صفحات الثقافة

جيرمين التي ضاعت في نيويورك/ حازم صاغية

 

 

لم يكن من السهل التعرّف إلى عمر جيرمين. كان أمرها يشبه الأحجية: هل تعرف عمرها، كان يسألنا يوسف، ابن شقيقتها، واثقاً من أنّنا لن نعرف.

فجيرمين التي صدمتها سيّارة وهي لا تزال طفلة، نمت نموّاً متفاوتاً كنموّ العشب البرّيّ. جسمها ظلّ صغيراً ورفيعاً كأنّه جسم تلميذة ابتدائيّة تشارك في مباريات مدرسيّة للركض، لكنّ رجليها كانتا أطول ممّا يحتمله ذاك الجسد الضئيل. وبين أفراد البيت الآخرين، وكلّهم ذوو قامات ضخمة، بدت جيرمين أشبه باللعبة التي تتنقّل وسط ظلالهم. أمّا عقلها فتوقّف عند ما كانه في لحظة سابقة، أو ربّما رجع إلى زمن يسبقه. إلاّ أنّ جيرمين التي كانت يومذاك في الخمسين، امتلكت حكمة تقودها، في غالب الأحيان، إلى الحكم الصائب. فهي، بفراسة عجيبة، كانت تميّز الخير عن الشرّ، والخيّر عن الشرير. ولم تكن تخطئ إلاّ نادراً، إذ تجيء دوماً أحداث تؤكّد أنّها كانت سبّاقة في معرفة الصواب.

وهي حين تتحدّث، كانت تردّد عبارات طفليّة في معناها كما في لفظها. إلاّ أنّها كانت تبدي استعدادات طيّبة لتعلّم كلمات جديدة وإن استخدمتها بكثير من التصرّف. وأذكر من تلك المفردات كلمة «بورجوازيّة» التي طرأت على بيتهم مع اعتناق يوسف للماركسيّة واستقباله في البيت أصدقاء يردّدون ذاك المصطلح.

وبالفعل صارت جيرمين تتّهم من لا تحبّهم ممّن يتردّدون على البيت بأنّهم بورجوازيّون، أمّا الذين تحبّهم، ولسبب ما كنتُ في عدادهم، فكانت تصفهم بأنّهم غير بورجوازيّين.

وهي كانت تكره طلال بقدر ما تحبّني، فتسمّيه ضلال، من غير أن تعرف الفارق بين الاسمين، وكانت تصفه بأنّه بورجوازيّ، علماً بأنّ طلال الذي ترك المدرسة آنذاك ولم يجد عملاً، كان يستدين منّي ومن غيري أجرة سيّارة السرفيس التي تنقله من بيته إلى بيت جيرمين.

وهي عمّمت وصفها هذا فكانت تطلقه على باعة الحيّ الجوّالين الذين يقصدون بيت يوسف. ذاك أنّ أمّه ليلى أنشأت نوعاً من تقسيم العمل الضمنيّ بينها وبينهم: هم يأتون حاملين معهم حاجة البيت إلى الخضار والفاكهة، والبيت يوفّر لهم الراحة والنوم أحياناً. إلاّ أنّ جيرمين أصرّت على إعمال فرزها الدقيق، فاعتبرت بائع البطاطا بورجوازيّاً، وهي التهمة التي برّأت منها بائع البطيخ.

وقد روى لي يوسف أنّ جيرمين في مرحلة سابقة، حين لم أكن أعرفه وأعرف بيته، كانت تستخدم تعبير «انعزاليّ» في معرض الهجاء، و»وحدويّ» في معرض المديح، تأثّراً منها بناصريّة ابن شقيقتها يومذاك.

وعلى تقلّب أطوارها الزمنيّة واللغويّة، درجت جيرمين على النوم في سرير أمّها، وأغلب الظنّ أنّ نومها هكذا عاد إلى عهد الطفولة والضربة التي تعرّضت لها إبّانها. أمّا نحن الزوّار فكنّا نرى الاثنتين، هي وأمّها، تخرجان معاً، وفي اللحظة نفسها، من غرفة نومهما إلى الصالون الذي نجلس فيه والمحاط، كما في البيوت الشرقيّة، بغرف النوم. لكنّ خروجهما معاً كان يضاعف الشعور بالغرابة: فالأمّ، أُنجيل، كانت بالغة الطول وممتلئة الجسد، لا تلبس إلاّ اللون الأسود الذي يغطّيها من أعلاها إلى أدناها، فلا ينفر منه إلاّ شعر شديد البياض في رأسها. وكانت أنجيل تظلّ صامتة، تشدّ انتباهنا إليها بصمتها ومهابتها التي يزيدها عرج في رجلها اليمنى يسبغ عليها ملمح قرصان بحريّ ضخم الجثّة وكثير الأسرار. إلاّ أنّ جيرمين التي تلبس أيّ لون، وتقول أيّ كلام، تكسر مهابة الأمّ بصوت يسبقها، رفيع وزجاجيّ ومليء بالكلمات التي لا يفهم معظمَها الحاضرون.

ولم تكن أنجيل وجيرمين الوحيدتين اللتين تخرجان علينا من غرفة مقفلة. فكذلك كانت تفعل أمّ نصري، المرأة المسنّة الأخرى التي تواضعنا جميعاً على تجاهلها ووصفها باللؤم ونسج المكائد. ذاك أنّ البيت الكبير هو بيت ابنها نصري، والد يوسف وزوج أمّه ليلى التي هي أخت جيرمين الكبرى وابنة أنجيل. وأمّ نصري كانت تكرههم جميعاً، وتعيش في تلك الغرفة لا تخالطهم ولا تكلّمهم ولا تأكل معهم، بل تقضي جميع حاجاتها في غرفتها. وهي، منذ وفاة ابنها قبل عقد ونيّف، حلّت في تلك الغرفة التي اعتبرت أنّها ورثتها عن ابنها، وأنّ لا حقّ لزوجته ليلى فيها.

وقضت الصدفة أن أجلس، حين أكون في بيت يوسف وأهله، على كرسيّ يقابل باب الغرفة التي تخرج منها أمّ نصري. وذات مرّة توجّهت نحوي، بنظرة منقبضة وتركيز بالغ، فصمت جميع من في الغرفة وهم يتابعون حدثاً غير مألوف. لكنّ أمّ نصري ما إن اقتربت، حتّى رفعت سبّابتها في وجهي وقالت: «تؤلّف ولا تؤلّفان»، ثمّ مضت تحدّثني، وكنّا عشيّة اندلاع الحرب الأهليّة، عن الدم الذي «سيطمر جونيه وجون» و»يغرق فيه العجل الرضيع». وقد عرفت لاحقاً ممّن تلصّصوا عليها أنّ أمّ نصري كانت تقرأ الجرائد التي تجدها متروكة على كراسي الصالون وطاولاته. بيد أنّها كانت تقرأها من دون اعتبار للخطوط الفاصلة بين إطار وإطار، وبين خبر وخبر. فهي هي تُكمل السطر حتّى النهاية عابرةً الأخبار التي تقع على المستوى نفسه، قبل أن تهبط إلى السطر الثاني. وهكذا كوّنت أمّ نصري ثقافة سياسيّة غريبة كان ما يرشح منها موضع استغراب وضحك. فقد أفهمتْها طريقتها في القراءة أنّ حبّاً شديد القوّة يربط بين بيار الجميّل وياسر عرفات، وأنّ حرباً عالميّة رابعة وقعت للتوّ وانتصرت فيها أفريقيا.

وجيرمين لم تكن تملك نوايا سلميّة حيال أمّ نصري. فهي كانت تتهجّم عليها حين تمرّ بمحاذاتها، فتردعها ليلى أو أنجيل من دون أن تستطيعا منعها من رسم إشارات مسيئة لها من وراء ظهرها. فهي كانت تضع إصبعها على رأسها ثمّ تنفض يدها كلّها في الهواء وترفع رأسها إلى الأعلى كأنّها تقول إنّ عقل أمّ نصري نفد أو تبخّر ولم يبق منه شيء يُذكر.

وذات يوم حين قصدت بيت يوسف، وجدت أمّه ليلى تبكي وقد ودّعتْ لتوّها أمّها أنجيل وأختها جيرمين. «لقد ذهبتا إلى البرازيل ولن تعودا قبل ثلاثة أشهر»، أجابتني عن سؤالي، قبل أن تشرح لي أنّ أخاها الذي يقيم هناك هو الذي دعاهما وزوّدهما بطاقتي سفر تنتقلان بموجبهما إلى الريّو بعد مرورهما بنيويورك. وكتمتُ فضولاً قويّاً انتابني، وأنا أسمع أسماء تلك المدن، لأن أرى ما الذي لبسته جيرمين لرحلتها، وبأيّ مزاج ستصعد الطائرة، وماذا ستفعل في الجوّ، وكيف ستتصرّف في تلك المدن. ثمّ قلت لليلى، محاولاً طرد كآبتها، إنّنا سنضحك ونتسلّى كثيراً بعد عودتهما وسماع أخبار جيرمين. لكنّ ما وصل من أخبار جيرمين، بعد أيّام قليلة، لا يُضحك بتاتاً ولا يسلّي.

فهناك في نيويورك، ولسبب لا يعرفه إلاّ الله، قصدتا مجمّعاً تجاريّاً بالغ الضخامة على ما يبدو. وبخطأ ما صعدت جيرمين في أحد مصاعده فيما صعدت أنجيل في مصعد ثانٍ. بعد ذاك لم تلتقيا، ولم يظهر أثر لجيرمين.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى