صفحات الناس

جيلٌ سوريّ بلا مدرسة

لعقودٍ مضت كانت سوريا تفخر بنظامها التعليمي الحكوميّ. ذهب اساتذتها ليدرّسوا أبناء الخليج كما الجزائر البعيدة. وانتشر أطباؤها القديرون في مستشفيات الدنيا.

ولكن ها هما جيلان يضيعان. مدارسٌ أضحت ثكناتٍ عسكريّة لهذا أو ذاك. ومئات آلاف الأطفال تهجّروا داخل وطنهم وفي بلدان الجوار. وآلاف الجامعيّين طردوا من أجل آرائهم وآخرون لا يستطيعون حتّى الوصول إلى صفوفهم. وهنا وهناك أطفالٌ وشباب يحملون السلاح بدل الكتاب.

سألت أحد أبناء “الصور”، المدينة المنكوبة من جرّاء السياسات القديمة على حوض الخابور، الفخورة بأنّها أنتجت عشرات آلاف مقاتلي الجيش الحرّ، ما الذي تحتاجون إليه اليوم؟ فأجاب مدرسة. نعم مدرسة قبل الطعام والشراب. ورأيت معظم أطفال مخيّم الزعتري لا يستطيعون الوصول إلى مدارسهم البعيدة كيلومترات عدة عن خيمهم. ومع العلم أنّ هؤلاء محظوظون مقارنة مع العدد الأكبر من اللاجئين الذين ليست لديهم مدارس.

كارثة إنسانيّة ووطنيّة بحجم أعداد القتلى والمفقودين والجرحى والمعتقلين. إذ حتّى في المدارس القائمة أو المفتتحة حديثاً ما الذي يتمّ تلقينه للأطفال في بلدٍ أضحى له أعلام ورايات عدة؟ وأضحت فيه تفسيرات متناقضة لما هو… الوطن. وكيف سيتمّ رأب الصدع بينها يوم يتوّقف القتال وتعود الناس إلى بيوتها؟

لكن ماذا أيضاً إن لم يتوقّف القتال قريباً وبقي الأطفال سنيناً دون مدارس؟ وحتّى من درس أين سيذهب إلى الجامعة؟ وحتّى يوم يتوقّف القتال، ماذا لو لم يجد العائدون إلى قراهم ومدنهم بيوتاً ومدارس لأطفالهم؟ أسوة بمن يعود اليوم من مخيّمات الهجرة الخارجيّة المذلّة إلى المناطق “المحرّرة”. وماذا سيكون شكل التعليم بعد الحرب، إذا كانت إعادة الإعمار هي مسألة تحقيق المكاسب لأمراء هذه الحرب؟

قضيّة المدرسة والتعليم مسؤوليّة ضخمة على كاهل كلّ السوريين، وفي صلب أيّ عمل لمساندة أهالي سوريا في محنتهم، وملفّ كبير على طاولة أيّة مفاوضات سياسية ستأتي. لكنّ بوادر حلولها لن تأتي إلاّ اليوم ومن قلب المجتمع، أي من نسائه.

فحين يحمل الرجال السلاح، النساء هنّ اللاتي يقمن على شؤون المجتمع. تبقى إنسانيّتهنّ أقوى لا تشوّشها أهوال الحروب. وتتصلّب إرادتهنّ لأنّ بقاء العائلة والعيش يقع على كاهلهنّ وحدهنّ.

ومنذ اليوم هنّ اللاتي يقوم عليهنّ تعليم أولادهنّ وبناتهنّ في البيت أو عبر مئات الجمعيات المدنيّة المنتشرة في مخيّمات الداخل والخارج أو المدارس المرتجلة كما القائمة: أنّ الطفولة طفولة، وأنّ العلم نور، وأنّهم أبناء وطن واحد، وأنّ “الدين لله والوطن للجميع”، وأنّ سوريا ليست الأسد، بل فكرة صنعت حضارة كبرى متسامحة من الصين إلى الأندلس… مهما قال رجال اليوم.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى