صفحات المستقبل

جهاد “الراب” الداعشي/ روجيه عوطة

 

 

في “الدولة الإسلامية” أكثر من مغني راب، هاجر من بلاده الى العراق والشام، ملتحقاً بصفوف الجهاديين. نعرف البعض منهم، مثل البريطاني عبد الماجد عبد الباري، أو “جون الجهادي”، والألماني دينيس كوسبرت، او “ابو طلحة”، وإليهما، تُضاف مغنية أخرى، الا أنها ليست من جماعة الراب بل الروك، وهي الانكليزية سالي جونز، او “ام حسين البريطاني”. هؤلاء، وغيرهم من المجهولين، تركوا مجتمعاتهم، ورحلوا إلى “بلاد داعش” للجهاد في سبيل الله.

وبالطبع، أمام هذا الانتقال من مكان الى آخر، ومن نمط حياة إلى ثان، يجد الكثيرون ان فعل هؤلاء عابر، ولا يشير إلى ان المجتمعات التي يعيشون فيها، وتٰعرف بتطورها وحداثتها، مبنية على تقسيمات حادة، تنتج العنف وسلوكياته، وتولد الخشية كخوف بلا موضوع، وفانتازماته. على ان لهذه المجتمعات منافذ عديدة، لكنها غالباً ما تُسدّ، أو تبتلعها النُظم، لا سيما الإعلامية منها، والتي، في حال الفن الاحتجاجي مثل الراب والروك، تروج لأنماط معينة وتقصي أخرى، وتصنع نجماً وتطيح آخر. فالموسيقى التي ظهرت في الضواحي المهمشة والبعيدة من المراكز المدينية، كطريقة لإبداع الرفض والتمرد، سرعان ما حاولت شركات الانتاج القبض عليها، وقد نجحت في توجيهها وربطها بالسوق. وهذا لا يعني ان تلك الموسيقى ما عادت “آنتي-نظامية”، على العكس، إذ ما زال صنّاعها يدخلون حقلها للتعبير عما يعتريهم من مشاعر قاسية، لا يُسمح لهم القول فيها باستمرار.

في هذه الجهة، تُبنى خلفية الموسيقيين الداعشيين، الذين استبدلوا الميكروفون بالسلاح شكلياً. ذلك انهم، منذ بداية إبداعهم، استعملوا الاول كأنه الثاني. مثلما انهم، على ما هو معروف في أوساطهم، وبالنسبة إلى الراب تحديداً، يؤلفون عصابات موسيقية، تشبه العمل المافيوي في تنافسها. فقبل الالتحاق بكتائب او فرق “الدولة”، كان هؤلاء ينتسبون الى مجموعات وتحالفات، تتماثل في الأزياء والسلوك، كما تتزاحم على منصات العرض والتحدي.

وهذا التنظيم بمثابة ضرب من ضروب الانفصال عن المجتمع وسلطاته، والمنسحب على لغة الراب، التي على قول الباحث انتوني بيكو، تنزع نحو قلب اللغة العامة، والتأسيس لقاموس لا يفك معانيه سوى متكلميها. من هنا، يفسر الباحث نفسه كمية العنف الذي تتمحور حوله لغة الراب، بحيث انه تخريب للغة الاجتماعية وتهديد لها. وفي الوقت ذاته، يساعد تلك اللغة الجديدة على بلوغ استقلاليتها. فقسوتها تضرب اللغة العامة من ناحية، ومن ناحية ثانية، تؤسس لقاموس جديد، يذكر بيكو ان بعض شتائمه، بالنسبة إلى المشتغلين بالراب، ليس عبارات نابية، بل تبدو احياناً كأنها تحيات. بعبارة اخرى، تترك لغة الراب اللغة العامة عارية، وتخرج منها كل رمزيتها القمعية، فتستخدمها ضدها، ثم تقفلها في وجهها، فلا يعود المجتمع يفقه معانيها.

بهذه الطريقة، يتحول الراب من غناء الى فعل، ينطوي على كفاح عنيف، يتعدى النص الى مظهر الفنان، الذي ينشر صوره حاملاً بندقية، او رافعاً عصا، فضلاً عن إبرازه عضلاته او جسمه المتماسك على العموم. تالياً، يبدو مغني الراب كأنه مقاتل موسيقي، يروج فنه بتصويرات العنف والغضب. فليس مستهجناً أن تثيره “داعش”، وتجذبه نحوها، لا سيما أن إثارتها تتقاطع، في سياقها الثوري، مع قوة التمرد التي يتسم بها، إضافة إلى أن “الدولة” تبدو فنية في جانبها الإعلامي أو البصري، فضلاً عن تشابه الثياب المتهدلة بين مقاتليها وأرباب الراب. مع العلم أن المغني يتخلى، بهجرته إلى “داعش”، عن صوته، ليحتفظ بعنفه، ويبدل أداته من الميكروفون إلى السلاح. فقد حان وقت تنفيذ اللغة، ومضمونها الإرهابي، الذي يتوجه إلى “الكفار والصليبيين”.

ينتقل المغنون من لغتهم العنيفة إلى عنفهم الفيزيقي، ومن العصابات الموسيقية إلى الفرق القتالية. وبذلك يخرجون من مجتمعاتهم إلى أرض تتيح لهم، تحت عنوان الجهاد، إفراغ قسوتهم معطوفةً على الخشية، التي لطالما شعروا بها من دون أن يحددوا موضوعها. يتحولون إلى “داعشيين”، وكأنهم صاروا ذلك الموضوع المجهول، الذي ينشر الذعر، من دون أن يتعرف عليه أحد سوى في الصور والأخبار التي يبثها الإعلام في مجتمعات أتوا منها إلى الشام والعراق.

في سياق متصل، لا بد من الذكر بأن رئيس مجموعة العمل حول المقاتلين الأجانب في شبكة التوعية الأوروبية حول التطرف، مانغوس رانستورب، أشار في أحد تصريحاته إلى أن “حب المغامرة” يشكل دافعاً من دوافع الهجرة إلى “داعش”، إضافة إلى الإيديولوجيا والتأثر بشخصيات دينية. وربما، من هذه الناحية، يصح القول بأن هذا الدافع ليس منفصلاً عن الخشية. إذ أن المجازفة تبدد الأخيرة، لأنها تخوضها على سبيل التعرف على موضوعها المجهول، الذي، وفي حال الإرهاب “الداعشي”، يصيره الخائض نفسه، فيتحول من خائف إلى مخيف. فلا يتخلص المقاتلون المهاجرون من الخشية، سوى في التعلق بمجهولها. وذلك عبر تمثيله، أو بالأحرى تجسيده بطريقة فعلية، تماماً مثلما ينفذ مؤدّو الراب لغتهم العنيفة، و”يغامرون” في نقل عبارات قاموسها إلى أفعال جهادية في “سبيل الله”، في سبيل هذا “المجهول الكبير”، الذي باتوا جنوده.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى