صفحات الرأي

حاشية الرئيس العربي تموت واقفة

 


شاكر الأنباري

من فضائل الثورات العربية أنها راحت تكشف الأنظمة بطريقة ممنهجة، كونها وضعتها على المحك، دون تزويق أو بهرجة. أقل ما يقال عن تلك الأنظمة، التي تهاوت أو التي تتنتظر، أنها وحسب ما ظهر للجميع، مكونة من لصوص، وقتلة، وسراق، ومرتشين، وإمعات فقدوا كرامتهم الشخصية، مهما رفعوا من شعارات، وطنية، قومية، مقاومة، تحرير، الى آخر المعزوفة التي سمعتها الشعوب طوال خمسين سنة أو يزيد. في اكثر من بلد عربي، كشفت تلك الثورات أن حاشية الرئيس مصطلح أكثر واقعية مما يتخيله المواطن البسيط. ومن يراقب ما يحصل في اليمن، وسوريا، وليبيا، يتحسس دلالة هذا المصطلح بملموسية عالية. فالحاشية ما زالت متمسكة بالدفاع عن الرئيس رغم الخسائر التي منيت بها، ومني بها الشعب، وهي تستميت يوما بعد آخر في الدفاع عن رئيسها وحاميها وولي نعمتها. والسؤال هو كيف استطاع الرئيس ان يخلق حاشية متماسكة، دموية، موالية له الى هذه الدرجة؟ حاشية تقتل بدم بارد وتكذب، وتعذب الأطفال، وتروج للإشاعات التي تخلط الأوراق؟ حاشية بعيون مغلقة تماما، اسدلت عليها صورة واحدة هي صورة الرئيس ليس الا؟ للوصول الى خلق حاشية مثل تلك هناك آليات جرى العمل عليها سنوات من عمر الحكم، ولعل على رأسها عزل النخبة الموالية عن معاناة الشعب، وعن حراكه السياسي وأحزابه.

والعزل جاء بالتأكيد على اكثر من مستوى، منه اختيار تلك الحاشية من الأقرباء، والعشيرة، والمذهب، والقومية، ممن لا يملكون اي ماض سياسي او معرفي او قيمي، وادخالهم في مصهر الرئيس. المصهر الدائب العمل والانتاج تحت مختلف الظروف. في ذلك المصهر يتغذى الأفراد من قيم الرئيس ذاته، ورؤيته حول ادارة البلد، وكانت تلك الرؤية تعتمد على ان الشعب ليس سوى رعايا، يمتلك الحاكم مصيرهم في الموت والحياة. والأمر الآخر هو الامتيازات، فلكي تخلق هوة بين النخبة والمواطنين ينبغي ان تجعل النخبة في وضع مختلف، يعتمد على حصولهم على امتيازات وصلاحيات غير التي يمتلكها الفرد العادي. رواتب عالية، نفوذ في الشارع، هويات خاصة نافذة في كل الدوائر والمؤسسات، بيوت في أمكنة مميزة، وحقوق مضافة ليس لها علاقة بالقوانين المعمول بها في البلد. بذلك كله تصبح النخبة فوق القانون، خصوصيتها تؤمن لها عقد صفقات مالية او تسهيلها، والتوسط لتمشية معاملات، ومباشرة محسوبيات في الوظائف العامة للدولة. وعادة ما تحاط النخبة تلك بنخبة ثانية، تتكامل معها وتروج لها، وهي النخبة المالية والاعلامية. سنة بعد اخرى تنحت ثقافة للحكم، يتشبع بها افراد الحاشية ليصبحوا فلترا لكل ما يجري في احشاء الواقع. وعن طريق هذه المصفاة تنكشف اية دلالات، ورموز، تتناقض مع ثقافة النخبة فتستبعد لاحقا، هي والمنتجين لها. بذلك تصبح الحاشية، أي ركائز النظام، ودعامات وجوده، كتلة مصمتة لا يمكن اختراقها من الخارج، ولا تريد ان يرشح اي ضعف منها نحو الخارج ايضا، مما يزيد انفصالها يوما بعد آخر عن الايقاع الحقيقي للحياة في البلد والعالم.

للنخبة الأمنية والعسكرية تقاليد معمول بها طوال سنوات، منها ترسيخ القسوة في نفوس افرادها، تتطور تلك القسوة لتصل في بعض الأحيان الى بربرية فجة، وهو ما يلاحظ عبر تعذيب المعارضين بأساليب حيوانية ومبتكرة، جسديا ومعنويا. وفي قتل اي مشكوك بولائه او خارج على سلطة الرئيس، وهذا ما لاحظناه في اليمن وليبيا وبلدان اخرى، اذ تصل درجة القسوة الى توجيه البنادق نحو صدور الأطفال المتظاهرين، والنساء، والأشخاص عموما، رغم انهم لا يحملون السلاح. فقتل شخص مسالم بهذه الجرأة، والمباشرة، وأحيانا أمام كاميرات التلفزيون، وعيون المراسلين، يبرز بجلاء مقدار القسوة المتمكنة في نفوس الحاشية، ومقدار الاستهانة بالأرواح، واستسهال عملية القتل ذاتها. هذا الاستسهال لا يأتي، بالتأكيد، فجأة، بل هو نتاج تربية أخذت سنوات من التجريب، والممارسة، لكي تصل الى هذا المستوى اللااخلاقي من الاستهانة بحياة البشر. ولكل قتل تبرير معين، ومسوغ، فالحاشية ينبغي ان تتشبع برؤية التسويغ تلك، اي وضع حاجز بينها وبين موضوع القتل الذي هو الشعب.

ثقافة التسويغ تتكئ على صياغة ثقافة المغايرة، اي ان تجعل من الهدف مغايرا، لكي تسوغ قتله. والمغايرة التي لاحظناها لدى حاشية الرؤساء الذين استخدموا للقتل، تأتي من ابواب عديدة، كأن يكون الآخر من طائفة اخرى او قومية مختلفة او قبيلة مناوئة، او من جموع تحركها اجندات خارجية تهدد أمن الوطن وسلامته، أو تيارات حزبية تمتلك مفهوما آخر للحكم ولبناء مؤسسات الدولة. استعداء النخبة على الحشود الثائرة يتم بتلك الطرق، وهو ما يخلق الجو النفسي لتقبل القتل الجماعي للآخر، لمتظاهري الشارع او المعتصمين او المنشقين، وملاحق اولئك من مرتدين، وخونة، وعملاء، وصهاينة، وجواسيس ومندسين وسلفية الى آخر القائمة التي تشيعها الأنظمة المتهاوية اليوم. وبالتالي فهم ليسوا من ابناء الوطن، تحولوا الى عدو خارجي. وبما ان النخبة، او الشبيحة، او الأمن والمخابرات، أو البلطجية، قد انشئوا للدفاع عن الوطن من العدو الخارجي، بعد أن اختصر الوطن الى حاكم متجبر، يحيي ويميت، لذلك فهم احرار باستخدام الوسيلة المناسبة لقمع العدو الخارجي. والقمع مهما كان بربرياً وحيوانياً وشاذاً، مبرر شرعاً وعرفاً وأخلاقاً، ما دامت الماكنة الاعلامية قد حولت المتظاهرين الى اعداء.

ان معظم فضائيات الأنظمة التي تمر اليوم بأزمة تحاول ان تلغي من عروضها اي دلالة على وجود ازمة، بوسيلة الحجب، اي حجب اولئك المحتجين عن الشاشات الوطنية. وهي تجهد بقوة لكي تكذّب التقارير المصورة التي تأتي من قنوات خارجية او محايدة، وتعتبر ذلك فبركة اعلامية هي جزء من المؤامرة الخارجية على الوطن. في آخر حدث استثنائي جاء من اليمن في واقعة قصف القصر الرئاسي، ظل التلفزيون اليمني ونخبه الاعلامية، وكل النخب المحيطة بالرئيس، تنفي ان يكون على عبدالله صالح قد اصيب في القصف، رغم انها تعلم جيدا الحقيقة. لكن الثقافة النخبوية الصلدة، المنفصلة عن الواقع، تعتبر ان الاعلان عن اصابة الرئيس هو ضعف يجب استبعاده من الأخبار والتغطية عليه. وهذا ما جرى ايضا في قضية قصف باب العزيزية في طرابلس، وفي وجود مقابر جماعية في درعا، فتلك الوقائع حسب رؤية الحاشية، لم تجر على الأرض انما فبركت اعلامياً للنيل من صمود الحاكم وثبات الحكم. والحاشية تلغي الواقع عبر اللغة، والصورة، والكل يتذكر قول الصحاف في يوم دخول الدبابات الاميركية الى بغداد حيث اكد الصحاف الخبر، لكن القوات العراقية تحاصر الأميركان داخل دباباتهم، كما قال.

والمغزى من هكذا تخريجات هو التلاعب بالعقل الشعبي، الذي تربى قرونا على العيش داخل اللغة دون السماح له برؤية الواقع. لكن آليات سلطوية مثل تلك عفا عليها الزمن، واثبتت تخلفها عن العصر. فتكنولوجيا العصر الحديثة لم تعد قابلة للتطويع، كونها توفرت بأيدي الشعب، وألغت الرقابة، والفلترة، والمركزة، التي مارستها حاشية الحكم عقودا من الزمن. والحاشية ايضا، كانت نتاج حزب واحد، وحكم ديكتاتوري، وتفرد في صياغة الحياة العامة، مما جعل مواصفاتها متشابهة هي الأخرى، وسقوطها بالتالي سيكون متشابها. فالحياة لم تعد تسمح بولادة أجهزة قمعية مثل تلك، جثمت على صدور الشعوب طوال الحقب الماضية. ومن هنا، ربما، نحن نشهد آخر التجارب في هذا المجال، اذ لم يعد الزمن زمن ديكتاتوريات دموية تخلق حاشيات شاذة تجاوزت شروطها الانسانية، وصارت عبئا على حركة التاريخ، بل وعلى الحياة ذاتها.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى