صفحات الناس

جيلٌ جديد يكبر في دمشق/ نجاة عبد الصمد

 

تلك البطالة، وذلك الضياع، ومعه الاكتئاب واليأس، التي كلها كانت قبل أعوامٍ تخنق معظم شباب البلد، بمن فيهم المحصّنون بشهاداتٍ عليا ونادرة في مختلف الاختصاصات؛ هذه كلها لم تعد أكثر من مزحةٍ سمجة حيال ما ينتظر شباب اليوم.

اليوم، وعلى كل رصيف من شوارع دمشق العتيقة، وفي وضح النهار، ينام الأطفال مستغرقين. أطفالٌ مشرّدون، مجهولون، لم يعودوا يثيرون استهجان العابرين سريعاً من فوق أجسادهم، أو اندفاعهم لتقديم عونٍ ما، أو حتى مجرد تساؤل ضمنيّ: هل هؤلاء الأطفال أحياءُ يأخذون غفوةً هانئة؛ أم هم موتى؛ هل هم ضحايا الإهمال أم الجوع والتشرد والمهانة والاستغلال والتعنيف؟!

في وضح النهار يضيع بين شوارع دمشق مجانين. منهم هذا الفتى الجميل، والأقلويّ، والموهوب بلوثة الرسم، الذي كان ينوي أن يتسجّل في كلية الفنون الجميلة قبل أن تقوم الثورة، والذي تظاهر مسالماً أول انطلاقتها، وصار يرسم على جدران الشام أطفالاً وطيوراً، ثم فرّ، بعدما لاحقته فروع الأمن، ليتعسكر مع المقاتلين الإسلاميين الذين لن يُلحقوه بكتائبهم إلا بعد أن يشهر إسلامه. يعدونه بتحرير الشام قريباً بإذن الله، وينهونه عن مزاولة الرسم المخالف للإسلام (الحنيف). يذعن، فيحمل، بدل الريشة، كل أنواع السلاح المتوفّر، ويطلق معهم الرصاص والقذائف في اتجاه دمشق من شدة ضجره في الليل، ويهرب من النوم كي لا تقتله كوابيس الدم الطازج، وأخيراً يفرّ من بينهم ويعود مختلّ العقل يذرع شوارع الشام ويهذي: “كل عناصر الجيش أهدافٌ لنا، كلهم بلا استثناء محالون على المحكمة الشرعية”. لا يخيفه الآن شيءٌ لأنه، في خفّة جنونه، لم يعد يدرك أنه صار مستهدفاً من الجيش ومن الإسلاميين.

يحلّ الليل، فلا تقلّ وحشة شوارع دمشق العريقة، عن وحشة أهلها الأصيلين. هكذا، فجأةً، مع حلول الظلام، تختلّ هذه الرابطة الروحية الوطيدة بين المكان وساكنيه منذ أجيال. يسارعون إلى بتر أشغالهم وأمنياتهم وينسربون من متاجر حاراتهم ومطاعمها ومقاهيها وأرصفتها الحاملة روائحهم وحكاياتهم، متفرّقين إلى أمان بيوتهم في حظر تجوّلٍ طوعيٍّ لم يفرضه عليهم قانونٌ ولا فرمان، إنما أوحت إليهم به عقولهم لحفظ ماء وجوههم من إهانة، وحفظ ماء عيونهم من دمع لن يساوي كلفته العاطفية. قد يكسر حظر التجول هذا بعض رجالٍ مسرعين، يتلفّتون حولهم بحذرٍ جليّ وخوفٍ خفيّ، ويزفرون بارتياحٍ حين يعثرون على الخبز أو السجائر التي أجبرهم فقدانُها على الخروج من بيوتهم إلى الشوارع التي صار يستبيحها ليلاً جيلٌ جديد،

أفرزته الحالُ السوريّة المريعة، والمستعصية، والعصيّة على الفهم. جيلٌ هجينٌ وغريبٌ عن المكان وعن نفسه وعن بقايا أسرته وعن البشرية وعن حضارة القرن الحادي والعشرين. جيلٌ دهمته الحرب في أول البلوغ، فاختلطت في جسده هورمونات النموّ بهورمونات الرعب المحيط، واختلطت في روحه الرغبة بالحبّ برغبة الفرار من خيالات الموت؛ فلا استطاع أن يستوعب كيف نجا من موتٍ اصطاد بيته وأسرته أو أحد أعمدتها، ولم يلحق أن يتعلّم كيف ينتظم العيش ما بين بيتٍ ومدرسةٍ وهواياتٍ أو أنشطة متنوعة خارج أوقات الحروب. صار قدَره أن يبتكر طريقة عيشه الفريدة في انفلاتها عن إرث التربية الأسرية أو المدرسية، وأن يؤثّث، تحت رعاية الحرب، تجربته الحداثيّة، القائمة على اغتنام لحظة العيش الحاضرة إلى أقصاها من غير موروثٍ محمولٍ أو دليلٍ حاضرٍ أو تفكّرٍ في ما سيأتي.

جيلٌ صار مجتمعاً متكاملاً، يترك غصة السؤال كشوكةٍ في الحلق: متى لحق أن يقيم منظومته الوطيدة هذه ويحوك قوانينها وعلاقاتها المتداخلة بكل هذا اليُسر؟!

هذه البنت من وسط سوريا (عمرها 13 عاماً). اختفى أهلها كلهم تحت أنقاض بيتهم، وجُرحت بشظيةٍ في وجهها ولم تمت. كان مغميّاً عليها حين رحّلتها الشاحنة الخيرية الفارّة بالناجين من القصف. أفاقت في بيتها الجديد في الحديقة العامة قرب شارع العابد وسط دمشق، وسط بشرٍ يتقاسمون المصير نفسه، على اختلاف منمنمات نكباتهم. ولا يزالون منذ عام أو أكثر يتخذون من الحديقة بيتاً ومن عشبها فرشةً ومن الإغاثة وأعطيات الكريمين طعاماً.

لم تفلح البنت في العودة إلى المدرسة التي انتُزعتْ منها وهي في صفّها الدراسي السابع. حملت ندبتها التي شوّهتْ وجهها، وراحت تعمل في محلٍّ للثياب والعطور، وافتتن التاجر الختيار برمّان صدرها النابت حديثاً، ورجا لنفسه نصيباً من طيبه الكثير. أهدى إليها حجاباً لتحافظ على ستر شعرها، وأغراها براتبٍ أسبوعيّ أعلى من حلمها بالستر، وجرّب على جسدها الصغير كلّ “العطور الجنسية السرية”، بنكهاتها التي لا تحصى، من الفريز إلى الكرز إلى المشمش البلديّ إلى الورد الجوريّ إلى الياسمين إلى الزلّوع. واختبر بنفسه كيف تستيقظ بهلوانياته في خريفه البائس حين يُلبِسها كيلوت السكّر! كيلوتٌ ليس من قطنٍ ولا دانتيل، مصنوعٌ من السكّر المضافة إليه طعومٌ حلوةٌ ومثيرة تبدأ بالذوبان حين يجول عليها لسان الختيار زاحفاً بين انحناءات حوضها النحيل المستسلم لشغف التجريب، والعاجز عن أن يكون شريكاً فعليّاً في التجربة الغامضة.

لم يُغضِب الختيار ربّه بمسّ عذرية الفتاة الطريّة، وفي كل جولةٍ يكافئها بوحداتٍ للموبايل أو بوجبة شاورما أو بعلبة محارم نسائية أو بجورب مطرّز. ويعلّمها كيف تعرض البضاعة السرية في أدراج المحلّ على مجايلاتها من الصبايا الصغيرات، ويعلّمها كيف تسوّق عطور الجنس ولانجوري السكّر لرفيقاتها النازحات من كل الأمكنة إلى دمشق.

ذلك المتجر كان المدرسة التي احتضنت البنت من غير منافس تعليميّ آخر، وهناك أدركتْ، بصورةٍ غرائزية لا ترقى إلى الفهم الكامل، أن جسدها رأسمالٌ يمكنها الاعتماد عليه، وأنه لن يخذلها كما خذلها أهلها يوم ماتوا وأسلموها للهباء.

كانت لرفيقاتها اللواتي يتقاسمن معها سكن الحديقة مدارسُ شبيهة. تعلّمن فيها وتبادلن التجارب في ما بينهن. كنّ جرّبن التسوّل والعمل خادماتٍ في البيوت، وفي تنظيف المحلات التجارية وفي البيع فيها، ولم يصبرن على شقاء العمل بعد الدلال السابق للحرب، فرضَين باحتمال الفاقة كأهون الشرور. وصار الجوع والرعب والضجر والفراغ والكآبة والشجار في ما بينهن عناوين مكرورة لأيامهنّ البائسة. وبدأن يستقبلن رسائل الواتس آب ويرسلنها على مدار الساعة للتسلّي ولطلب العون، ولإنعاش الفرح الميت في نفوسهنّ، وجاءتهنّ الردود الكاسرة لصمت الوحدة من حِملانٍ وحيدين مثلهنّ، أو من ذئاب لاطيةٍ في انتظار الفرص السانحة!

حملانٌ وذئاب. شباب لم يتخطوا العشرين، لا يريدون الالتحاق بالخدمة الإلزامية كي لا يموتوا عبثاً، وهم بلا مدارس ولا عمل، ولا كفاءات، ولا أمل ولا أفق بامتلاك بيتٍ أو تكوين أسرة. وسط هذا القفر جاءتهم فرص التطوع في جيش الدفاع الوطني واللجان الشعبية ليعيدوا لأنفسهم اعتبارها ويقبروا الخوف والفقر والوحدة والحرمان، ويستقطبوا كل يومٍ أفواجاً جديدة.

صاروا عساكر تحتلّ الشوارع بذريعة حفظ أمن البلاد. يتجولون ببدلاتٍ مموّهة وذقونٍ طويلة وسواعد مفتولة من أخذ المنشّطات، ووشوم على الأيادي ورشّاشات على الأكتاف، ورخاءٍ سريع يحلّ بين يوم وليلة، وثروةٍ تتنامى من حواجز التشليح وتعفيش البيوت المهجورة، وصبايا جميلاتٍ يحمن حولهم كالذباب طلباً للتمويل وللحماية، صبايا ما كنّ ليلتفتن إلى دمامتهم لولا طلاوة السلاح والمال في ترويض كل أمرٍ عسير. هؤلاء معاً صاروا جوقاتٍ من مئات العشّاق الذين يعمّرون ليل دمشق.

هم ليسوا عشاقاً بالمعنى المألوف للعبارة. هم الراضون بالوصال المتاح، والباحثون عن متعٍ مبتكرة لا ينفقون عليها ألماً من شدة الحبّ، ولا دمعاً في انتظار الحبيب، ولا عذاباً إذا ما خان، ولا التزاماً ينهك الروح لطول أمده. هو عشقٌ ابتدعه هذا الجيل الذي طوّع دنياه على مقاسه من غير دموع ولا انتظار. كل ليلةٍ تتوزّع البنات من الحديقة إلى الشوارع للقاء رفاق الليل، يسرعن مستتراتٍ بالعتمة وبحجاب رأسٍ رزين، وبثيابٍ فاقعة الألوان، وضيّقةٍ يتفزّر اللحم من تحتها، وعطورٍ تنادي بالغواية عن بعد. عطورٍ لم يتعرفن إليها من لقطات السكس على الإنترنت، إنما جلبنها من الواجهات التي لم تعد دكاكين دمشق تستحي بعرضها علناً.

مهمّشون وضائعون ومحرومون ولا منتمون ولا مسؤولون لا أمام أنفسهم ولا أهل ولا أحد. محرومون متمكنون بالسلاح وبالمال الحرام يلتقون بمحروماتٍ وحيداتٍ بلا أسرة أو وصيّ أو راعٍ. يتوزّعون في ليل الشوارع على هيئة أزواجٍ تباشر المتعة، ومجموعاتٍ تحرسها ريثما تنتهي المجموعة الأولى، فيتبادلون الأدوار في طقوس جنسٍ جماعيّ، عربونه أن تطلب البنت ما تشاء من المال النقديّ أو هدايا من المسروقات، تبدأ بسندويشة فلافل، ولا تنتهي عند “آي فون” حديث. كل لمسةٍ أو قبلةٍ أو تمادٍ نحو العمق؛ وله ثمن. ومن لا تسعفه رجولته من الشباب الخائف أو غير الواثق بأدائه، يسانده رفاقه بسيكارة حشيشة تنهضه كثورٍ لا يهاب اقتحام البنت الأقل حظاً في الجمال بين رفيقاتها. لا أهل تخاف البنت من عقابهم حين تعود إلى البيت – الحديقة، زائغة البصر من تدخين الحشيشة، ولا مدرسة توقظها من غفلتها، ولا يقين إلا ما يشي به الحاضر أنها لن تحظى بزواجٍ قريب ولن تجد عملاً وأنّ عليها أن تنفق حياتها هكذا يوماً بيوم، بهذه المتعة التي ينفق عليها الشباب مما يسرقون.

كل ما كان يجري في الخفاء وعلى نطاقٍ محدود صار الآن في العلن، طريقة عيشٍ لجيلٍ كامل. ولا أمل في مباغتة سريعة وكاسحة للمكان ومَن فيه من دوريات الشرطة، لأن اللجان الشعبية أصبحت المكلّفة الرسمية صون حرمة المكان، وتكريس العيش الحداثي لهذا الجيل الغضّ، النامي على سقاية الحروب.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى