مراجعات كتب

“جيوبوليتيك الدم”: مستقبل في خرائط خادعة/ شوقي بن حسن

 

 

يفتتح الصافي سعيد كتابه الصادر منذ أيام عن “منشورات سوتيميديا” بهذه المقولة: “إمّا أن ينفجر الماء أو يتفجّر الدم.. هذا في السرد الإبراهيمي الأول. أما في السرد الإبراهيمي الثاني، فإما أن ينفجر النفط أو يتفجّر الدم.. الآن لقد انفجر النفط والدم”.

تكشف هذه المقولة، المركّبة من مفردات سُحبت من معجم السرديات الكبرى التي يقدّمها الدين أو التاريخ السياسي، عمّا سيُقدم على سرده الكاتب طوال الفصول الخمسة لعمله “جيوبوليتيك الدم: الجغرافيا المتصدّعة والتاريخ الأسير”.

ينطلق المفكّر التونسي من الوقائع التي تهز المنطقة (والعالم)؛ “حفل شواء بشري في الصحراء العربية”. يثير سعيد في أذهان قارئه صور المتطرّفين وهم يقترفون مذابحهم في العراق وليبيا أو يدمّرون الآثار في سورية أو يفخّخون السيارات في لبنان أو يطلقون النار على أبرياء في متحف باردو.

هكذا، أصبح الربيع العربي بسرعة “حفلاً لشواء اللحم العربي على نار الدين والديناميت والبترول، وصار كل شيء مستهجناً وغير بريء وغير نظيف: العمل والإيمان والأخلاق والأوطان والانتماء للثورة والحديث عن الهوية والديمقراطية. لقد تمت شيطنة كل شيء”.

نحن الآن حيال فوضى، يحاول سعيد من ورائها أن يتهجّى نظاماً للمنطقة، يختبئ خلف نوايا اللاعبين فوق رقعة الشطرنج العربية، هذا المسرح الذي يشير بأنه “ليس فقط مسرحاً للاعبين كبار” بل بداخله مسرح آخر للاعبين ما تحت الدولة مثل داعش والبشمركة والعشائر والطوائف وأجهزة أمنية وشركات عابرة للقارات.

يستدعي سعيد نظريات الجيوبوليتيك، هذا العلم الذي بدا لوهلة وأنه انتهى بنهاية الحرب الباردة ودخول التاريخ مرحلة العولمة، غير أن الكاتب يؤكد على فاعلية هذا العلم في قراءة الأحداث. يسلّم الكاتب بمعطياته “تبدأ صناعة التاريخ ابتداء من الجغرافيا، هذه الجغرافيا التي لا تُرسم حدودها إلا بالدم، فـ العنف هو القابلة للتاريخ والتاريخ ليس إلا دماً سائلاً أو متخثراً أو متصلباً يتحوّل إلى خرائط وتضاريس”.

في الحالة العربية، يقول صاحب “عودة الزمن الإمبراطوري” إن مقدّمات التصدّع العربي توجد في الجغرافيا، بين عرب أغنياء وعرب فقراء. يعترف سعيد أن “هذا الربيع العربي لم يكن تعبيراً خالصاً عن غضب جماهيري عربي، وإنما كان خليطاً متفجراً بين الربيع الداخلي والطلب الخارجي” وهنا “انتهى بسرعة القصص الثوري ليكشف من ورائه على قصص جيوبوليتيكي جديد”.

يتوقع سعيد، وهنا يستدعي علماً آخر يشتغل ضمنه هو علم المستقبليات، أن المنطقة مقدمة على سايكس بيكو جديدٍ يستجيب للسوق العالمية وخارطة الثروات الجديدة وفضاءات الدولة ما بعد الوطنية، ويتساءل هنا: لماذا نلعن سايكس بيكو، وحين نراه يوشك على الرحيل نتباكى عليه؟

في فصل يخصّصه لتشريح “الإرهاب المعولم”، يلاحظ الكاتب “كما أنتجت نهاية الحرب العالمية الأولى الفاشية والشيوعية، أنتجت نهاية الحرب الباردة الأصولية الإسلامية”. لكنه يشير من جهة أخرى إلى أن الجميع “تعاون بقناعة وغير قناعة سراً وعلناً على قتل حقيقة الإرهاب من أجل أن يتحوّل سلاحاً ضد الحقيقة”.

يعيد صاحب “خريف العرب” النظر، من خلال زاوية الإرهاب، في ركائز النظام العالمي الذي نعيش في إطاره، فهو يستشهد بكلمة الفيلسوف الفرنسي ميشال سير الذي يرى أن “التشويش والضوضاء والطفيليات هي الجوكر الضروري للنظام”.

يقول سعيد معلقاً “ها هنا نعثر على المعنى الخفي لعبارة الفوضى الخلاقة. فلأن النظام العالمي أصبح لا يعمل ومعطلاً وأصبح المشرفون عليه عاجزين فإن الفوضى أصبحت ضرورية لتشغيله”. يتساءل بعد ذلك “من قائد هذه الفوضى؟”، إنه الخوف فهو شرط لبسط القانون والسلطة.

هكذا تتجمّع شذرات في ذهن القارئ حول حقيقة الإرهاب. يرى سعيد أن ما يجري لا يعدو أن يكون محاولة لتأبيد السيطرة، وهذه الرغبة تدفع إلى اختراع أساليب جديدة ومثيرة ومفزعة، تعتمد أيضاً على البنوك والديون والمنظّمات الدولية والتحكّم في أسواق الغذاء والطاقة.

وحين يتمدّد الإرهاب، تتمدّد الحرب عليه ويبدأ التطبيع شيئاً فشيئاً مع تشريعات وقوانين الحرب. فكلما خسرت الدولة من رصيدها كلما ارتفع رصيد الإرهاب. شيئاً فشيئاً، تتحوّل الدولة إلى أوليغارشيا شبه عسكرية، فلا تملك أن تحكم إلا بالمراسيم والقوانين الزجرية، وحين يوضع الأمن فوق أو قبل الحرية تبدأ الهزيمة أمام الإرهاب.

هنا يؤكد سعيد “في الحقيقة من لا يستطيع أن يمنح الحرية للناس لا يستطيع أن يحمي أمنهم”، ببساطة لأن من يتخذ العنف/ الأمن منهجية وحيدة للحكم لا يستطيع أن يقيم السلم الاجتماعي.

يلاحظ سعيد أنه “في كل مذبحة إرهابية تغيب الحقيقة حتى بات الإسلام أو الإسلاموفوبيا هو المطلوب حضوره على مسرح العمليات ليفي بالحاجة النفسية لدى الغرب”. وهو يعرّج على استعمالات مصطلح الإرهاب الذي يرى أنه “غامض يُفرغ السياسة والأخلاق من معناها ويجعلها مادة تدعو إلى الاشمئزاز”، إذ يبيّن أنه قد جرى التلاعب بالتصنيفات حسب المصالح، فهؤلاء إرهابيون وهؤلاء مقاومون شرعيون.

في الفصل الموالي، “الجغرافيا المتصدّعة”، يضعنا سعيد أمام الخريطة العربية، التي لا تظهر فيها فقط الدول التي تكوّنها بل مصالح الدول الكبرى، وتمدّد الجيران الطامحين والطامعين، ووسط كل ذلك يبرز الكيان الصهيوني الذي زُرع لمنع “الجيوبوليتيك العربي من النمو”.

إن “جغرافيا بدون سياسة وتجارة وتعاون ومشاريع ومواصلات تصبح جغرافيا صماء” وهذا هو واقع العالم العربي. يوظّف صاحب “المعادلة التونسية” القراءة الجغرافية لتفسير الأزمة السورية حيث يمكن مقاربتها من خلال خارطة الطاقة الجديدة.

في فصل “التاريخ الأسير”، يلتقط سعيد لحظات فارقة يصهرها في سرده التفسيري: خروج العرب من جزيرتهم مع الإسلام، قرار معاوية توريث الحكم، الغزو المغولي، الحروب الصليبية وغيرها، ليصل إلى منعطف فارق، لحظة الحداثة كما يسمّيها، لحظة خروج كولومبس إلى مغامرة “العالم الجديد” على أصوات نحيب مغادرة العرب إسبانيا، ليجدوا أنفسهم “في سجن الجنوب”.

سرعان ما ستختلط هذه اللحظة الواقعة أقصى الخريطة العربية مع أخرى تقع في شمالها الشرقي، حين ينتزع الأتراك العثمانيون الخلافة ويفقد العرب كل مواقعهم وامتيازاتهم في القيادة و”أصبحوا هم ودينهم في أيدي سلاطين لا يتكلّمون العربية”.

لن يتراخى القيد العثماني عن العرب إلا مع حملة نابليون، لكن ذلك لم يكن سوى مقدّمة ليبدأ الأسر الأوروبي لتاريخ العرب. من الزاوية المقابلة، يرى أن زمن التنوير والثورة في أوروبا كان كذلك زمن العنف والتوسّع والبحث عن أسر تاريخ شعوب أخرى.

هذا اللقاء بين العرب والغرب كان مليئاً بالخداع، خداع سينكشف مع استعمار الجزائر ثم مع سايكس بيكو ثم مع وعد بلفور، ويتواصل الخداع حتى 2003 في العراق ثم مع “الربيع العربي”.

هكذا “لا زال القرن اللعين يمتدّ ويتمدّد في القرن الذي تلاه. ولا يزال العرب يتنقلون من مذبحة إلى مذبحة يبحثون عن نقطة العبور إلى النظام المتمايز، النظام الذي يخرجهم من السرد الإبراهيمي المتكرر. انتهت الحرب الباردة في جميع أصقاع العالم لكنها استمرت تتناسل في بلاد العرب حتى أصبحت أهلية”. ويختم المؤلف سرده بأن “حرب المجالات الجيوبوليتيكية توشك أن تتحوّل إلى حرب عالمية ثالثة”.

يقول الصافي سعيد: “يصعب متابعة تفاصيل هذه التلاحمات ومسارات هذه الفوضى الممتدّة وهذه الاشتباكات المتناقضة، ما قد أسمّيه بجيوبوليتيك الدم، ولكن بعد فترة ستُفرش أمامه خرائط الأمر الواقع ليتعايش معها الجميع بحسرة وحنين إلى الماضي”.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى