صفحات الناسعلي جازو

جيشُ المعتقَلين العربيّ السوريّ/ علي جازو

 أوَّل نصيحة تتلقاها من أهلك وأصدقائك، الذين سبق أن أدّوا خدمة العلَم، هي التزام الصمت وتوخي الحذر. لا شيء يحرك مخيلتهم عن خدمة الجيش سوى الخوف والقلق. خذْ مفتاحاً وقفلاً. أقفل حقيبتك جيداً. ضع المفتاح في خيط، واربط الخيط كسوار إلى معصمك. لا أمان، لا أمان من أي أحد. لا تتكلمْ إلى أحد لا تعرفه. تجنبْ النقد ولا تخض نقاشاً عن السياسة أو حزب البعث. مثلك مثل غيرك، سنتان وتعود إلى البيت، تستأنف حياتك.

“لا تتدخلْ في ما لا يعنيك. نحن أيضاً عانينا أياماً صعبة”، يقول الواحد منهم. “خدمتُ الجيش أثناء حرب تشرين، طالت خدمتي أربع سنوات وثمانية أشهر. كنت في بيروت عام 1982″، يقول آخر. الحقيقة الوحيدة التي يمكن استخلاصها من هكذا نصائح هي الرهاب والعزلة والندم وأسوأ الذكريات. خدمة الجيش الإجبارية في “سوريا الأسد” ليست خدمة وطنية في شيء. على العكس من ذلك، إنها أقرب إلى عقوبة عامة وشاملة.

يتذكر المجند السوري ضابطَه كما يتذكر العبد سيّدَه، والسجين سجّانه. “لقد عوقبت لسبب تافه. زجّوا بي في السجن لأنني لم آتِه بهدية. لم أحصل على إجازة منذ ستة أشهر، كنت مريضاً، مع ذلك، لم يهتم بي أحد، لا الطبيب ولا المشفى العسكري الذي حولوني إليه”. خذْ معك خمسة آلاف ليرة، مصروفك! أتكفي خمسة آلاف؟

العام 2004 تم جمعنا في محطة القطار بالحسكة، ومن هناك مضينا إلى ثكنة ابراهيم هنانو في حلب. رافقتنا مجموعة متطوعين في الشرطة العسكرية، كانوا أشبه بحراس منهم بمرافقين، سدّدوا نظرات احتقار إلينا، ومن هناك بدأت رحلة الخوف والألم. من ضمن من التحق بالخدمة حينها “مهرِّبٌ” صديق! كان يضحك، إذ كان يعرفهم، يعرف الضباط الكبار، ووجد في تجمعنا السريع وبلاهة ملامحنا وانتظارنا الطويل مهزلة لا غير! بعد وصولنا إلى حلب، أُمِرنا بالجلوس أرضاً، ثم أتى باص ليوصلنا إلى الثكنة. هناك في برد شهر شباط، تم توزيعنا على مهاجع رطبة معتمة. خوفاً من السرقة، وضعت حقيبتي تحت مخدة النوم، ولا أعرف كيف أغمضت عيني. أتى الصباح، وداهمنا الجوع. رأيت مجموعة من الجنود يفرمون ملفوفاً وسخاً ويضمونه إلى أرغفة عليها قطع فلافل داكنة اللون. كان يجب عليّ شراء سندويشة فلافل. لا حلّ آخر لإسكات ألم الجوع. كانت الساحة واسعة جداً، وحجارتها صلبة ورمادية. أول ما خطر بذهني حينها أنها أقرب إلى معتقل منها إلى نقطة تجمع. مكثنا ستة أيام، وتمنينا لو تثلج بدل أن يظلّ الهواء البارد يؤلم عيوننا وترتجف منه ركبنا. من بعدها تم ترحلينا إلى الناصرية القريبة من النبك. وصلنا بعد منتصف الليل. كل واحد يدفع 200 ليرة، ثمن التوصيلة إلى معسكر التدريب! دفعنا، ووصلنا، ولم نجد غير الظلام الموحش من حولنا. رفع حارس المعسكر ضوءاً في وجوهنا، وتم تفتيش حقائبنا. هواتف نقالة صودرت، وكؤوس حُطّمت، وملابس سُلبت.

بعد ساعتين من الوقوف الصامت في بردٍ جمّد أطرافنا، جاءنا رقيب كي يتعرف علينا. سأله مجنّد، أستاذ رياضيات من ألطف الأصدقاء الذين تعرفت عليهم، عن سبب تركنا هكذا طوال الوقت، لا ندري ماذا نفعل، أين ننام. جاء الرد فوراً إذ تلقى المجنّد صفعة مدوية. اخضر وجهه وازرق من أثر الإهانة. ابتلعنا الإهانة بأن صمتنا واختنق الخزي في قلوبنا. لم يحرك أحد ساكناً. كانت الصفعة موجهة لكل واحد منا. كانت البداية التي ستتكرّر نفسها بأكثر من مشهد وتجاه أكثر من مجند. هكذا، من أول ليلة استقبال، عرفنا كيف تُبنى الوحدة الوطنية على النمط الأمني العنفي، وكيف نتربى على الإخلاص الخائف، وكيف يكون ميزان الشرف الوطني: الرضوخ والخنوع.

بعد شهر سترى دزينة من تلك الهواتف المسروقة على طاولة السيد العميد قائد المعسكر، ومنه تباع إلى الخارج. تجارة مربحة. هكذا كانت تبنى مساكن الضباط الشجعان. كان المطبخ بعيداً جداً عن ساحة التدريب. في الثانية عصراً، على حصى حارق ننبطح أرضاً، وعلينا الزحف على بطوننا حتى نصل إلى المطبخ. حتى الطعام هناك، إذا ما وصل أحدنا، لا يؤكل. هكذا نعود إلى مطعم المعسكر الخاص، إلى ما يُسمّى بالندوة. نشتري رغيف خبز، بندورة، علبة سردين. هي من مخصصات الجيش، لكننا ندفع ثمن ما هو بالأساس لنا!

أسفل حائط تجمعت أمامه مياه قذرة متعفنة، نجلس لنأكل غداء الندم والخزي، كأنما نحن أسرى، مجرمون ندفع ثمن جريمة لم نرتكبها. كنا معتقلين، لا جنود جيش وطني، أبداً، أبداً!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى