرحلة

تنعقد جولة “جنيف 8” ضمن ظروف سياسية وعسكرية تختلف كثيرا عن الجولات السابقة، وأهم هذه الظروف:

1- وقف إطلاق النار بشكل كبير بين فصائل المعارضة المسلحة والنظام، لتنتهي بذلك ثنائية السياسي/العسكري التي أفرغت الجولات السابقة من محتواها، مع إصرار النظام دائما على أولوية محاربة “العنف والإرهاب”، وتأجيل البحث في الاستحقاق السياسي.

2ـ إنهاء الوجود الإستراتيجي لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، مع ما يعنيه ذلك من تهيئة الأجواء لعودة ثنائية النظام/المعارضة إلى المشهد التفاوضي، وهي الثنائية الضرورية للحل من وجهة نظر المجتمع الدولي.

3ـ قبول النظام السوري بأهمية جنيف كمسار سياسي، وإن جاء هذا القبول بشكل واضح على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء لقائه بشار الأسد، حين قال: “أعتقد أن أهم شيء الآن بالطبع هو الانتقال إلى القضايا السياسية، وألاحظ برضا استعدادكم للعمل مع كل من يريدون السلام والتوصل لحل للصراع”. ثم تصريحه -خلال قمة سوتشي الثلاثية- بأن “أطراف الأزمة السورية يجب أن يقدموا تنازلات، بمن فيهم الحكومة السورية”.

4ـ تطور الموقف السياسي للمعارضة عبر إدخال قوى جديدة في صفوف “الهيئة العليا للمفاوضات” أولاً، وتخفيف لهجتها السياسية في البيان الختامي لمؤتمر “الرياض 2” ثانيا.

5ـ ضبط إيقاع السقف السياسي للمفاوضات وفق ما عبّر عنه بيان الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الروسي بوتين، الذي تحدث صراحة عن إصلاح وليس عن انتقال سياسي يقود إلى تغيير جذري للنظام.

وقد بدت العبارة الواردة في هذا البيان بشأن “إعلان الأسد التزامه بعملية جنيف والتغيير الدستوري والانتخابات، وفقا لقرار مجلس الأمن رقم 2254″، تأكيدا صريحا -هو الأول من نوعه- على أن الأسد سيكون جزءا من المرحلة المقبلة.

6ـ إعلان الولايات المتحدة بقاءها في سوريا إلى حين استكمال الانتقال السياسي، ويشكل هذا التصريح ضغطا كبيرا على المحور الروسي/الإيراني/السوري (النظام) للمضي قُدما في المسار السياسي.

7ـ انضمام تركيا إلى المحور الروسي للبحث عن توافقت للمسألة السورية، وأهمية هذا الانضمام تكمن في أنه سيدفع المعارضة للاعتدال في مطالبها، ويدفع الروس لممارسة ضغوط أكبر على النظام السوري.

إستراتيجيات متباينة

أمام هذا المناخ الجديد أدرك النظام أن مرحلة المفاوضات الجدية قد بدأت، وأن ورقة الإرهاب ووقف إطلاق النار التي طالما تذرع بها قد ولّت، ولم يعد أمامه سوى القبول بالواقع التفاوضي الراهن.

لكن النظام يفهم هذا الواقع انطلاقا من قراءة تعتبر الحرب امتدادا للسياسة، لقد قالها الأسد مواربة في سوتشي: “الوضع الآن على الأرض ومن الناحية السياسية يسمح بتوقع إحراز تقدم في العملية السياسية”، وقالها بشار الجعفريصراحة: “المعارضة لم تقرأ التطورات السياسية والعسكرية في المشهد السوري”.

من هنا جاء هجوم النظام الكبير على “الرياض 2″، حيث فوجئ بالبيان الختامي للمؤتمر، إذ كانت المعطيات السابقة لانعقاده تشي بأن المعارضة قاب قوسين أو أدنى من إحداث انعطافة سياسية كبيرة.

مفاوضات جنيف يجب أن تكون -في رأي النظام- انعكاسا للواقع الميداني وتتمة له، بحيث تكون الكلمة العليا له، وهذا ما يفسر سبب استياء النظام من دي ميستورا؛ فالاعتراض ليس على الوثيقة التي قدمها، وإنما على تجاوزه لدوره كوسيط.

فالمفاوضات الجارية يجب أن تكون -من وجهة نظر النظام- استنساخا للمفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية، أي إبعاد الشرعية الدولية وقراراتها، وترك المفاوضات لموازين القوى.

لذلك يفسر النظامُ مفهومَ الشروط المسبقة وفق طريقة القلب الأيديولوجي للمعرفة، بمعنى أن هذا المفهوم لا يجد تفسيره في بنيته المنطقية، وإنما عبر آليات الوعي الزائف التي تريد كسر المفهوم على صخرة الواقع.

لكن النظام -الذي يتهم المعارضة بفرض شروط مسبقة- سرعان ما يقدم هو شروطه المسبقة، فلا يحق له منع المعارضة من مناقشة كافة المسائل بما فيها مصير الأسد، لأن الفقرة الرابعة من القرار الدولي 2254 تتحدث عن “حكم ذي مصداقية شامل وغير طائفي”.

ولم تأت هذه الفقرة على ذكر مصير الأسد نهائيا، وهذا أمر مقصود كي تُترك هذه القضية للمتفاوضين، وبالتالي من حق المعارضة مناقشتها على طاولة التفاوض.

باختصار، يريد النظام أن تتحول مفاوضات جنيف إلى حلبة لاستسلام المعارضة، والقبول بإصلاحات سياسية تمنحها دورا ما في الحكم، لكن تحت عباءة النظام وفي ظل وجود الأسد.

ترفض المعارضة هذه المعادلة جملة وتفصيلا، وتعتبر أن المفاوضات ذات أهمية كبيرة ربما تتجاوز في أهميتها البعد العسكري، لأنها فرصة لكشف النظام أمام المجتمع الدولي، وفرصة لتحقيق تسوية سياسية تلبي أكبر قدر ممكن من أهدافها.

جديد المعارضة هذه المرة هو أنها تحلت بواقعية سياسية لم تعرفها في السابق، وبغض النظر عما إن كانت هذه الواقعية قد فُرضت عليها فرضا أم جاءت بعد مراجعة سياسية؛ فالمهم هو أن المعارضة فهمت حدود التسوية السورية المتفق على إطارها العام دوليا.

خيار المعارضة واضح: التفاوض من أجل التوصل إلى حل سياسي من خلال طرح كل المسائل على طاولة المفاوضات، مع مرونة معقولة تجاه بعض القضايا، فالأولوية اليوم للوفد المعارض -في ظل المناخ الجديد- هي تهيئة بيئة محايدة قدر الإمكان، تكون قادرة على إنتاج صيغ جديدة للحكم.

بعبارة أخرى؛ لم تعد المعارضة في وارد الإصرار على ضرورة إجراء تغييرات جذرية في الحكم مع بداية الاتفاق، فهي قبلت ضمنا الرؤية الدولية للحل، وأملها أن تعمل مع داعميها على أن تتوج عملية الإصلاح بتغيير سياسي جدي.

وبناء عليه، لن تكون المفاوضات الحالية والمقبلة أكثر سهولة من الجولات السابقة، بل ربما تكون أصعب بكثير، لأن سلة الدستور هي التي ستحدد شكل ومضمون الحكم، وبالتالي سيكون الصراع عليها قويا.

النظام يعتبر تعديل الدستور تطورا سياسيا يسمح بتغيير ما في شكل الحكم لا مضمونه، لكنه -وهذه إحدى أهم مفارقات النظام السوري- يدرك أن شكل الحكم لا يقل خطورة عن مضمونه، فقد بينت التجارب الحديثة أن الشكل الديمقراطي لأنظمة الحكم يؤسس لقواعد وضوابط تساهم مع الوقت في تغيير المضمون، ولذلك يصر على دستور 2012 كمنطلق للتعديل.

أما المعارضة، فترى أن تعديل الدستور القديم يعني شرعنة النظام الحالي، ولا قيمة للتفاوض بشأن الدستور ما لم يكن الهدف تحقيق النقلة السياسية الكبرى، فلا إمكانية لاختزال الانتقال السياسي بمجرد تعديلات بسيطة في الدستور والقانون الانتخابي.

مستقبل غامض

رغم التوافق الأميركي/الروسي على حل سياسي في سوريا، وأن هذا الحل يجب أن ينتهي بتشكيل نظام ديمقراطي؛ فإن مفهوم الدولتين لهذه الخلاصة متباين، وهذا التباين هو الذي يفسر الاهتمام الأميركي الكبير بالانتخابات، والاهتمام الروسي الكبير بالدستور.

لا تهتم واشنطن بتفاصيل العملية السياسية وتشعباتها بقدر ما تهتم بنتاج هذه العملية (الانتخابات)، فمن صناديق الاقتراع يولد النظام السياسي الجديد، بغض النظر عن المسارات والاتفاقات بين طرفيْ المفاوضات حيال تقاسم السلطة وتبعاتها.

وعلى خلاف ذلك، لا تريد روسيا أن تنتهي العملية السياسية بإحداث نقلة كبيرة في بنية النظام، وعليه ينصب اهتمامها على الدستور، لأن التعديلات الدستورية هي التي ستحدد طبيعة المرحلة المقبلة وطبيعة النظام السياسي.

وبدهاء سياسي، بدأ صناع القرار في الكرملين -خلال الفترة الأخيرة- تخفيف تصريحاتهم بشأن الدستور، ورفع مستوى التصريحات المتعلقة بالانتخابات، لبعث رسائل طمأنة للولايات المتحدة بأنها تتشارك معهم في الرؤية والمسار.

كما تهدف هذه الرسائل إلى تشتيت الانتباه الأميركي للخطوات الروسية نحو مؤتمر “الحوار الوطني السوري” القادم في سوتشي، والذي تعول عليه موسكو كثيرا.

لا يعني ذلك أن روسيا تبحث عن بدائل لجنيف، فالروس أذكى من ذلك بكثير، وهم يدركون جيدا أنه لا بديل عن جنيف، لكنهم يأملون أن يحققوا اختراقا سياسيا ما في سوتشي، وهذا الاختراق لا بد أن يُؤخذ بعين الاعتبار على طاولة المفاوضات، كما حدث في أستانا التي أخذت مخرجاتها بعين الاعتبار.

وبناء على ذلك، لم نلحظ اهتماما روسياً أو ضغوطا على النظام عندما أجل ذهاب وفد المفاوضات إلى جنيف، أو حتى عندما رفع وفد النظام مستوى خطابه أمام المبعوث الأممي والمعارضة على السواء، وتلويحه بأنه لن يعود إلى المرحلة الثانية من جولة المفاوضات الثامنة

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

2017

 

 

 

 

 

تساؤلات بشأن “جنيف 8″/ حسين عبد العزيز

هل تشكل جولة “جنيف 8” من مداولات الشأن السوري بداية الانزلاق نحو وأد الثورة بشقها السياسي، بعدما وئدت على الأرض؟ أم هل تشكل هذه الجولة بداية لمسار تفاوضي حقيقي، قد يخرج البلاد من أزمتها المستعصية، ويعبد الطريق أمام حل سياسي، ينتهي بإقامة نظام ديمقراطي؟ ليست الإجابة عن السؤالين يسيرة، في ظل غموض المواقف الدولية من الحل السياسي، وفي ظل تعامل فرقاء الصراع السوري مع الأزمة، انطلاقا من تغليب المصالح الشخصية على المصلحة العامة.

لقد تعرّضت جولة “جنيف 8” ومخرجات مؤتمر المعارضة السورية “الرياض 2” لانتقادات واسعة من أطراف كثيرة في المعارضة، إما لأسباب خاصة، بعدما خسرت شخصيات مكانتها الاعتبارية، أو بسبب مراهقتها السياسية واستمرارها في اعتماد خطاب سياسي ميتاواقعي. وهنا محطات تاريخية مهمة من عمر الأزمة السورية:

أولاً، رفضت فصائل المعارضة قبل ثلاثة أعوام الانخراط في البرنامج الأميركي، المتمثل بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ووقف قتال النظام، وترتب على هذا الرفض اضطرار واشنطن للبحث عن حلفاء محليين آخرين، ولو وافقت الفصائل آنذاك على المطلب الأميركي، لكانت اليوم قوة عسكرية ضاربة على الأرض، ولكانت الحليف الأول للولايات المتحدة. ومن نافل القول إن هذا الأمر لو تحقق، لكان المشهد العسكري اليوم مختلفا تماما. وللأسف قبلت فصائل المعارضة أخيراً وقف قتال النظام، لكن من البوابة الروسية، لا الأميركية، وهذا أمر كانت له وما تزال تبعات كبيرة.

ثانياُ، هل علينا التذكير كيف أن الروس طلبوا من فصائل المعارضة البقاء في حلب، شرط مغادرة جبهة النصرة المدينة، لكن الفصائل رفضت، وكانت النتيجة مغادرة الجميع بقوة السلاح؟.

“عندما اتسمت المعارضة بالواقعية السياسية، لا الاستسلام كما يُصور بعضهم، تعرّضت الهيئة العليا والوفد المفاوض لأبشع الانتقادات”

 

ثالثاً، هل علينا التذكير كيف رفض ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، ممثل المعارضة الرئيسي، توسيع مروحة المعارضة، واستيعاب هيئة التنسيق الوطني، ولم يتم الأمر إلا بضغط دولي، كانت الرياض عنوانه في ديسمبر/ كانون الأول عام 2015، مع تشكيل “الهيئة العليا للمفاوضات”، وكيف رفضت هذه الهيئة فيما بعد استيعاب منصات جديدة، إلى أن فرض ذلك على الهيئة بالقوة. ماذا لو قامت الهيئة منذ سنتين بالتواصل مع قوى قريبة إليها، أليس ذلك كان أفضل من الواقع الحالي الذي أصبحت فيه منصة موسكو جزءا من الهيئة العليا؟

رابعاً، أصرّت المعارضة طوال السنوات الماضية على بيان “جنيف 1” الذي يدعو إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، مع إبعاد الأسد من المرحلة الانتقالية. ورضيت اليوم بالقوة بتحويل ملف الانتقال السياسي ومصير الأسد إلى مجرد نقاش تفاوضي. وفي منتصف عام 2015، طلب مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، من المعارضة مناقشة وثيقة أعدها عن المبادئ الأساسية للحكم، قبل عرضها أمام مجلس الأمن، لكن “الائتلاف” رفض مناقشتها، وكانت النتيجة أن المبعوث الأممي عرضها على المجلس كما هي، لتتحول فيما بعد إلى قرار دولي يحمل الرقم 2254. وللأسف، لم يعد هذا القرار الذي شكل مرجعية الحل السياسي مقبولا كما هو من الروس والأميركيين، ويجري ببطء تفريغه من محتواه، بعدما كان القرار نفسه قد أفرغ قضية المرحلة الانتقالية ومصير الأسد من محتواهما.

يعود الواقع الذي وصلت إليه المعارضة السورية اليوم، بشقيها السياسي والعسكري، إلى تخلي المجتمع الدولي عن الثورة السورية من جهة، ولأخطاء الدول الإقليمية الداعمة للمعارضة من جهة ثانية، وللأخطاء الكارثية التي ارتكبتها المعارضة، بسبب رعونتها السياسية، وتسلم شخصيات ريادة العمل المعارض، وهي لا تمتلك أدنى الكفاءات من جهة ثالثة.

واليوم، عندما اتسمت المعارضة بالواقعية السياسية، لا الاستسلام كما يُصور بعضهم، تعرّضت الهيئة العليا والوفد المفاوض لأبشع الانتقادات، من دون أن يمتلك هؤلاء المنتقدون أية بدائل سوى مواقف نظرية أيديولوجية تخلو من أية روافع مادية لها.

وليس مفيداً الانزلاق إلى لغة الاتهامات بين صفوف المعارضة، المفيد هو استخدام السياسة باعتبارها فنا للممكن لتحصيل ما يمكن تحصيله في بيئةٍ محليةٍ وإقليمية ودولية غير مواتية.

والقول إن جولة “جنيف 8” ستؤسس لمرحلة تفاوضية عبثية غير صحيح، بدليل خوف النظام وارتباكه منها، لأنها ألغت ثنائية العسكري / السياسي التي يتحجّج بها، ووضعت نواظم للمسار التفاوضي. وخصوصية المعركة السورية سياسية أكثر منها عسكرية، ولو كان المستوى العسكري هو الأساس لانتهت الأزمة لصالح النظام، ولما اضطر إلى إجراء مفاوضات سياسية.

لم يكن أمام المعارضة إلا القبول بالسقف السياسي التفاوضي الذي تم التفاهم عليه دوليا، ولو فعلت غير ذلك، لسرعان ما بدأت واشنطن وموسكو بإضعاف المعارضة وإخراجها رويدا رويدا من المشهد السياسي، لكن هذه الواقعية السياسية التي يتسم بها الوفد التفاوضي قد تكون سبباً في إحداث اختراقٍ يصب في صالحها، بعدما خبرنا سياسة اللاءات، وما انتهت إليه من كوارث.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

ما هكذا تورد الإبل/ علي العبدالله

بيْن بيان أصدره معارضون سوريون، مرفق بدعوة للتوقيع عليه، ضد مخرجات مؤتمر الرياض 2، وخصوصا وفده إلى مفاوضات جنيف 8، وهاشتاغ “#الهيئة_العليا_للمفاوضات_لا_تمثلني”، أطلقه على مواقع التواصل الاجتماعي عدد آخر منهم، وجد وفد التفاوض العتيد نفسه محاصرا، وتحت ضغوطٍ ضخمةٍ من النظام وحلفائه، روسيا بشكل خاص، ودول شقيقة وصديقة، كل لاعتباراته وحساباته وأهدافه الخاصة، وهذا أثار أسئلةً استفساريةً واعتراضيةً بشأن موقف المعارضين الذين وقفوا ضد مخرجات المؤتمر وتركيبة وفده، في لحظة سياسية شديدة الخطورة والمصيرية.

إذا كان رفض النظام أجزاء من البيان الختامي، وموقف وفد المعارضة من هدف المفاوضات وأولوياتها، وشكل النظام المستهدف، منطقيا، لأنه (النظام) لا يريد الدخول في مفاوضاتٍ سياسيةٍ أصلا، لأنها ستضعه، عاجلا أم آجلا، أمام خيارات تغيير سياسي وأمني بمستوى أو آخر، وهو الذي لم يقبل إلا عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ثورة الحرية والكرامة. وإذا كان تناغم حلفاء النظام مع رفضه مفهوما، لتقارب الأهداف، من جهة، ولأنهم مازالوا بحاجةٍ إلى التغطية القانونية التي يقدمها لحضورهم على الأرض السورية، ولدورهم العسكري والسياسي في الصراع على سورية، من جهة ثانية، فإن موقف المعارضين الأشاوس الرافض البيان الختامي، وتركيبة الوفد المفاوض، غير مفهوم أو مقبول، وهذا ليس لأن البيان الختامي كامل مكمل، وتركيبة الوفد المفاوض عظيمة، بل لأن موقف الرفض يفتقر إلى الحصافة والنباهة والسياسة، فموقفهم لن يصحّح الخطأ ويغير المسار، بقدر ما سيخدم الخصوم بنقل المعركة إلى داخل صفوف المعارضة، وبين فرقها المتباينة والمتعارضة على خلفيات سياسية

“حساباتٌ إقليميةٌ ودوليةٌ قد لعبت دورا مؤثرا في ادارة مؤتمر الرياض 2، وفي ضبط مخرجاته”

وتنظيمية وولائية، من جهة، وبتقليص مساحة الحركة والمناورة أمام الوفد، عبر التشكيك بشرعيته وقدرته على تحمّل المسؤولية والالتزام بتنفيذ الاتفاق الذي يمكن أن يبرم معه، من جهة ثانية.

إذا كانت حساباتٌ إقليميةٌ ودوليةٌ قد لعبت دورا مؤثرا في ادارة مؤتمر الرياض 2، وفي ضبط مخرجاته، إن لجهة المحتوى المتناقض والملتبس لبيانه الختامي، أو لجهة تركيبة الوفد المفاوض، وآلية عمله طوال فترة التفاوض، فالحصافة، والتصرّف السياسي المنطقي والعملي كذلك، تقتضي تركيز النار على الخصوم، لكشف غاياتهم وخططهم ومناوراتهم وإبراز مطالب الثورة، والسعي إلى التأثير على مجريات التفاوض، خدمة لهذه المطالب. فالمنطقي في مثل هذه الحالة تثبيت المكاسب وتعزيزها، النظر بإيجابية إلى نصف الكأس الممتلئ، لا تبديده، العمل على تحقيق مكاسب لملء النصف الفارغ من الكأس، فالوفد، بتركيبته السياسية المتنوعة وغير المنسجمة والهشّة، فيه أطراف وشخصيات متمسكة بأهداف ثورة الحرية والكرامة في التغيير السياسي، وتحقيق الانتقال إلى نظام ديمقراطي عادل، يحقق المساواة بين المواطنين من دون تمييز أو إجحاف، وهي (هذه الأطراف والشخصيات) بحاجةٍ ماسّة إلى ما يقوّي موقفها، ويعزّز رأيها كي تنجح في قيادة عملية التفاوض، بلجم أطراف في الوفد، غرّدت خارج سرب الثورة، لحساباتٍ خاطئة أو تحت تأثير دول راعية، وتوجيه المفاوضات نحو أهداف الثورة، أو الإبقاء على الكرة في ملعب النظام وحلفائه في أقل تقدير، كان على المعارضين المتحفظين أو رافضي مخرجات مؤتمر الرياض 2 تقديم دعم مشروط للوفد المفاوض، دعمه وتأييده بقدر تمسّكه بمطالب الثورة، وتعزيز موقف الأطراف والشخصيات الصلبة عبر تحرّك عملي بالمقالات والهاشتاغات والاعتصامات والتظاهرات التي تعلن التمسك بأهداف الثورة، ورفض التخلي عنها، ومواجهة الضغوط الإقليمية والدولية التي تعمل على حرف المفاوضات، بعيدا عن مقتضيات القرارات الدولية ذات الصلة، وخصوصا بيان جنيف 2012 وقرار مجلس الأمن 2218، كان المطلوب تحريك تظاهراتٍ واعتصاماتٍ وتفعيل هاشتاغات وكتابة مقالات رأي بكثافة، من أجل تجسيد موقف الشعب السوري بالتغيير، وعكس صورة المأساة التي يعيشها، نتيجة ممارسات النظام، ودور حلفائه فيها، واستخدامهم القوة والبطش ضد ثورةٍ سلميةٍ، قامت ضد القهر والتمييز: أعداد القتلى بالرصاص الحي والقذائف والصواريخ والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية، القتلى تحت التعذيب، الجرحى، أصحاب العاهات الدائمة، أعداد المعتقلين، المفقودين، المنازل والمشافي والمدارس المدمرة، التجويع حتى الموت، التهجير القسري، التغيير السكاني، لوحة متكاملة (أرقام وصور) لواقع الشعب السوري، حاضره المرير ومستقبله الموعود، ترفع في وجه النظام وحلفائه والقوى الإقليمية والدولية، تبقى ماثلةً للعيان، كي لا يستهان بنا، ويبخس شعبنا تضحياته من أجل حياة أفضل، في ظل الحرية والكرامة. بعض من الروية والحصافة والخيال، هداكم الله.

العربي الجديد

 

 

 

جنيف في مكان آخر/ فاطمة ياسين

هذه هي الحلقة الثامنة من مسلسل جنيف السوري.. الحدث ذو الأهمية المفترضة لم يأخذه أحدٌ بجدية، لا المعارضة ولا النظام، ولا حتى الأطراف التي ترعاهما، على الرغم من أنه صيغة دولية تعتمد الحل الوسط وترتكز على قرارات مُتفق عليها. يمكن أن يكون الخروج بنتيجة من هذا المؤتمر أمراً جيداً، ولكن كل طرف ما زال يرى أنه يستطيع الانتصار النهائي، متكئاً على دعم حلفائه.

تعمل موسكو بجد للالتفاف على جنيف، والاستعاضة عنه بأستانة أو سوتشي، والمعارضة لا تحضر إلا بعد مؤتمر توافقي، تتفق فيه على الحد الأدنى الذي لا يرضي أحداً، فيشعر كل مَنْ يجلس على كراسي مؤتمر جنيف بعدم جدوى وجوده.

شهدت أطوار الحرب المستمرة منذ سبع سنوات في سورية حالات مد وجزر، تقدّمت المعارضة وتراجعت، وكذلك فعل النظام، وعُقدت جولات جنيف في أثناء حالات ميدانية متباينة. وفي كل الظروف، كان جنيف يبدأ بأقل قدر من التوقعات تحت ذرائع مختلفة، وكانت الوفود تلتقي بالمبعوث الأممي شكلياً قبل أن تغادر على موعد بلقاء ثان، وعينها على أرض المعارك، أو على العواصم الداعمة التي تشتم منها رائحة انتصار ما.. وما بين جنيف وآخر كان يمضي مزيد من الوقت، وهو العامل الذي يرغب النظام بتوظيفه لصالحه ضمن لعبةٍ يجيدها، ونتيجةُ آخر حلقة لجنيف تؤكد هذه النظرية، وبدأ وفد المعارضة يحترف أيضاً لعبة إضاعة الوقت، بعد أن أصبح بحاجة لكثير منه قبل أن يحدث متغيرٌ دوليٌّ ما لصالحه.

قبيل انعقاد مؤتمر الرياض 2 استقالت بعضُ رموز المفاوضات السابقة، أو جرى استبعادها مراعاةً لما ترغب به موسكو تحت يافطة “استثناء المتشدّدين”، وأُعيد تشكيل وفدٍ يستوعب أفراداً جددا، ويؤهل نفسه لخوض “منافسات جنيف”. وظهر في البيان النهائي لمؤتمر الرياض أن الوفد لن يقبل فترة انتقالية يكون للأسد دورٌ فيها، وهو البند الذي استفزّ رئيس وفد النظام، بشار الجعفري، واعتبره شرطاً مسبقاً دفعه إلى مغادرة المفاوضات مبكراً، لكن الحدث الأبرز كان تقديم مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، ورقة معدلة عما قدمه في السابق، وطلب من وفدي النظام والمعارضة دراستها والبناء حولها. وتتبنى الورقة سورية موحدة تجمعها فيدرالية فضفاضة، وهذا يعني، بشكل ما، إبقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، مع تثبيت حالة عدم الاقتتال، لكن الخلاف الحقيقي هو بشأن مكان بشار الأسد.

قبل أن يبدأ جنيف، التقى رئيس النظام بشار الأسد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي، ثم جرت قمة مهمة جمعت بوتين مع كل من رئيسي إيران حسن روحاني وتركيا رجب طيب أردوغان، كما التقى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مع بوتين في فيتنام، وخلاصة كل اللقاءات كان إحداثَ تغيير في ورقة دي ميستورا وتأجيلَ ملتقى سوتشي، وليس إلغاءه، بالإضافة إلى شبه تخلٍّ أميركي عن الأكراد. وتجعل كل هذه الملابسات من لقاء جنيف لقاء شرفياً فقط، وكل ما يمكن أن يجري سيكون خارجه وقد يقتصر اللقاء في جنيف على حشر الجميع للتوقيع على ما سبق التوافق عليه. وحتى هذه اللحظة، لم يتم الحسم بين العواصم، وخصوصا الجانبين، الأميركي والإسرائيلي، ولدى هذين شرط خاص وحاسم، هو استبعاد إيران.

يملك النظام وقتا كثيرا، حتى أن وسائل إعلامه تتغنى بترف إعادة الإعمار ومحاربة الفساد، ولدى مسؤوله في المفاوضات كل الجرأة ليتأخر عن موعد الاجتماعات، ولديه جرأة أخرى ليرفض الدعوة إلى تمديد الاجتماع، ولدى وفود المعارضة وقت أيضاً لإجراء مفاوضات داخلية، وعقد لقاءات فرعية لضم شخصيات جديدة وإغناء الوفد. ويمكن لجنيف أن ينتظر موعد نضوج آخر في عواصم أخرى، ويمكن الآن أن يراقب الجميع ما سيسفر عنه اتهام المسؤول السابق في حملة ترامب لترامب نفسه بالاستفادة من تدخلات روسية في الانتخابات الأميركية، وهذه تطورات قد لا تقلب الطاولة، بل يمكنها أن تغير الطاولة نفسها.

العربي الجديد

 

 

 

 

جنيف السوري: مماطلة روسيا والنظام بانتظار سوتشي والحسم الميداني/ عدنان علي

حوّل النظام السوري بدعم من روسيا جولات مفاوضات جنيف إلى مضيعة للوقت، مع استمرار تهربه من بحث أي نقاط جدية على طريق الحل السياسي، إضافة إلى حرف الأنظار عن هذا المسار بخلق أحداث قبل كل جولة تفاوضية، في موازاة استمرار مساعيه لتوسيع رقعة سيطرته على المزيد من الأراضي في سورية، وذلك في ظل تراجع دور أطراف دولية كان لها تأثير في تحديد أولويات الحل السياسي في سورية.

وعلى الرغم من إعلان وفد النظام نيّته العودة إلى جنيف يوم غد الأحد للمشاركة في المرحلة الثانية من جولة التفاوض الثامنة التي انتهت مرحلتها الأولى بلا نتائج، إلا أن مصادر في وفد المعارضة الذي لم يغادر معظم أعضائه جنيف حتى الآن، لا تتوقع حدوث أي اختراق خلال هذه الجولة بسبب سياسة التعطيل المتعمّدة التي يتّبعها النظام بالتنسيق مع روسيا.

وقال المتحدث باسم وفد المعارضة المفاوض، يحيى العريضي، إن أي انخراط جدي للنظام في العملية السياسية يعني نهايته، خصوصاً أن هذه العملية تستند إلى قرارات دولية وقّعت عليها روسيا التي لم تنفك تحاول تهميش بيان جنيف الأول باختراع موضوع المنصات من أجل نسف مصداقية المعارضة، وكل ذلك بهدف الهروب من جوهر العملية السياسية. ولفت العريضي في حديث مع “العربي الجديد” إلى أنه مع كل جولة تفاوضية يفبرك النظام حدثاً ما لصرف الانتباه عن الاستحقاقات السياسية، موضحاً أنه في الجولة الحالية “لاحظنا كيف ماطل النظام في الحضور ثم انسحب سريعاً من المفاوضات محاولاً التهرب منها نهائياً، بالتزامن مع تصعيد ميداني خصوصاً في الغوطة الشرقية”.

وأعلن أن وفد المعارضة لديه استراتيجية واضحة المعالم “بهدف سحب النظام بكل دقة وصبر إلى العملية التفاوضية”، مشيراً إلى أن النظام “انكشف الآن أمام العالم، وحتى روسيا باتت محرجة من سلوكه ما دفعها لإجباره على العودة إلى المفاوضات”.

وأعرب العريضي عن اعتقاده بأن لدى روسيا تفكيراً يتعلق بتهميش مسار جنيف لصالح مسار سوتشي، فمن المتوقع أن يتم تخصيص جولة أستانة المقبلة في 22 من الشهر الحالي للدفع باتجاه سوتشي، على الرغم من أن هذا المسار كان يفترض أن يركز على قضية المعتقلين كما هو متفق عليه مسبقاً مع الأتراك والروس. وأضاف: “يحاولون دفع الأمور باتجاه مسار آخر لا غطاء دولياً له لأنهم لا يريدون الدخول في أي مسار سياسي إلا على طريقتهم بعيداً عن المرجعيات الدولية”.

ومع ذلك اعتبر العريضي أن جولة جنيف الحالية حققت إنجازاً هاماً يتمثّل في توحيد رؤية المعارضة إلى حد بعيد بشأن الحل السياسي، مشيراً بشكل خاص إلى أن جلسة يوم الأربعاء مع رمزي رمزي، نائب المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا الذي تغيّب لأسباب خاصة، كانت “غنية جداً وجرى خلالها نقاش معمّق لآليات عملية الانتقال السياسي وعلاقة ذلك مع العناصر الأخرى، خصوصاً الدستور”. ولخص ما جرى في الجولة الحالية بأنه يكشف عن مأزق النظام الذي يحاول التهرب من بحث القضايا الأساسية مثلما يكشف عن الأداء العالي لوفد المعارضة في حشر النظام بالزاوية وكشفه أمام العالم.

وإضافة إلى توجيه الاهتمام إلى مسار سوتشي، يسود اعتقاد بأن هدف مماطلة روسيا ونظام بشار الأسد في جنيف، هو كسب الوقت من أجل استكمال سيطرة الأخير على المزيد من الأراضي في سورية في ظل حديث عن انتهاء “مرحلة داعش” وتركيز النظام على محاولة انتزاع ما هو موجود بيد المعارضة من مناطق سواء في محيط دمشق، أو حماة وإدلب ودرعا.

وفي هذا الشأن، قالت عضو وفد المعارضة بسمة قضماني، إن العملية السياسية في جنيف، تجري بناء على قرارات دولية، وليس وفق التطورات العسكرية على الأرض. وأوضحت قضماني في تصريحات صحافية أنه “إذا كانت العملية السياسية في جنيف تتم وفق موازين قوى، فنحن لسنا بحاجة للأمم المتحدة، ومرجعية دولية”، مشيرة إلى أن هناك قرارات صوّتت عليها دول تدعم النظام بما في ذلك روسيا، مثل بيان جنيف 2012 (الخاص بتشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات)، والقرار الأممي 2254 (الصادر في 2015 والقاضي ببدء محادثات السلام في سورية). وأضافت: “لا نستطيع بالتالي أن نقول اليوم إن هذه كلها وثائق ليست صالحة لأن الوضع تغيّر على الأرض، وإذا استخدمنا هذا المنطق، فلا الشعب الفلسطيني له حقوق، ولا الشعب السوري له حقوق”.

يأتي ذلك، في وقت أكدت فيه مصادر عدة وجود ضغوط دبلوماسية على وفد المعارضة في جنيف لـ”تجميد” مطلب تنحي بشار الأسد. وكان دي ميستورا حض الخميس الوفدين على “الانخراط بجدية في (نقاش) النقاط الاثنتي عشرة” التي سلّمها لكل منهما، بالإضافة الى مواصلة بحث “العملية الدستورية وإجراء انتخابات بإشراف الأمم المتحدة”. وأعلن أنه في المرحلة المقبلة “سنقيّم سلوك كلا الطرفين، الحكومة والمعارضة في جنيف”، وحذر من أنه في حال تبيّن أن أحد الطرفين “يعمل بحكم الأمر الواقع على تخريب العملية (السياسية) وتقدم (محادثات) جنيف، فسيكون لذلك أثر سيئ جداً على أي محاولة سياسية أخرى في أي مكان آخر لإجراء عمليات” مشابهة لجنيف.

وفي سياق آخر، قالت وزارة الخارجية الروسية إن وزير الخارجية سيرغي لافروف بحث الملف السوري مع نظيره الأميركي، ريكس تيلرسون، على هامش اجتماع لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، بالعاصمة النمساوية فيينا. وقال البيان، إن الوزيرين بحثا الخطوات الإضافية التي ينبغي اتخاذها لإنهاء الحرب في سورية، وأشارا إلى “أهمية تأسيس عملية تفاوضية مستدامة تضم كافة القوى السياسية في سورية، بما في ذلك مفاوضات جنيف، ومؤتمر الحوار السوري المزمع عقده في سوتشي الروسية” في فبراير/شباط 2018. من جهته، قال لافروف إنه أطلع نظيره الأميركي على التحضيرات لعقد “مؤتمر الحوار الوطني السوري” في مدينة سوتشي، مضيفاً أنهما ناقشا كيفية التواصل بين العسكريين الروس والأميركيين على الأرض في سورية.

وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد صرح قبل يومين بأنه بعد انتهاء العمليات في سورية بالقضاء على “داعش” من المهم البدء بالعملية السياسية، وركز على ضرورة التحضير وعقد مؤتمر الحوار في سوتشي، ومن ثم إعداد دستور جديد، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بموجبه، ولم يشر أبداً في تصريحاته تلك إلى المفاوضات الحالية حالياً في جنيف ولا إلى العملية السياسية هناك بشكل عام. وفي هذا السياق، نقلت وكالة “إنترفاكس” الروسية عن مصدر مطلع أن الدول الضامنة لاجتماعات أستانة، تركيا وروسيا وإيران، ستناقش في أستانة معايير مؤتمر “الحوار الوطني” السوري في سوتشي، وأشار إلى أن الرؤساء الروسي والتركي والإيراني اتفقوا خلال قمتهم أخيراً في سوتشي على الإشراف المشترك على المؤتمر، ما يعني أن الفكرة لم تعد روسية بل ثلاثية.

العربي الجديد

 

 

 

 

عن مفاوضات الجعفري مع الأسد/ مصطفى علوش

كأننا في دائرة متحركة ومغلقة، ندور في التصريحات الأميركية ذاتها، بينما يتابع السيد بوتين اختباراته السياسية والعسكرية عبر الدم السوري، محاولاً مبادلة حجم احتلاله العسكري في سورية بملفات أخرى. لكنه واقعياً ما زال يراوح في المكان ذاته سياسياً، بينما تتفرج الإدارة الأميركية الترامبية عليه ولا تريد التفاوض معه.

تاريخ بوتين السياسي وبنية سلطته المافيوية، على رغم امتلاكها حق الفيتو، عاجزان بالمعنى البنيوي عن إحداث أي نقلة سياسية في الوضع السوري. سلطته تريد إخضاع العالم أجمع لإرادة مافيا سياسية، وأن تظهر بمظهر القوة العظمى بينما تعجز عن كسب احترام أوروبي واحد يحترم نفسه، فأي حل سياسي يمكن أن يخترعه بوتين!

لا شك يستطيع السيد بوتين أن يطلّ علينا بألف شكل فوتوغرافي، راسماً عبوسه الرهيب أمام ملايين السوريين، ويستطيع أن يوقّع ما يشاء من معاهدات مع نظام دموي مرعب، ولكن كل ذلك لا يمكن أن يجعله قائداً سياسياً، فالسياسة التي يتقنها الروس تستمد شكلها ومحتواها من تاريخ علاقتهم بالقمع والقتل وتجارة المافيات.

لا شك بأن حال عموم العالم سيء، ونحن محكومون بالقلق والخوف والرعب لا بالأمل، وحال سورية لا يمكن أن يتغير خطوة واحدة إلى الأمام ما دام بوتين ومعه الملالي يتحكمون بكامل الملف السوري، وما كراهية بشار الجعفري، الظاهرة عبر تصريحاته للشعب السوري، سوى إعادة إنتاج لوجهي بوتين والخامنئي سياسياً.

باختصار، يريد بوتين إعادة تجميل وجه النظام السوري ولا يمانع في دعم مهرجان سينما سوري بقيادة وليد المعلم والجعفري لمرافقة جولات التفاوض التي ستبقى بلا جدوى.

نعم بلا جدوى، ونظرة سريعة على تاريخ وصيرورة الطغاة أجمع تجعلنا نقول إن بشار الأسد ومعه من يدعمه لا يمكن لهم أن يعيشوا من دون حروب. وقبل الثورة السورية كان كامل الشعب السوري يعيش أيضاً في ظل حرب ولكن أحداثها كانت تجرى في أقبية الاستخبارات.

نريد أن نتفاءل، ولكن أعطوني سبباً واحداً للتفاؤل على المدى القريب، إذ يكفي أن تتمعنوا قليلاً في ما تفعله الإدارة الترامبية- الأوبامية في الملف السوري، لتعرفوا حجم الخسارات المقبلة.

أما عن وفد المعارضة السورية الموحد فيكفي أن نتفرج على أقوال السيد قدري جميل، وتسمية منصته لنعرف أي كوارث تتنظرنا.

لعل السوداوية السياسية في المشهد السوري مأخوذة من سوداوية المشهد في العالم أجمع، وأكبر شاهد على ذلك عدد المرات التي استخدم فيها بوتين الفيتو لحماية رأس بشار الأسد.

فواهمٌ من يعتقد أن موازين القوى على الأرض السورية هو ما يقود المفاوضات، لأنه بالمعنى السياسي سورياً لا توجد مفاوضات، كل ما في الأمر لعبة مافيات للضحك على العالم. نعم دعونا نتشاءم كثيراً ونبني رؤانا على تشاؤمنا، ذلك سيكون أفضل لنا سياسياً. نعم، نحتاج إلى المزيد من الصدمات لندرك أن هذه النظام لا يريد من التفاوض سوى إطالة عمره.

وتستمر المأساة للأسف.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

سراب المفاوضات من جنيف إلى سوتشي مرورا بأستانا/ ماجد كيالي

انتهت المرحلة الأولى من الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، بين النظام السوري والمعارضة (بين 28 و30 نوفمبر الماضي)، من دون التوصل إلى أي شيء، وحتى من دون إجراء أي مفاوضات أو حوارات ثنائية لأي قضية كانت. بل يمكن الجزم بأن عودة المتفاوضين إلى المرحلة الثانية من المفاوضات في هذه الجولة (بعد أيام) والتي تنتهي في منتصف هذا الشهر، لن تفضي إلى أي نتيجة تذكر، أو تؤثر في مصير الصراع السوري.

وفي الواقع، على مر السنوات الماضية شهدنا أن ثمة مفاوضين كثرا، لا سيما في وفد المعارضة، ولكن لا وجود لمفاوضات، وثمة كثير من الإعلام والخطابات من الطرفين، ولكن لا وجود للسياسة. أيضا ثمة أوهام ومساومات، كما ثمة ادعاءات ومطالبات، لكنها كلها لزوم تسخين أجواء المفاوضات السورية ـ السورية، وإثارة الجدل من حولها، لا أكثر.

هكذا نحن، في حقيقة الأمر إزاء “طبخة بحص” سواء تعلق ذلك بالجولات التفاوضية الثماني في جنيف، أو بالجولات التفاوضية الست في أستانة، بل إن ذلك يتعلق أيضا، بالمؤتمر الذي أزمعت روسيا على عقده في سوتشي، بعد أن تم تخفيض الطموحات الروسية التي بنيت عليه، وتحولها إلى عقده لمرة واحدة، بعد أن فشلت في تسويقه لدى حليفيها في مسار أستانة (إيران وتركيا) لأسباب تخصّ كل واحد منهما.

والأهم أنها أخفقت في تسويقه لدى الإدارة الأميركية، التي سارعت بدورها إلى الخروج من دائرة الصمت أو اللا مبالاة، إلى التأكيد على مسار المفاوضات في جنيف، باعتباره بالنسبة لها المسار الوحيد لحل الصراع السوري، مع تأكيدها على بقاء قواتها في سوريا إلى حين حصول التسوية في هذا البلد، ناهيك عن محاولاتها اللافتة لاستعادة تركيا إلى دائرتها السياسية في الصراع السوري.

المقصد هنا لفت الانتباه إلى عدة مسائل، أولها أن كل تلك المسارات والجولات التفاوضية كانت بمثابة تمرين سياسي، أو ساحة اختبار، لتجاذبات القوى، بين الأطراف المتصارعة على سوريا، ولا سيما الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا، وباقي الأطراف، الدولية أو اللا دولية، المحسوبة على كل واحدة منها.

ثانيا إن الحقيقة الغائبة، أو التي يجري التشويش عليها، تفيد بأنه ولا مرة جرت مفاوضات فعلية بين الجانبين المعنيين، أي النظام والمعارضة، في كل هذه الجولات، في جنيف وفي أستانة، وأن عملية المفاوضات كانت مجرد عملية صورية، وتعبير عن إرادة دولية، وهذا ينطبق على مسار جنيف التفاوضي، في حين أن العملية التفاوضية في مسار أستانة كانت محصورة بالدول الثلاث فقط، أي روسيا وإيران وتركيا.

ثالثا، يستنتج من ذلك أن السوريين هم الطرف الغائب في هذه المفاوضات، نظاما ومعارضة، وأن قدرة أي منهما على إنفاذ موقفه، أو إملاءاته، إزاء الطرف الآخر باتت محدودة أو مقيدة. فالنظام، مثلا، بات فاقد السيادة، وفوقها القوة، وأضحى مجرد طرف يُملى عليه، حينا من روسيا، وحينا من إيران، الأمر الذي قد يحوّل هذين الطرفين من إطار التنافس إلى إطار التخاصم أو التصارع مستقبلا. أما بالنسبة للمعارضة فهي ضعيفة ومشتتة ومرتهنة، أي إنها خاضعة للأطراف الإقليمية والدولية “الصديقة”، ما يؤثر على وضعها، لا سيما مع تغيير مواقع هذه الدولة أو تلك، ومع عدم حسم الإدارة الأميركية لموقفها من الصراع السوري.

رابعا، يتضح من كل ما تقدم أن المفاوضات ستظل مرهونة بمدى، وباتجاه، تطور الموقف الأميركي، مع وجود إشارات على غاية في الأهمية، صدرت مؤخرا، أولاها التركيز على تحجيم إيران، واعتبارها خطرا على الأمن الدولي والإقليمي، ومن أهم عوامل الاضطراب في المشرق العربي، وخاصة في سوريا.

وثانيتها تأكيد وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين على اعتبار مسار المفاوضات في جنيف بمثابة المنبر الوحيد الذي يمكن من خلاله حل الصراع السوري، في تهميش واضح للمسارات الأخرى، أو اعتبارها مجرد تابعة لمسار جنيف

. وثالثتها، محاولة استعادة الولايات المتحدة لعلاقاتها مع تركيا، وربما هذا الوضع هو الذي حجم الطموح الروسي، أو ألجمه، بخصوص فتح مسار تفاوضي جديد في سوتشي، إذ أن تركيا تلقفت، على الأرجح، الإشارة الأميركية وعملت على الاستثمار بها في وضعها شروطا على مؤتمر سوتشي، خففت من حماس روسيا له.

هكذا ستمضي الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، والجولة التي تليها من مفاوضات أستانة، وسيعقد مؤتمر سوتشي، لكن كل شيء سيبقى رهنا، ليس بإرادة السوريين، ولا بصراعاتهم الدامية والمدمرة على الأرض، وإنما رهنا بتموضعات القوى الدولية والإقليمية في هذا الصراع.

ومثلا، فإلى أين ستذهب روسيا، لا سيما بعد حديثها عن تخفيض قوتها العسكرية في سوريا وبعد حال التجاذب الروسي- الإيراني؟ ثم ماذا بالنسبة لروسيا وإيران بعد التحول التركي نحو الولايات المتحدة؟ وماذا بالنسبة لكل هذه الأطراف بعد اقتراب لحظة الحسم الأميركية؟

كاتب سياسي فلسطيني

العرب

 

 

 

استئناف جنيف8 السوري: تمرير وقت بانتظار “استرضاء” النظام/ محمد أمين

بدأت المرحلة الثانية من الجولة الثامنة لمفاوضات جنيف السورية، أمس الثلاثاء، بعد توقف لثلاثة أيام، بحضور وفد المعارضة وغياب وفد النظام السوري الذي يستمر في تعنته ضمن مساعيه الهادفة لإجهاض أي تحرك قد يفضي إلى حل سياسي يقود إلى تغيير وانتقال سياسي يضع حداً لاستبداد يحكم البلاد منذ عقود. وهو ما دفع عضو وفد المعارضة السورية، أحمد العسراوي، إلى الإعراب عن اعتقاده بأن النظام يحاول القيام بـ “حرب أعصاب” من وراء عدم عودة وفده إلى المفاوضات في الوقت المقرر، مشيراً في حديث مع “العربي الجديد” إلى أن النظام يحاول وضع الحق على الآخرين لجهة عدم تحقيق تقدم في المفاوضات.

وفيما أكد مصدر سوري في دمشق لوكالة “فرانس برس” أن  وفد النظام السوري كان حتى يوم أمس الثلاثاء موجودا في دمشق، وأن القرار النهائي بشأن المشاركة في المحادثات “لم يتخذ بعد وأن دمشق لا تزال تدرس جدوى المشاركة وعندما يُتخذ القرار، سيبلغ وفق الطرق الدبلوماسية المعتادة”،  نقلت صحيفة “الوطن” التابعة للنظام عن مصادر قولها إن اتصالات مكثفة بدأها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا لتوضيح موقفه من ورقة المبادئ الجديدة التي تقدم بها، من دون استشارة وفد النظام الذي وصف ما قام به الموفد الأممي بـ”الخروج عن مهامه”. كما أشارت إلى أن دي ميستورا “يعمل على تبرير موقفه من المشاركة في مؤتمر الرياض2 للمعارضة السورية، وثنائه على السعودية”. وزعمت الصحيفة، التي تعد لسان حال النظام، “أن البيان الصادر عن الرياض2، كان مخالفاً للقرار 2254 من جهة عدم تمثيل أوسع أطياف المعارضة”. كما زعمت أن البيان “تضمن شروطاً مسبقة أعادت المفاوضات إلى المربع الأول، الأمر الذي اعتبرته دمشق محاولة سعودية متجددة لعرقلة مسار جنيف التفاوضي، وعدم الأخذ في عين الاعتبار الانتصارات السياسية والعسكرية التي تحققت خلال السنوات الماضية”، وفق الصحيفة.

في غضون ذلك، أكدت مصادر مواكبة للجولة الثامنة من مفاوضات جنيف أن موسكو مارست ضغوطاً على النظام من أجل العودة الى جنيف، لكن صحيفة “الوطن” نقلت عن مصادر وصفتها بـ “السورية” أن موسكو “ليست بوارد ممارسة أي ضغوط على دمشق”،  وأن العلاقة بين العاصمتين “هي علاقة احترام متبادل وحوار ونقاش”.

وبانتظار حسم موقف النظام السوري، استأنف المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، الثلاثاء، المرحلة الثانية من الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، بلقاء في مبنى الأمم المتحدة مع وفد المعارضة الذي لم يغادر مدينة جنيف، “ما يؤكد جديته” وفق المتحدث باسمه يحيى العريضي. ومن المقرر وفق مصادر في وفد المعارضة، أن تتم  مناقشة أجوبة المعارضة السورية على أسئلة المبعوث الأممي التي قدمها للوفدين وتتعلق بمستقبل البلاد السياسي. من جهته، قال نائب رئيس وفد المعارضة السورية، جمال سليمان، في تصريح لـ “العربي الجديد” إن “معركتنا اليوم ليس أمام النظام، بل أمام العالم الذي صاغ القرار 2254″، مضيفاً “جبهة جنيف على مساوئها أفضل لنا من جبهات أخرى”.

وكان وفد النظام تسلّم أسئلة المبعوث الأممي إلا أنه اعتبرها تجاوزاً لمهام دي ميستورا، إذ قال رئيس وفد النظام، بشار الجعفري، يوم الجمعة الماضي، إنه جاء للتفاوض عبر المبعوث الأممي وليس معه. وأكدت المصادر نفسها التي تحدثت مع “العربي الجديد” أنها لا تملك معلومات حيال عودة وفد النظام من عدمها الى المفاوضات. وأشارت إلى أن موقف النظام الحاد من بيان الرياض2 “غير مبرر”، ووضعته في سياق “محاولة يائسة للتهرب من استحقاقات التفاوض”. وقالت المصادر إن بيان الرياض “هو مشروع المعارضة تسعى لتحقيقه، مثلما يخطط النظام ويعلن بقاءه في السلطة إلى الأبد”. وشددت المصادر على أن الضغط السياسي والعسكري الذي يمارسه النظام، خصوصاً على المدنيين في الغوطة الشرقية لن يدفع المعارضة لتوقيع وثيقة استسلام، وعلى النظام أن يدرك ذلك جيداً.

وأشارت المصادر نفسها إلى أن الانتصارات التي يتبجح النظام بها كثيراً هذه الأيام “ما كانت لتتحقق لولا الروس والإيرانيون، ونعلم جيداً أن قواته لم يكن لها دور مؤثر فيها”. وتساءلت “هل الواقعية السياسية التي يطالب بها النظام تعني التسليم باحتلال الروس والإيرانيين للبلاد كما يرغب النظام من أجل تثبيته في السلطة”.

ويخطط المبعوث الأممي إلى سورية لبدء تفاوض مباشر بين وفدي المعارضة والنظام، بدل تفاوض “الغرف المنفصلة” التي ظلت متبعة طيلة جولات جنيف التفاوضية. وأكدت مصادر في وفد المعارضة السورية أن المبعوث الأممي “جاد هذه المرة في عقد مفاوضات مباشرة، وأنه لن يقبل عذرا من أي طرف على هذا الصعيد”. وتطالب المعارضة السورية منذ الجولة السابعة بمفاوضات مباشرة ومكثفة من أجل التوصل لحل سياسي وفق بيان جنيف1، والقرارين 2218، و2254 اللذين يدعوان إلى انتقال سياسي. في المقابل يرفض النظام المفاوضات المباشرة في محاولة منه لعدم اعتبار المعارضة نداً. ولا يزال النظام يتعامل مع “جنيف” على أنها مجرد “حوار سوري سوري”. كما لا يزال يرى في المعارضة مجرد “عصابات إرهابية مسلحة”. ومن المقرر أن تتناول المفاوضات في المرحلة الثانية من جنيف8 قضية الانتقال السياسي الذي يرفضه النظام، مصرّاً على أن مصير بشار الأسد “فوق التفاوض”، طارحاً فكرة تأسيس “حكومة وحدة وطنية موسعة”، تنضم لها المعارضة، مع إمكانية إجراء تعديلات دستورية تجري على أساسها انتخابات يشترك فيها الأسد، وهو ما ترفضه المعارضة جملة وتفصيلاً. كما من المفترض أن يتناول التفاوض قضيتي الدستور والانتخابات، إذ لا تمانع المعارضة في مناقشة هذين الملفين، لكن ضمن سياق الانتقال السياسي الذي تصر على إنجازه أولاً قبل الانتقال إلى ملفات أخرى.

العربي الجديد

 

 

 

الاعتراف بوحدة سوريا وبالأسد مدخل رئيس لإنجاح مفاوضات جنيف/ د. عصام نعمان

كل أطراف الأزمة السورية يشاركون في مفاوضات جنيف8- . بعضهم يشارك مباشرةً، وبعضهم الآخر مداورةً. الحكومة السورية من جهة والمعارضة السياسية لها من جهة أخرى يتفاوضان مباشرة لكن بالواسطة. الواسطة هي المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا. أمريكا وروسيا وتركيا وإيران والسعودية تتفاوض مباشرةً حيناً ومداورةً حيناً آخر عبر المبعوث الأممي إياه.

المفاوضات متعثرة رغم بلوغها جولتها الثامنة، وقد تصل في تعثرها إلى الجولة الثمانين، ما لم يتفق أطرافها جميعاً على ولوجها من مدخلها الصحيح والرئيس: الاعتراف بوحدة سوريا وسيادتها على كامل ترابها الوطني، والتسليم بوجود بشار الاسد في رئاستها. ذلك أن طرفيـن فقط، روسيا وايران، من بين الاطراف الستة المعنية بالمفاوضات يعترفان فعلياً بوحدة سوريا وبالأسد. لماذا الآخرون لا يعترفون؟

المعارضة السورية لا تعترف بوحدة سوريا، أي بحكومتها المركزية في دمشق، لأن الاعتراف بذلك يعني الاعتراف برئيسها بشار الاسد. بعض أطراف المعارضة، ومن ورائهم السعودية، لا يريدون الاعتراف بالأسد لأن الاعتراف به يعني خسارة «مشروعية» الحرب ضده وضد نظامه، لذا صدر عن منصة الرياض المعارِضة، عشية جنيف، بيان استفزازي ضد الاسد لعرقلة المفاوضات.

تركيا لا تريد الاعتراف، في هذه المرحلة على الأقل، بالاسد لسببين: خلاف شخصي وسياسي بين رجب الطيب اردوغان والرئيس السوري، ومطامع تركيا في اراضٍ سورية لها صلة بسعي انقرة إلى إبعاد اي سيطرة للكرد السوريين عن حدودها.

أمريكا لا تريد الاعتراف بالاسد لأنها ما زالت مشاركة وناشطة في تحقيق مخططٍ قديم – جديد مع «اسرائيل» يرمي إلى تفكيك سوريا إلى جمهوريات موزٍ تقوم على أساس قَبَلي أو مذهبي او إثني.

السعودية وأمريكا وتركيا ترجمت عدم اعترافها بوحدة سوريا بتدابير ووسائل عدّة، ليس اقلها تزويد التنظيمات المسلحة المعادية لها بالمال والسلاح والعتاد والغذاء. كما سمحت تركيا بنقل الأسلحة والمقاتلين عبر حدودها إلى التنظيمات التي تقاتل الجيش السوري. اكثر من ذلك، تضغط أمريكا على سوريا (وتركيا) للقبول باشتراك ممثلي الكرد السوريين في مفاوضات جنيف، بوفد مستقل عن سائر أطراف المعارضة السورية. كما تعارض واشنطن في تعديل نظام نقل المساعدات الإنسانية الاممية إلى الداخل السوري عبر الاردن، في حين تحاول روسيا تعديله في مجلس الامن الدولي كي يضمن مشاركة الحكومة السورية في اجراءاته، كونها صاحبة السيادة على الارض.

روسيا وايران تحترمان سيادة سوريا وتدعوان دائماً إلى احترامها، وتقولان إن أي وجود عسكري لهما في أراضيها إنما جرى ويجري بعلمها وموافقتها. لذلك تعمل روسيا لضمان مشاركة سوريا في نظام توزيع المساعدات الإنسانية الاممية عبر الحدود مع الاردن، وقد تقدمت باقتراح عملي لمجلس الأمن في هذا الخصوص.

أين سوريا من كل هذا الذي يجري داخل اراضيها وعلى حدودها، وفي أروقة قصر الأمم في جنيف وقاعة مجلس الأمن في نيويورك؟

سوريا اعلنت دائماً تمسكها بتحرير جميع مناطقها التي وقعت تحت سيطرة التنظيمات الإرهابية، أو تسللت إليها قوات أجنبية واستقرت فيها من دون موافقتها. لذلك تستمر حرب سوريا وحلفائها على ما تبقّى من مقاتلي «داعش» و»النصرة» في محافظتي درعا والقنيطرة الجنوبيتين، كما في محيط دمشق والغوطة الشرقية. وهي تتحفظ على وجود وحدات أمريكية في منطقة التنف على الحدود بينها وبين العراق، كما في محافظتي الرقة والحسكة في الشمال الشرقي، وتتحفظ ايضاً على وجود قوات تركية في شمال محافظة أدلب، وهي تأمل بانسحاب كل هذه القوات الاجنبية بعد الإعلان رسمياً عن دحر «داعش» و»النصرة» وطردهما من كل الأراضي السورية.

ماذا لو بقيت قوات أجنبية في سوريا بعد إعلان الانتصار رسمياً على التنظيمات الإرهابية؟

سوريا تمسّكت دائماً بمبدأ جلاء جميع القوات الاجنبية عن اراضيها، لكنها لم تعلن بعد ما تنوي فعله اذا ما تلكأت هذه القوات في الانسحاب. غير أن خبراء عسكريين مقّربين من الحكومة في دمشق اكدوا انها وحلفاءها لن يتوانوا عن الضغط، سياسياً وعسكرياً، على الدول التي تنشر قوات في اراضيها من دون موافقتها لحملها على سحبها من دون شروط.

في هذا السياق، يبدو واضحاً أن التكتيك الذي يعتمده الوفد السوري الرسمي، برئاسة بشار الجعفري، في مفاوضات جنيف – 8 والمتمثل في التحفظ على تسريع وتيرة المفاوضات، انما يعكس سياسة دمشق الرامية إلى كسب الوقت اللازم الذي يحتاجه الجيش السوري وحلفاؤه من أجل تحرير ما تبقّى، ولو تدريجياً، من المناطق السورية التي ما زالت تحت سيطرة جهات متمردة على الحكومة السورية أو متواجدة من دون موافقتها على أجزاء من ترابها الوطني.

إذ تكافح دمشق على الأرض وفي الأروقة الدبلوماسية لاستعادة سيطرتها وسيادتها على كامل ترابها الوطني، تلقى دعماً سياسياً وعسكرياً من موسكو وطهران لتحقيق هدفها الإستراتيجي. ويبدو أن لا سبيل إلى إنجاح المفاوضات والتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية المتطاولة إلاّ بإقرار الاطراف المعنيين، كبارهم وصغارهم، بأن التسليم ببقاء الأسد والاعتراف بوحدة سوريا وسيادتها على كامل ترابها الوطني، هو المدخل الصحيح والشرط الرئيس لإنجاح المفاوضات وصوغ الحل السياسي المتوازن والمنشود.

كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى