صفحات سورية

جوانب من الاقتصاد السياسي لسوريا المستقبل


د.رفعت عامر

عملت المنظومة الرأسمالية في سيرورة تطورها على تكييف الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية لمصلحة البعد الاقتصادي، حتى غدا الاقتصاد هو العربة القاطرة التي تجر سائر العربات، وأصبحت البنى الفوقية تتبع البناء التحتي جدليا. إذ كان هم الرأسمالية الصاعدة هو الربح والفائدة والمنفعة. ومع ظهور الرأسمالية ظهرت المفاهيم الحديثة  للدولة والمجتمع والطبقات والأمم .. الخ وظهرت العلوم الاجتماعية وتطورت مختلف النظريات، التي عبرت عن الحاجات الموضوعية لمختلف المراحل التاريخية ،من تطور الرأسمالية في بلدانها التي قد تكون غير مناسبة لظروفنا التاريخية في المكان والزمان. لذلك علينا تبني روح النظرية وامتلاك أدوات وآليات البحث دون النقل الميكانيكي للنتائج التي توصلت إليها تلك النظريات في الغرب , فمشكلات بلداننا العربية التي لم تشهد تحولا رأسماليا طبيعيا، وتعاني انقطاعاً تاريخياً في تطورها نتيجة الصدمة الخارجية، والاحتلال فلم يبق نظاما مجتمعيا تقليديا ∕ نمط انتاج زراعي∕ مع هيمنة بناء فوقي ما قبل قومي∕ قبائلي ,عشائري….الخ ،كما انه دخل المنظومة الرأسمالية العالمية بحالة التبعية, الرأسمالية (الطرفية _او الخراجية كما سماها سمير امين) تتعايش فيها أكثر من نمط ونظام انتاجي .

وهنا يتجلى جوهر الإشكال المنهجي في قراءة واقعنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي انطلاقا من تلك النظريات الغربية, فلا بد من توطين هذه العلوم والإسهام في تطويرها باستخدام المنهج العلمي، لدراسة مشكلات تختلف كليا في مضمونها عن مشكلات التطور التي ظهرت في الغرب, ففي المجتمعات التي لم تشهد تطورا رأسماليا حقيقيا ما زالت العوامل الأديولوجية والتاريخية والسياسية والاجتماعية تتغلب على العامل الاقتصادي، ولا بد لرؤية اقتصادية علمية أن تأخذ في حسبانها هذه العوامل والأبعاد لتحدد مدى تأثيرها في تطور المجتمعات العربية،وأخص بالذكر منها سوريا ،البلد الذي يعاني بالاضافة الى ماذكر أعلاه ،من نظام سياسي له من الخصوصية والفرادة ما لم تشهده بلدان عربية اخرى ،وإن كان نظام صدام حسين ومعمر القذافي هما الاقرب في تشبيهيه.

يعاني المجتمع السوري من نقص التطور الرأسمالي وتشوهه واقترانه بالفساد ومن هشاشة التحديث، وهذا ما يجعله عرضة للضغوط الخارجية وآليات الاستتباع، فلا بد من العمل على تسريع وتائر التطور والانتقال من المجتمع التقليدي، المسمى مجتمعاً أهلياً، إلى مجتمع مدني حديث، وذلك بتوفير الشروط المادية والعلمية والقانونية اللازمة والكافية لازدهار الأعمال الخاصة، في الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات والسياحة والتعمير والإنشاء والحرف اليدوية والمهن العلمية، وتعزيز الطابع الاجتماعي لوظائف الدولة ومؤسساتها العامة. وتحفيز مشاركة المواطنات والمواطنين مشاركة فعلية في إعادة بناء الاقتصاد الوطني، وإدارة الثروة البشرية والمادية، على أسس الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص ومقتضيات العدالة الاجتماعية. وإعادة توزيع الدخل الوطني على نحو يضمن تحسين نوعية الحياة وشروطها المادية والروحية لمختلف الفئات الاجتماعية، ولا سيما الفئات الفقيرة في المدن والأرياف، وتحقيق التوازن بين العمل ورأس المال، وبين الأجور والأسعار، بما يضمن تنمية القدرة الشرائية للمواطنين وتمكينهم من الادخار، إذ لا إنتاج بلا استهلاك، ولا تنمية بلا استثمار، ولا استثمار بلا ادخار. فإن تكامل الادخار والاستثمار، كتكامل الاستهلاك والإنتاج، مما يضمن استقلال الاقتصاد الوطني ونموه وتطوره. وهذا يقتضي تأكيد المسؤولية الاجتماعية، القانونية والأخلاقية، للشركات الخاصة، سواء ما يتعلق بالتكليف الضريبي أو بحماية البيئة أو بالإسهام في تخفيف معاناة الفئات الأكثر فقراً، وتشجيع الشركات المساهمة والمشاريع الصغيرة والإنتاج المنزلي في مختلف القطاعات، وتوفير البنى التحتية والدراسات الفنية ودراسات الجدوى والقروض الميسرة لها. كما يقتضي الاهتمام بالخدمات العامة، ولاسيما الصحة والتعليم والمواصلات والاتصالات والطاقة المتجددة، وتطوير السياحة الطبيعية والتاريخية والدينية والمدنية، على اعتبارها صناعة وثقافة، ومدخلاً إلى التواصل الإنساني، ومصدراً مهماً من مصادر الدخل الوطني. إن اقتصاد الكفاف والسحت من جهة والاحتكار المافياوي والهدر والفساد من جهة أخرى لا يبني مجتمعاً مدنياً ودولة وطنية، ولا يفضي إلى نظام ديمقراطي.

وإذ استشرى الفساد الإداري والمالي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي في الإدارة المدنية والمؤسسة العسكرية والأمنية ومؤسسات الإنتاج والتوزيع الحكومية، بات عبئاً وخطراً على الاقتصاد الوطني، وامتدت أضراره إلى الصحة العامة والبيئة الطبيعية، وتنظيم المدن والبلدات، وأملاك الدولة، والمساحات الخضراء، والثروة المائية .. وعزز مبدأ الامتيازات المقرونة بالولاء الشخصي وأشكال الولاء ما قبل الوطنية . تلح الحاجة إلى سياسة وطنية لمكافحة الفساد والهدر والاستثمار العشوائي والتهرب الضريبي تتولاها هيئة وطنية تخضع لرقابة البرلمان ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام.

وفي سبيل ذلك لا بد من تطوير نظام الإدارة المحلية، وتوسيع صلاحيات المجالس المحلية، على نحو يكفل التخفيف من شدة الإدارة المركزية والنظام الأوامري، ويضمن التنمية البشرية والاقتصادية المتوازنة، ويحقق مبدأ حكم الشعب نفسه بنفسه، بانتخاب المحافظين ومديري الدوائر الرسمية من أبناء المحافظة ذاتها، على أسس الكفاءة والمؤهلات العلمية والأخلاقية، وإعادة هيكلة مجالس الإدارة المحلية ومجالس البلديات ،وتحديث شروط انتخابها وفق الوظائف المنوطة بها، وتمكين الصحافة ووسائل الإعلام العامة والخاصة ومنظمات المجتمع المدني من مراقبة أدائها.

وأساس ذلك كله إصلاح التعليم، بل إعادة بنائه على أسس علمية وأخلاقية راسخة، وفق المعايير العالمية الأحدث، وتحسين بناه التحتية وتطوير مناهجه وتحديث وسائله وأساليبه وتأهيل العاملين فيه تأهيلاً يتناسب والطرق التربوية والتعليمية الحديثة. ودمج العلم بالعمل، وتنمية اقتصاد المعرفة، وتشجيع الإبداع، وتوفير الموارد اللازمة للبحث العلمي، في مختلف المجالات.

فلا يجوز تسييس التعليم، أو جعله مجالاً للتبشير الأيديولوجي قومياً كان أم اشتراكياً أم إسلامياً، أو مجالاً للتعبئة والتحشيد لأي اتجاه فكري أو سياسي، ما يعني حظر أي نشاط أيديولوجي وسياسي وأي تنظيم من تنظيمات الضبط والتأطير في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي، وإطلاق حرية الشباب في تشكيل التنظيمات والجمعيات العلمية والفنية والأدبية والنوادي الرياضية والمنتديات الفكرية وضمان حق أي منهم في الاختيار.

وهذا كله لن يكون متاحا قبل إزالة هذا النظام الجاثم على صدور السوريين ،الذي سرق الدولة واستباح المجتمع وعطل الطاقات وأهدر الموارد .

الدكتور :رفعت عامر

استاذ جامعي وباحث اقتصادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى