صفحات الحوار

جيجك: على أوروبا إعادة توكيد قيمها في مواجهة أزمة اللاجئين

 

© أ ف ب

نقدّم فيما يلي ترجمة كاملة للحوار الذي أجراه الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك مع مجلة “تيليراما” الفرنسية التي استوضحت منه مواقفه المصنفة “مثيرة للجدل” فيما خص أزمة اللاجئين والهجرة وقضايا التباين الثقافي والتسامح والإرهاب والقيم الأوروبية والتي ضمنها كتاباً صدر مؤخراً عن Fayard بعنوان “صراع الطبقات الجديد. الأسباب الحقيقية للإرهاب واللجوء”.

لديكم موقف ناقد بشدة لما تسمونه الموقف “الإنساني” لليسار حول مشكلة اللاجئين.

أنا أرفض هذه المقاربة الإنسانية التي تهيمن في أوساط اليسار المهادن وتحيل إلى تفسير الوضع بالأخلاق. هي مقاربة تبسيطية في مقابل العنف العنصري ضد المهاجرين. هناك الملايين من اللاجئين، الفقراء واليائسون، الذين يجب بالطبع فعل شيء ما لهم. لكن الحل لا يكمن في فتح الحدود كلها لاستقبالهم كلهم في أوروبا، فهذا من شأنه أن يتسبب في كارثة ضخمة. وبمعنى ما فقد وقعت الكارثة بالفعل، خاصة في مناطق البلقان، على تلك الطريق بين اليونان ومقدونيا وصربيا وكرواتيا وسلوفينيا والنمسا، حيث سادت الفوضى، الأمر الذي أدى بشكل منطقي إلى بروز انعدام الثقة والاحتجاجات وأشكال من القلق. لماذا إذن لا تتم استضافة اللاجئين بشكل أكثر تنظيماً، أكثر تنسيقاً؟

أو حتى بشكل عسكري كما تقترحون؟

قد تكون تلك أخيراً هي الفرصة المناسبة لاستخدام محدد جداً للجيش الذي يضم آلافاً من الشبان المتمتعين بحالة بدنية ممتازة. يجب إقامة مراكز استقبال للاجئين بالقرب من بؤرة الأزمة نفسها في سوريا واليونان وليبيا، مهمتها إحصاء اللاجئين والتعرف عليهم وتسجيلهم، والنظر في إمكانيات الاستيعاب ثم تنظيم عمليات نقلهم إلى بلدان اللجوء على متن القوارب أو الطائرات. وحده الجيش قد يتمكن من إنجاز مهمة كهذه بشكل منظم.

برأيكم فإن اليسار مخطئ كذلك بقدر ما هو اليمين الشعبوي المعادي صراحة للمهاجرين؟

نعم، بمعنى أن هذا اليسار المهادن يحاول التستر على المواضيع الحساسة، ويرفض مناقشتها في العلن. من الواجب الحديث صراحةً عن بعض المشكلات الثقافية، وعن تباينات موجودة في صفوف اللاجئين. بعض اللاجئين يتحدرون من الطبقات الوسطى والمتعلمة، لكن لدى أغلب المسلمين أسلوب حياة تقليدي أبوي يتسبب بطبيعية الحال في صعوبات وغالباً ما يظهر غير منسجم مع المفهوم الغربي لحقوق الإنسان. إن التكتّم على المشاكل وإنكار وجودها يعني تقديم الحجج للمعادين للمهاجرين وهذا يخدم مباشرة اليمين المتطرف الذين يعيش بالفعل في نوع من البارانويا الشاملة.

ما هي المشاكل التي يجب التطرق لها؟

قضية أن بعض المسلمين لا يتحملون مجتمعاتنا المفتوحة والمتسامحة التي تدافع عن حقوق المرأة والمثليين الجنسيين. وبشكل أكثر تعميماً (فهم لا يتحملون) هذا الأسلوب من الحرية في بلداننا المميز بكونه فردي. في ألمانيا، في السويد أو في هولندا، هاجم مسلمون مسيرات لمثليي الجنس. لمنع النزاعات يجب أن توضع قواعد صارمة حول التسامح تجاه أسلوب حياة الآخرين. ولكن أين يجب أن ينتهي التسامح؟

مثلاً: يبدو لي أمراً طبيعياً ونابعاً من الاختلاف الثقافي أن يحصل بعض الأطفال في مطاعم المدارس الابتدائية على طعام من دون لحم الخنزير. لكن أن ينتقل البعض إلى مستوى أعلى بالسعي إلى منع لحم الخنزير بالمطلق، فهذا غير ممكن. أن ترفض بعض العائلات السماح لبناتها بالذهاب إلى المسبح أو المشاركة في نشاطات مائية، لم لا، لكن رفض ارتداء جميع الفتيات للتنانير القصيرة بحجة عدم إثارة الأولاد، هذا لا. وكما قال جان كلود ميلنر، الذي قدم مؤخراً الى ليوبليانا، فليس جميع المسلمين ضحايا غير فعالين، لدى بعضهم مشروعات نشطة. ومنهم من بدأ يتحرك في هذا الاتجاه.

كرستم فصلاً من كتابكم لأحداث كولونيا.

كانت تلك الأحداث نوعاً من الطقس الكرنفالي الذي تواتر وقوعه سابقاً كما في ميدان التحرير في مصر أو في رام الله في فلسطين. ما وقع لم يكن دائماً حالات اغتصاب بل بعض المضايقات الصغيرة أحياناً. أود أيضاً أن أقارن تلك الأحداث بطقس وقع في باريس في سنوات 1730 تضمن مجازر وتعذيب بحق القطط وهجمات مباشرة قام بها العمال المتدربون في المطابع ضد الأسياد البرجوازيين وزوجاتهم اللواتي كن مولعات بهذه الحيوانات. لقد ارتبطت القطط بالجانب الأكثر حميمية من الحياة المنزلية: الجنس.

يعطي الضحايا وأولئك الذين ينبذهم المجتمع في كولونيا ومدن أخرى شكلاً عدمياً وعدوانياً وفاحشاً لأوضاعهم عبر استهداف جنس النساء. هم يعرفون جيداً ما يقترفونه وهم مسؤولون عما يقترفونه. ولذلك فإن إرادة “تعليمـ”ـهم وتنويرهم حول عاداتنا ومكانة المرأة في مجتمعاتنا هو أمر ساذج للغاية. هذه مشكلة تعود إلى الاحتكاك بين أساليب الحياة؛ لا يمكن القيام بذلك في بلادنا وهذا بالضبط ما يجعلهم يفعلونه. يجب الحديث بصراحة عن هذه القضايا ووضع قواعد. هذه هي معاداة العنصرية الحقّة. إن لم نفعل ذلك فنحن نتجه نحو انفجار.

تقولون رغم ذلك أن الأمر لا يتعلق بصراع الحضارات.

في الواقع، ليس الأمر صراع حضارات بين الغرب المسيحي والإسلام المُرَدْكل (جُعل راديكالياً) بقدر ما هو صراع في داخل كل حضارة: السنة ضد الشيعة في العالم العربي؛ الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ضد روسيا. إن مأساة بلد كسوريا هو في أنه تحوّل إلى واجهة خاوية تمارس عبرها القوى الكبرى صراعاتها. وتزعم كل من هذه القوى أنها تحارب “داعش” في سوريا بهدف النيل بشكل أفضل من عدوها الحقيقي. كل شيء يتحرك عبر مصالح جيوسياسية، خاصة منها ظهور محور جديد مكون من تركيا وإسرائيل والعربية السعودية لمحاربة النفوذ الإيراني.

لقد وضع مشهد (معاناة) اللاجئين في الواجهة، ولكن من الضروري القيام بـ”زوم آوت” بواسطة الكاميرا للحصول على مشهد أكثر اتساعاً، أكثر عمومية. عندها ما سيظهر هو مسؤوليتنا المطلقة “في الحساب الأخير” إن أردنا استخدام المفردات الماركسية. فنحن ندفع ثمن التدخلات الغربية لفترة ما بعد 11 أيلول وخاصة الاحتلال الأمريكي للعراق. لذلك يجب معالجة الوضع الذي دفع اللاجئين إلى الفرار من بلادهم، بدلاً من التعامل معهم كموضوعات للمساعدة الإنسانية.

أنتم تدينون كذلك ميل اليسار لنقد المركزية الأوروبية.

في الواقع إن انتقاد المركزية الأوروبية، المأخوذة والاستعمار كشيء واحد، هو أمر شديد الرواج. يقول البعض أن الفكرة الأوروبية عتيقة ومتهالكة، في الوقت الذي يريد فيه حالياً آلاف الأشخاص القدوم إلى أوروبا. ثمة مفارقة غريبة هنا. ولكن في العالم كما هي حاله اليوم، حيث هناك من جهة رأسمالية أنجلوساكسونية فظة جداً ومن جهة أخرى رأسمالية متسلطة جداً تهيمن في الصين، تركيا أو روسيا، لا أزال أفضل أوروبا.

إن انتقاد التراث الأوروبي يعني انتقاد أثمن ما لدينا، أي النسوية والمساواة والتضامن ودولة الرفاه والحريات الدينية وحماية الحرية الفردية ضد الضغوط الجماعية، كل هذه القيم التي يجب علينا إعادة توكيدها عالياً وبقوة فيما يخص أزمة اللاجئين دون خشية أن تبدو متمركزة أوروبياً.

ينبغي أن لا ينسى أن الجهاز النظري المستخدم في انتقاد تجاوزات الليبرالية الأوروبية يأتي مباشرة من أوروبا. بهذا المعنى أستطيع القول بشكل استفزازي أن الكليّة Universalisme هي فكرة أوروبية. في التقليد الأوروبي، النقد الذاتي الراديكالي كان حاضراً على الدوام. أوروبا هي الحضارة الوحيدة التي تشتمل على الشك في ذاتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى