برهان غليونصفحات سورية

جيوسياسة الثورة السورية والربيع العربي

 

                                            برهان غليون

شكل الربيع العربي بفصوله المتعاقبة من ثورات الحرية، أكبر حركة جيوسياسية هزت العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط منذ ستينيات القرن الماضي، والتي شهدت تفجر ما أطلق عليه الثورة القومية التي كرست خروج العرب من نير الاستعمار القديم، وتطلعهم إلى عهد الاستقلال والحرية والكرامة والسيادة الوطنية، مثلهم مثل الأمم الأخرى، وكان شعارها الرئيسي: ارفع رأسك يا أخي.

شعوب سحقت تحت عنف الاستعمار معنويا وماديا، وقررت في النهاية أن تخرج من القفص وأن تكون سيدة نفسها. ويرجع الفضل لهذه الحركة في اقتلاع كل فرد عربي من منطق ونفسية المستعمر (بالفتح)، بما تعنيه من قبول بالدونية والميل إلى الخضوع والتسليم للأوروبيين والغربيين والاقتداء بهم في كل شيء والنظر إليهم كأسياد لا كأنداد.

وقد تطورت هذه الحركة في اتجاهات أخرى في ما بعد، نازعة إلى التحول إلى ديناميكية للاندماج الوطني وتكوين الأمة بالمعنى السياسي والاجتماعي للكلمة. وهذا ما رمت إليه فكرة العدالة الاجتماعية بوصفها مدخلا ووسيلة لإدماج الطبقات الفقيرة، وبشكل خاص الأرياف في دائرة السلطة والقرار والمشاركة في الحياة العامة والسياسية، لتكوين شعب واحد، ولو أن ذلك لم يتم إلا من خلال نخبها الانقلابية لا عن طريق بناء نظام المواطنة والديمقراطية. وكانت القطيعة بين أرياف -مهملة لقرون- ومدن تنظر إلى الأرياف نظرة دونية، حتى عند طبقاتها الشعبية، عميقة لدرجة لم يكن يمكن الحديث معها عن أمة واحدة أو شعب مواطنين متساوين ومتفاعلين.

كان هذا أحد أهم فصول تحرر العرب وخروجهم من عصر الاستعمار الذي قسم العالم بين أمم سيدة وشعوب مستعبدة، لقرون طويلة ماضية، وفي الوقت نفسه، تحويل النسيج الاجتماعي التقليدي الذي سيطرت عليه روح النظم شبه الإقطاعية والوجاهة الاجتماعية في اتجاه الحداثة السياسية.

لكن تلك الحركة التي حققت الانتقال نحو دول مستقلة وشعوب طامحة إلى المشاركة السياسية، استنفدت أغراضها مع تحقيق الاستقلال بالفعل. ولم تنجح رغم تأكيدها مبادئ الاستقلال والعداء للهيمنة الأجنبية التي ألهمتها، في الوصول إلى السيادة الناجزة، مع فشلها في تحقيق أي شكل من أشكال الاتحاد أو الاندماج بين الدول الجديدة في سبيل الحفاظ على الاستقلال، وفتح باب التنمية الحضارية الفعلية، وتأمين فرص العمل والتقدم لجميع الأفراد.

وكانت النتيجة أن فئات قليلة من تلك النخبة الريفية الجديدة التي أخرجتها الثورة القومية من تاريخ طويل من الإهمال، قامت بمصادرة ما أنجزته الثورة القومية لصالح بناء سلطة أبوية خاصة بها، ووضع اليد على مصائر الشعوب وموارد البلاد، عبر بناء نظام الحزب الواحد الذي لم يلبث أن تحول إلى نظام تعليب المجتمع بأكمله ووضعه في قفص الاتهام والإذلال.

وبعدما بسطت سيطرتها على السلطة والثروة عبر ما أطلقت عليه اسم بناء الاشتراكية والدفاع عن القطاع العام، لم تلبث -في حركة ثانية- باسم تخصيص الاقتصاد والتكيف مع معطيات السوق العالمية وزيادة فرص التنمية والتحديث، أن حولت الدولة ومؤسساتها إلى ملكية خاصة لأصحاب السلطة وحاشيتهم وأبنائهم وأزلامهم.

هكذا وجد الشعب دولة الاستقلال التي ضحى من أجلها رهينة في يد هذه الفئات، وفي بعض البلدان، وجد الشعب نفسه يتحول إلى عبيد حقيقيين يعملون بالسخرة لدى نخبة مفترسة لا تملك أي قسط من الشعور بالمسؤولية العامة أو بالمصالح الوطنية، ولا تتمتع بالحد الأدنى من الكفاءات السياسية أو الإدارية. وسوف تبرهن هذه الفئات في ما بعد على أنها لا تملك حتى حس الانتماء إلى الإنسانية، كما تشهد على ذلك ثورة الحرية والكرامة السورية التي تعرضت لأنماط من العنف والقتل البدائي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، لا تزال مستمرة منذ ٢٢ شهرا.

تنطوي هذه الحركة الجيوسياسية الكبيرة التي أطلق عليها العالم اسم الربيع العربي، وسماها الشعب ثورة الكرامة والحرية، وكان شعارها الشعب يريد، على هدفين رئيسيين: الأول تغيير النظام السياسي الذي حيّد الشعب واستعبده، وبالتالي تخليص الدولة التي وقعت أسيرة في يد النخبة المفترسة من براثن السيطرة العائلية والفئوية، وأعادتها إلى الشعب. والثاني إرساء ركائز الاعتراف بالفرد المواطن كأساس لبناء دولة ونظام حكم جديدين قائمين على دستور الوطنية الفعلي، أي الحرية والمساواة التامة بين الأفراد، بصرف النظر عن أصولهم وعقائدهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية، وعلى العدالة الاجتماعية.

إذن جوهر هذه الثورة هو تحرير الشعب من الاستعباد الداخلي بعدما حررته الثورة السابقة من الاستعمار الخارجي، وبالتالي مساواة الأفراد في ما بينهم بحيث يكون لهم جميعا نفس الحقوق ونفس الواجبات، ليس هناك من يتميز عن الآخر أو يحتكر حقا هو متاح للجميع، وبشكل خاص حق الوصول إلى مراكز المسؤولية السياسية وغير السياسية، والتنافس بين المواطنين بشروط واحدة لشغر أي منصب منها، وهذا هو معنى المواطنة.

 يعني هذا أيضا إنهاء عهد الوصاية والأبوية والتسلط والغش والقمع والقهر الذي استخدمته النخب الجاهلة الحاكمة من أجل تأبيد احتكارها للسلطة والثروة والجاه، وتوزيع العنف والذل والمهانة والفقر والموت بالتساوي على كل ما عداها من أبناء البلاد.

لكن تحقيق هذا الهدف كان يستدعي لا محالة الاصطدام بقواعد النظام الإقليمي الذي مكن لهذه الأنظمة خلال عقود من الاستمرار في الحكم ضد إرادة شعوبها، وقدم لها كل أشكال الدعم الأمني والعسكري والسياسي والاقتصادي حتى تنجح في تحييد الشعوب. وهو النظام الذي قام على التحالف بين النخب المحلية والقوى الكبرى الدولية في ما يشبه الصفقة الضمنية لتقاسم المصالح، بحيث تقدم الدول الكبرى الدعم لبقائها في الحكم ضد إرادة شعوبها، مقابل أن تضمن هذه النخب المصالح الأجنبية الحيوية.

فما كان لنظم احتكار السلطة والاستبداد والقهر التي تستدعي القدرة على تحييد الشعوب وحرمانها من أي حقوق، أن تقوم دون منطق الحرب الباردة الذي انقسم فيه العالم إلى مناطق نفوذ للدول العظمى، والتي قبلت فيه هذه الدول أن تحمي أتباعها من النظم وتدافع عنهم ضد شعوبهم أو خصومهم ومنافسيهم بكل الوسائل.

فمنطق الحرب الباردة الذي جعل النظم تعتمد على الشرعية الخارجية والدعم الدولي هو الذي هيج التنافس والنزاع بين دول الإقليم على الهيمنة، بمقدار ما قوّض أسس قيام توازنات إقليمية معتمدة على القوى الداخلية، ومنع من إنشاء أي منظومة أمن جماعية. فطالما ضمنت الحماية الخارجية ورضى الدولة الوصية، لا تعود هذه النخب تهتم بالشرعية الداخلية ولا بقبول المواطنين أو موافقتهم، بل لن ترى فيهم مواطنين أصلا ولكن “زيادة عدد” تتمنى أن تتخلص منه بأي وسائل ممكنة من التشجيع على الهجرة إلى الترخيص لمدن الصفيح التي تؤسس للهامشية الاجتماعية.

والواقع أن نظام الحرب الباردة القائم على التنافس والنزاع بين قطبين على حفظ مناطق نفوذ ثابتة لم يعد موجودا إلا في مناطق محدودة من العالم -ومنها الشرق الأوسط- لأسباب معروفة للجميع، وهي وجود مصالح إستراتيجية كبرى فيه، لا تريد الدول أن تتخلى عنها أو تتركها لدول هشة وشعوب لا تسيطر على قرارها. وأهم هذه المصالح منابع الطاقة الإستراتيجية واحتياطياتها، والحفاظ على أمن إسرائيل، والموقع الإستراتيجي المتميز للشرق الأوسط في عقدة المواصلات بين القارات والدوائر الحضارية.

ومن الأوضاع التي ارتبطت بالجغرافيا السياسية للحرب الباردة توالد مشاريع الهيمنة الخاصة بالدول الإقليمية، كما حصل في منطقتنا حيث نزعت الدول ذات الموارد الكافية إلى ضمان أمنها القومي وتوسيع دائرة نفوذها عبر فرض هيمنتها على الدول الأخرى في الإقليم نفسه. هذا ما حصل بالنسبة لعراق صدام وسوريا حافظ الأسد وإيران أحمدي نجاد. فانكشاف الإقليم كله أمام القوى الأجنبية وانعدام استقلاليته وتحوله إلى منطقة نفوذ أجنبي، يستتبع حتما أزمة مستمرة في ميدان الأمن القومي للدول، ويشجع على تطوير مشاريع الهيمنة القومية.

والواقع أنه ليس هناك نظم تتداخل في تكوينها العوامل الداخلية وعوامل الجيوسياسة الإقليمية والدولية كالنظم العربية. وربما كان النموذج الأكمل لهذا التداخل هو النظام السوري نفسه الذي يجمع بين أسوأ أنواع الاستبداد والقطيعة بين الشعب والنخبة الحاكمة من جهة، والاستفادة من العوامل الجيوسياسية، بل اللعب على جيوسياسة الحرب الباردة المستمرة في الشرق الأوسط دون انقطاع منذ الحرب العالمية الثانية.

وهذا ما يفسر تأخر دولنا عن الدخول في موجة التحولات الديمقراطية التي عرفها العالم بعد زوال الحرب الباردة وانهيار جدار برلين في العديد من مناطق العالم من أوربا الشرقية إلى آسيا الوسطى إلى أفريقيا وراء الصحراء.

وما كان لثورات الربيع العربي أن تتفجر لولا الضغوط القوية المتضافرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية (العداء للإسلام والثقافة الإسلامية في الغرب والعالم)، والتي دفعت الشعوب في النهاية إلى الانفجار في تونس ومصر وليبيا واليمن.

وقد أمكن لهذه الثورات أن تنتصر بسرعة لأن الغرب الذي تنتمي هذه النظم إلى منطقة نفوذه -بعدما تأكد من أنه لا سبيل لكسر موجة الاحتجاج الشعبي- قبلَ أن يضحي برأس النظم من أجل الحفاظ على النظم نفسها، مع تعديلات تكفل المشاركة الشعبية، طالما ضمنت الدول احترام التزاماتها الدولية والإقليمية الأساسية، وفي ما يتعلق بمصر مثلا عدم التخلي عن اتفاقيات كامب ديفد.

وبالمقابل لم يقبل الروس -الذين يقع النظام السوري في محور نفوذهم المعتمد أساسا على إيران- أي تغيير، خوفا من أن يشكل ذلك انتقالا لسوريا إلى محور النفوذ الآخر وتهديد القسمة الراهنة لمناطق النفوذ. وسعوا من خلال دعم النظام وتمكينه من كسر موجة الثورة والاحتجاج، إلى استخدام الأزمة السورية من أجل أن تفرض على الغرب احترام نظام الحرب الباردة أو نظام تقاسم مناطق النفوذ في الشرق الأوسط. وهم في منطق دفاعهم عن مواقعهم يعيدون حجج الحرب الباردة ويستخدمون مفرداتها التقليدية من فكرة المؤامرة الخارجية لوصف الثورة أو الإرهاب أو سيادة الدول في ما وراء سيادة الشعوب وحقوقها.

وقد التقت إرادة موسكو في استخدام الأزمة السورية للحفاظ على دورها الإقليمي، واستعادة جزء من دورها كقطب شريك للغرب في السياسة الدولية، مع إرادة الدول الغربية في استغلال الوضع ذاته لإعادة تعريف الدور الإقليمي لسوريا، سواء في ما يتعلق بتحالفاتها مع إيران أو بشكل أكثر بمركزها الإستراتيجي تجاه إسرائيل ليمدد في أجل الحرب ويزيدها عنفا.

فكما تحاول روسيا عبر الدعم الذي تقدمه للنظام السوري أن تقنع الغرب بأنه لا مستقبل لسوريا والمشرق دون التعاون معها ورعاية مصالحها في المنطقة، تسعى الولايات المتحدة عبر تمديد القتال إلى أن تخرج سوريا من المعركة مهيضة الجناح غير قادرة على أن تشكل أي تحد لإسرائيل أو لأي دولة أخرى إلى مستقبل منظور، وهو ما قامت به من قبل في العراق أيضا.

والحال هذه، لن تربح روسيا الرهان لأن سقوط النظام حتى لو لم يتحقق بالضربة القاضية، واضطررنا إلى انتقال ديمقراطي بدمج بعض ما يتبقى من النظام، فلن يكون لإيران -الحليفة الرئيسية لروسيا في الشرق الأوسط اليوم- في صراعها مع الغرب، أي حظ من النجاح في الإبقاء على علاقات إستراتيجية مع سوريا الديمقراطية.

أما الغرب والولايات المتحدة التي عملت قصدا على إطالة أجل النزاع فتجد سياستها منذ الآن في مأزق، مع تنامي تيارات الجهاد المعادية لها، أو احتمالات الفوضى والانقسام اللذين لا يمكن ضبطهما. ويهدد تأخيرها الطويل للحل على حساب دماء الشعب السوري، ثم سعيها إلى دفع المقاتلين السوريين إلى مواجهة بعضهم البعض باسم محاربة الإرهاب، الصورة التي كانت تسعى إلى ترويجها كصديقة للشعب السوري وداعمة لمسيرة تحوله الديمقراطية، ومن وراء ذلك نفوذها، ليس في سوريا وحسب، ولكن في الشرق العربي بأكمله.

وفي المقابل ستعزز ثورة الحرية والكرامة العربية -بمقدار ما ستمكن الشعوب من قرارها الوطني- حركة التفاهم والتعاون والتفاعل بين الشعوب والدول العربية، وتفتح الطريق إلى إعادة صوغ النظام الإقليمي بما يزيد من استقلاليته وسيادة دوله تجاه النزاعات وإرادة تقاسم النفوذ فيه من قبل الدول الكبرى.

وكما كان مستحيلا استمرار نظام الأسد البدائي والهمجي دون التغطية الإقليمية والدولية، أي دون البيئة الجيوسياسية للحرب الباردة المحافظ عليها في المنطقة، سيكون لتحرر سوريا من نظامها الدكتاتوري وامتلاك الشعب حق تقرير مصيره بالفعل، أثر مباشر على تعديل خريطة القوى والتوازنات الإقليمية، وفي ما وراء ذلك على أمل شعوب العالم أجمع في أن تكون نهاية النظام الهمجي السوري القائم درسا لجميع الدكتاتوريات التي لا تزال تعتقد بأنها قادرة -ببث الخوف والذعر والإرهاب- على البقاء ضد إرادة الشعوب ورغما عنها.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى