صفحات الثقافة

جويس منصور.. زهرة الشرّ وشاعرته/ أنطوان جوكي

 

تفلت الشاعرة المصرية جويس منصور (1928 ـ 1986) من التعريفات التي تخدم عادةً كتابة تاريخ الأدب أو الفن. من دون أن تقصد، أو حتى تهتم بذلك، تتجاوز هذه التعريفات وتمحوها. يتعذّر الإمساك بها لأن حيوات كثيرة تجتمع في حياتها، وبعض من هذه الحيوات تبدو متضاربةً في ما بينها.

 

ولعل هذا التحدّي تحديداً، إلى جانب الشغف الكبير بشخصية هذه الشاعرة، هو الذي دفع زوجة ابنها، المؤرّخة ماري فرانسين منصور، إلى وضع كتاب حولها، صدر حديثاً بعنوان “جويس منصور ـ حياة سوريالية” عن “دار فرانس أمبير” الباريسية. بحثٌ غنيّ بالمعطيات والتحليلات الثاقبة، ارتكزت ماري فرانسين فيه على أرشيف الشاعرة، وأيضاً على شهادات بعض المقرّبين منها الذين ما زالوا على قيد الحياة. من هنا أهميته.

 

جويس منصور، كما نتخيّلها في الثلاثين من عمرها، شابة سمراء تتمتع بأناقة وجمال كبيرين، كما يتجلى ذلك في صورها أو في شهادات من عرفوها آنذاك. في الوقت ذاته، هي شاعرة تعكس أعمالها القارصة والجارحة لامبالاتها باللياقة، وتبدو مسكونة بهواجس سوداوية، حاضرة لاعترافاتٍ بلا مواربة أو تحفّظ، مستعينةً بمفردات جسدية فجّة. لا شيء في المرأة أو الرجل لا تتجرأ على تسميته: لا الأعضاء ولا الأحاسيس ولا الرغبات.

 

إذاً، من جهة، لدينا امرأة فاتنة بجسد تتألق عليه ملابس أكبر مصممي الأزياء؛ ومن جهة أخرى، لدينا مراقِبة مقلِقة لا تعرف الحياء وذات لغة صاعقة. بودلير تنبّأ بهذا النوع النسائي: لا نقصد النوع الذي تحدّث عنه الشعراء الرمزيون، أي المرأة الملائكية والعشيقة المجرِّبة في جسد واحد، بل المرأة الفاتنة التي تعرف كيف تبرز جمالها، وشاعرة العدم معاً. جويس منصور هي زهرة الشر وشاعرته في كائن واحد.

 

لكن هذه الازدواجية ليست الوحيدة أو الأكثر إرباكاً لنا. نموذج الشاعر الحديث، منذ الحقبة الرومنطيقية وحتى اليوم، مبدعٌ فقير ومستوحد، يسخر منه المجتمع أو يتجاهله، مثل بودلير، رامبو، لوتريامون؛ يسير أحياناً على حافة الجنون، أو حتى داخله، مثل نِرفال، أو أرتو.

 

باختصار، لا نتصوّره إلا ملعوناً. وإن اختلط بالآخرين فلطلب المساعدة، ولو كلّفه ذلك الرفض وغلاظة الآخرين. جويس منصور عكس هذا النموذج. لم تتردد على صالونات الآخرين، بل أحيت صالوناً في منزلها. كانت غنية، محاطة بأصدقائها المعجبين جميعاً بها، تعيش حياة مترفة، في أحد أجمل الأحياء الباريسية، وتجمّع، مع زوجها سمير، الأعمال الفنية الحديثة والمنحوتات “البدائية”. وبالتالي، لا تتوافق هذه المبدعة إطلاقاً مع صورة الشاعر الحديث.

 

ولو أنها رفضت الأمومة لتوافقت، في هذه المسألة على الأقل، مع الأسطورة؛ لكنها أنجبت طفلين ولم تهملهما أو تهجرهما، مجبرةً المؤرّخ على الاعتراف بإمكانية أن تكون شاعرةً ذات حدّة وحشية وسوداء، وفي الوقت ذاته، امرأةً فاتنة وزوجة وأماً حنونة.

 

نعرف ارتباط جويس منصور الوثيق بالحركة السوريالية، لكن ما يجهله كثيرون هو ابتعادها كل البعد عن نمط حياة السورياليين ومواقفهم. فهي لم ترفع أبداً شعار الثورة السياسية، وما عاشت على هامش المجتمع الرأسمالي، ولا حتى تمرّدت على عائلتها. ومع ذلك، وقّعت أكثر البيانات التحريضية والانتهاكية حدّةً، واستضافت في منزلها “تنفيذ وصية الماركيز دو ساد”، أي الحفل الشهير الذي نظّمه السورياليون احتفاءً بذلك الكاتب الفضائحي. وبالتالي، ندين لها باللحظات الأكثر إشعاعاً للرمزية الجنسية في زمنها، وبالتعرية الأقل حياءً للأجساد والرغبات.

 

ما الذي حصل لجويس منصور؟ كيف تعايش هذا الكم من الكائنات المختلفة داخل جسدها وروحها؟ الأجوبة عن هذين السؤالين لا يمكن أن تكون إلا جزئية. “الآنسة الغريبة”، كما تسمّي نفسها في إحدى قصائدها، ستبقى غريبة.

 

طبعاً لعبت حوادث حياتها، اقترابها الباكر من الموت، تجربة المنفى الفجائي، دوراً في تكوينها. لكنّ كمّاً من النساء اختبرن أحداثاً مشابهة ولم يصبحن جويس منصور. لذا، لا تكفي هذه التفسيرات لمحاصرة شخصيتها. ومع ذلك، كان لا بد من خوض هذه المغامرة، مغامرة قراءتها على ضوء أحداث حياتها. وهو ما تقوم به ماري فرانسين منصور، بمهارة وإلهام كبيرين في كتابها الذي لا تستسلم فيه للطُرَف الحميمة ولا للمديح الغنائي، بل تعرض بوضوح وموضوعية كل ما يمكن أن نعرفه اليوم عن جويس منصور، بعد التنقيب في أعمالها الشعرية ومراسلاتها وشهادات مَن عاشرها. بحثٌ نجد فيه معلومات إضافية كثيرة حول تاريخ السوريالية في عقدَيها الأخيرَين والموقع الذي احتلّته الشاعرة داخل هذه الحركة.

 

وفعلاً، باستثناء المبدعات الشهيرات، مثل ليونورا كارينغتون وليونور فيني وفالنتين هوغو وميريل أوبنهايم، شكّلت النساء اللواتي رافقن الحركة السوريالية إما موحيات، أو رفيقات درب شعراء هذه الحركة وفنانيها.

 

أما جويس منصور فاحتلت موقعاً خاصاً. فمع أنها كانت في قلب السوريالية، لكن السلطة التي مارستها ـ سلطة فتنتها ـ لم تكن على حساب استقلاليتها. صديقة أندريه بروتون وحافظة أسراره، كانت على صلة يومية مع رائد السوريالية بين عامَي 1956 و1966، وشاركت في مجلات مجموعته وكتالوغاتها ومعارضها واجتماعاتها.

 

ولا عجب في افتتان بروتون ورفاقه بها، فإلى جانب جمالها الملغز، كانت شاعرة كبيرة، تشكّل مجموعاتها الشعرية مسرح قسوة تحتفي على “خشبته” بالألم وبشاعة العالم، وتُحوّل نزوة الموت إلى حركة خلّاقة. بكتابتها الانتهاكية، كانت تضمّد جروحها وتدجّن الوحوش التي تسكنها، وبالتالي تتجنّب الاستسلام لعذاباتها. مسعاها الشعري إذاً تعزيمي و”بودليري”: “يا ألمي، أعطني يدك”.

 

سرّية في ما يتعلق بحياتها الشخصية، كانت تكتب بلا مواربة أو تجميل. كتابة جسدية يختلط فيها القلق بالرغبة. وتشخص بطريقة شبه ذكوريّة بالشرّ والموت. ولا عجب في ذلك طالما أنها كانت تعيش محاطةً بالرجال وتنسج معهم علاقات صداقة صريحة ووثيقة: بروتون طبعاً، وأيضاً هنري ميشو وأندريه بيار دو مانديارغ وبيار أليشينسكي وروبرتو ماتا وخورخي كاماشو وويلفريدو لام وألان جوفروا وميشيل ليريس وجان جاك لوبيل… ومن تَعانُق مخيلتِها بمخيلاتِهم انبثقت أعمال مشتركة مدهشة في غرابتها.

 

ولأن الحياة شكّلت، بالنسبة إليها، امتحاناً قاسياً، منذ طفولتها، جاءت أعمالها الشعرية على شكل تعرية فاضحة؛ تنخرط قصائدها في الواقع وتشكّل، في الوقت ذاته، صدى لأحلامها، كي لا نقول كوابيسها، من دون أن يكون ممكناً فصل اليومي عن الحلمي. كتابة صورية ترسم رؤاها الوحشية، المنحرفة، الفريدة، وتطغى عليها تلك الدعابة السوداء التي ثمّنها السورياليون كثيراً.

 

مختارات من شعر جويس منصور

لأنّ بشاعتهم تصنع جمالي

جويس منصور

 

أرفعكَ بذراعيّ

للمرة الأخيرة

أضعك بعجلة في نعشك الرخيص

أربعة رجال يرفعونه على أكتافهم بعد تسميره

على وجهك الممتقِع، على أعضائك القلقة.

يهبطون الأدراج الضيّقة وهم يجدّفون.

وأنت تتحرّك في عالمك الضيّق

رأسك منفصل عن حنجرتك المقطوعة

إنها بداية الأبدية.

 

 

*

 

 

شعرها الأصهب له رائحة المحيط.

شمس الغروب تنعكس على الرمل الميت.

الليل يتمدد على سريرها الاحتفالي

بينما تستقبل المرأة اللاهثة المرتجفة

بين ساقيها المثنيتين

القبلات الأخيرة لشمسٍ تموت.

 

 

*

 

 

جسدكِ الصغير الهزيل بين شراشفه الناعمة

غرفتكِ الزهرية المتدثّرة بالصمت

عيناكِ اللتان تتدحرجان بين الأثاث الغني

تصطدمان في العتمة بجرذان ميتة على الوسائد

ونحن الذين ننتظر انتفاضتك الأخيرة

لتمزيق وصيتكِ.

 

 

*

 

 

امرأة واقفة في مشهدٍ عارٍ

الضوء الباهر على بطنها المنتفِخ

امرأة وحيدة امرأة غنية بلا عيب ولا صدر

امرأة تصرخ ازدراءها في أحلام بلا راحة

سيكون السرير جحيمها.

 

 

*

 

 

توفّيتِ منذ أمس يا أمي

حرّريني من عذاباتك

أنتِ متجمّدة من الفزع تحت قناعكِ الزجاجي

حرّريني من قبلاتكِ الأمومية

التي تزحف على جسدي الراكع

مثل بزّاقات

ساعديني يا أمي

لأن عينيّ تغوصان في مستنقع الرغبة

حرّريني من ظّلك الثقيل

مبيضي المليء بالرمل يختنق بين يديكِ

شبع الموت بطيء

حرّريني من غيابكِ

حرّريني من المطر.

 

 

*

 

 

انسَني

كي تتنشّق أمعائي الهواء العليل لغيابك

كي تتمكن ساقاي من السير دون أن تبحث عن ظلّك

كي يصير نظري رؤيا

كي تستعيد حياتي أنفاسها

انسَني يا إلهي كي أتذكّر.

 

 

*

 

 

فتحتُ رأسك

كي أقرأ أفكارك

قضمتُ عينيك

كي أتذوّق رؤيتك

شربتُ دمك

كي أعرف رغبتك

وجعلتُ جسدك المرتعش

طعامي.

 

 

*

 

 

تلقَّ صلواتي.

تلقّف أفكاري الملوّثة.

نقّيني كي تنفتح عيناي

كي ترى ابتسامة القتلة الداخلية.

وما أن أصير نقيّة

يا يهوذا اصلبني.

 

 

*

 

 

ادعيني لتمضية الليل في فمك

قصّ عليّ فتوة الأنهار

اضغط لساني على عينك الزجاجية

اعطني ساقك كمرضّعة

ثم فلنَنَم، يا شقيق شقيقي،

لأن قبلاتنا تموت بسرعة أكبر من الليل.

 

 

*

 

 

ثمة دم على صفار البيضة

ثمة ماء على جرح القمر

ثمة مَنيّ على وزيم الوردة

ثمة إله في الكنيسة

يغنّي ويملّ.

 

 

*

 

 

كنتَ جالساً براحةٍ

على دبٍّ أسوَد

مزّقتَ أشلاء جلدٍ

بأصابعك المشعّة في وجه السماء المدمّاة

وبينما كنتَ تخلق عالماً جديداً

كان الثلج يتساقط.

 

 

*

 

 

مكايد يديك العمياء

على ثديي المرتعش

الحركات البطيئة للسانك المشلول

في أذنيّ المثيرتين للشفقة

كل جمالي الغارق في عينيك اللتين بلا بؤبؤ

الموت في بطنك الذي يأكل نخاعي

كل هذا يجعل مني آنسة غريبة.

 

 

*

 

 

النهار يموت معلّقاً على الجدار

وأنا في سريري

(لا تهتاج على كرسيك)

قدماي قطعتا ثلجٍ لا أحد يحطّمهما

ساقاي نسيتا قفزاتهما في المرج

فقط فمي ما زال يتألم ويرتعش.

 

 

*

 

 

سئمتُ الجرذان

التي تأكل الأجنّة والشمندر بجشع

سئمتُ الأطباق.

سئمتُ الأسماك ذوات الحسك الشرير

الذي يرقص في حنجرتي.

سئمتُ الفقراء

سئمتُ اللعنات

التي أسكبها على رؤوسهم

من دون أن أرحم القُرْع.

سئمتُ الجرائم

سئمتُ قبري

الذي ينتظرني في ظلّ الغد.

سئمتُ كل شيء

وقرفي مات من السأم.

 

 

*

 

 

فتح فمه الذي لا شفتين له

كي يحرّك لساناً ضامراً.

خبّأ عضوه المعطّر

بيدٍ مزرقّة من الموت والخجل

وبخطوة ثابتة لها وقْعُها

عبر رأسي باكياً.

 

 

*

 

 

بيضة على السقف

كانت تروي قصص حبّها

لثدي الليل، الناعم

والنتِن.

عينُ ثورٍ في ثقبٍ

كانت تقضي الشتاء مجهولة الهوية

بين الدبب.

وأنا، من دون صوفٍ ولا إبر، كنتُ أحوك

ثياب اللاواقع الداخلية

في انتظار المسيح.

 

 

*

 

 

في المخمل الأحمر لبطنك

في سواد صرخاتك السرّية

دخلتُ…

في الساتان الأحمر لموتك

في رواق عينيك المعتم

دخلتُ…

والأرض تتأرجح وهي تدور وهي تغنّي

ومن السعادة رأسي ينفكّ.

 

 

*

 

 

أنتِ فتاة عاقلة

في فستان من نسيجٍ قطني رقيق وحذاءٍ مدبَّب

أنتِ الصباح الثالث للشجرة المقطوعة

أنتِ رغبة وغضب

البزّاقة على الحصية

الرجل الوحيد على الشاطئ

الذبابة ذات الأرجل الملتصقة على رقعة

الجريمة

أنتِ الفتاة العاقلة التي تغنّي البذاءة

التي تطفئ القربان ببولها

وتمنح عذريتها مقدّمةً للصيف.

 

 

*

 

 

غنية تحت شَعري

أصلّي برصانة

أحلم

بشريطٍ عريض من ظل

يفصل

وجهك عن يقينه السيئ

يقع الحزن ببطء

رائحة عقب سيجارة

مبيضة كاسدة

تانغو

جثّتي ترتكز عاريةً

بلا قيود فائضة

ولا يأس عبثي

لا يمكن أن يكون حاجزٌ بين الثلج والليل.

 

 

*

 

 

امرأة جالسة أمام طاولة مكسورة

الموت في أحشائها

لا شيء في الخزانة

متعبة من كل شيء، حتى من ذكرياتها

تنتظر ونافذتها مفتوحة

نور الجنون

ذي الألف وجه.

 

 

*

 

 

سأصطاد روحك الفارغة

في نعشك حيث يتعفّن جسدك.

سأمسك بروحك الفارغة

سأقتلع جناحيها المرفرفين

أحلامها المتخثّرة

وأبتلعها.

 

 

*

 

 

قلبك المقطوع

رأسك الذي ينزف

مفصولاً عن جسدك

مكشّرَ الوجه وضريراً

عنقك الذي ينزف قطرات جنون

عيناك اللتان تذرفان دموع رغبة

وأنا التي تشرب

حياتك الراحلة.

 

 

*

 

 

عيوب الرجال

ميداني

جروحهم حَلوتي الفاخرة

أحبّ مضغ أفكارهم الدنيئة

لأن بشاعتهم تصنع جمالي.

 

 

*

 

 

الدخول المفاجئ للبربري

أستشعر موتي المقبل

هنا، على الكنبة التي تتناثر عليها حبوب الأدوية

بين الخشب الميت

ومائدة الحائط المغرورة بزخرفتها المذهّبة بإفراط

إبهامك سيعبر القشرة

سيحاصر الهاربَ في فروتها المعطّرة بالمِسك وذات الجِلد الزهري المشدود

أشعر أنني سأبكي قبل نهاية العشاء

لا أريد أن أستيقظ على الكنبة وحيدةً

تائهة.

 

 

*

 

 

لا نعيش مع الأموات

ينزلقون على البساط النقّال للنسيان

نحو مراعٍ سوداء

يرتجفون ويحلّقون في ريح المساء

عيونهم تفرغ مثل مغطَسٍ

عوراتهم الضامرة تتدلّى

بين سيقانهم الغارقة

في وحل الذكريات

لا نعيش مع الأموات

أوراكهم المبطّنة

تضحك من جهودنا العبثية

تنهّداتهم الجائعة تمزّق الهواء

كانت لنا معهم قصص حبٍّ

لكنهم لا يتذكّرون

لأنهم منشغلونَ

بمتعة حِدادهم.

 

 

ترجمة عن الفرنسية: أنطوان جوكي

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى