صفحات سوريةياسين الحاج صالح

حافظ الأسد والدولة الأسدية/ ياسين الحاج صالح

 

 

ماذا يمكن أن ينسب دون تجنٍ إلى حافظ الأسد بعد تمام 46 عاماً من حكم سلالته؟ ماذا كان مشروع الرجل الذي حكم سورية ثلاثين عاماً قبل أن يسلمها لابنه بشار؟

يمكن المجادلة قليلاً أو كثيراً في سيرة الرجل السياسية وسنوات حكمه الطويلة، لكن ما لا يمكن المجادلة فيه، في تصوري، هو أنه عمل بوعي وتصميم على بقاء الحكم في أسرته وأعد ابنه الأول، باسل، ليخلفه، قبل أن يعد ابنه الثاني بشار بعد وفاة باسل. لا يتحتم أن يكون هذا في باله منذ انقلابه في مثل هذا اليوم من عام 1970، لكن قلبَ سورية إلى مملكة أسدية مكتوبٌ في إرادة حفظ السلطة طوال الوقت، وحافظ أظهر منذ وقت مبكر جداً أنه مستعد لفعل كل شيء من أجل ذلك. وعليه فإن جوهر المشروع الذي يمكن نسبته إلى الرجل هو امتلاك كل السلطة على الكل في سورية، وحيث أمكن حولها، كل الوقت، أو «إلى الأبد» على نحو ما صار يقال في ثمانينيات القرن العشرين. معلوم أن هذا العقد الأخير شهد، فضلاً عن مذبحة حماه الكبرى، واعتقال عشرات الألوف، دخول تعابير مثل «البيعة» و»تجديد البيعة» و»المكرمات» و»العطايا» و»الأب القائد» و»سيد الوطن»، في سجل الخطاب العام في سورية. تحيل كل تلك التعابير إلى متخيل أبوي سلطاني، رجعي بكل معنى الكلمة، ارتبط بصورة وثيقة مع رفع حافظ فوق محكوميه درجات وتحصين حكمه.

وليس غير ذي دلالة أنه لم يقاوم هذا المتخيل السلطاني الممارس أو يعترض عليه وينتقده في أي وقت، تقدميون سوريون وعرب، صارت دمشق قبلتهم في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، وقت كان السوريون يسحقون. وإذ يصعب القول إنهم لم يلاحظونه، لا يبقى غير أنهم تواطؤوا معه وقبلوه. ليس هذا هو المقام الأنسب لسرد سيرة هذا المزيج من التقدمية و»السلطانية»، لكن يلزم القول إن هذا المزيج هو الثقافة الأسدية التي يجب أن تفصل ذات يوم ويكتب تاريخها. يكفي هنا القول إن دولة حافظ الأسد منذ ثمانينيات القرن العشرين، وبعد أن جرى سحق المعارضة الإسلامية واليسارية، كانت مضخة جبارة للنكوص الاجتماعي والثقافي، وكان لها جناح ثقافي لا وجه للتقليل من أهميته.

اقتضى مشروع حفظ السلطة من حافظ الأسد الاعتماد على موثوقيه الأهليين منذ وقت مبكر من حكمه. كان هذا الاعتماد مضخة نشيطة بدوره للطائفية والتمييز الطائفي في المجتمع السوري. فنحن حيال جهاز عام ارتكازي، يستند إليه النظام في استمراره وإعادة إنتاجه لنفسه. ثم إن هذه الجهاز، أو المركب الجهازي المنتشر في كل مكان، كان يمارس على الدوام عنفا إذلالياً تمييزياً مشخصاً، منفصلاً عن أي تصور للحق والحماية القانونية للأفراد واحترام المجتمع ككل. كان هذا المركب الجهازي قوة ضخ للطائفية وعلاقاتها عبر صفتيه هاتين: انتشاره العام الذي يضعه في تماس مع السوريين جميعاً في كل وقت وكل مكان من البلد، وصفته العنيفة والإذلالية التي تثير مشاعر العداء ونوازع الانتقام.

حافظ الأسد لم يكن مفصولاً عن بيئة عربية وشرق أوسطية تقوم على استثناء إسرائيلي من مبادئ العدالة والقانون، وعن ظهور دول الريع الاستخراجي وتعمم العلاقات الريعية التي تعود على الدول باستقلالية غير مستحقة، تضعها في موقع فوق المجتمع، وعن استقطاب دولي كان يوفر حماية لدول أضعف فتظهر أقوى مما هي في الواقع، وكذلك عن مشكلات اجتماعية وسياسة سورية متنوعة (حاثة الكيان و»اصطناعه»، وتالياً ضعف الهوية السورية والإجماعات الوطنية، مطالب متصاعدة نشيطة لأقليات كانت مهمشة لأمد طويل، خاصة العلويين…). لكن الرجل ونظامه لم يكونا مجرد نتاج لهذه الأوضاع، كانا فاعلين في إنتاجها وتثبيتها، وطليعين في قيادة التحول نحو الحكم الأبدي والتوريث. سورية هي الدولة العربية الوحيدة التي وقع فيها التحول السلطاني، وحظي بمباركة على مستوى القمة الدولية، وتبدو سلالتها الحاكمة مقبلة اليوم على النجاة من ثورة كبيرة، وإن بكلفة مدمرة للبلد المحكوم ومجتمعه. الدول العربية الأخرى التي شهدت ثورات في أوضاع غير طيبة كلها اليوم، لكن مشروع الحكم السلالي الأبدي تحطم في جميعها.

أقترح عبارة تحول سلطاني لهذه النكوص التاريخي الكبير الذي ما كان ممكناً لولا أن الأب كان قتل عشرات الألوف قبل أقل من عقدين من التحول. كلمة سلطان في العربية تعني القائم على السلطة، وتعني السلطة نفسها، وتتضمن نسقاً من القيم ما قبل وطني حديث، هو الذي تنتسب إليها مدركات البيعة وتجديد البيعة والعطايا والمكرمات والفتنة. وهنا تكون الدولة «نوبة» في الحكم، دوراً قد يطول أو يقصر، لكنه يستهلك عمره على غرار الدول الخلدونية، وليس منتجا للزمن، أي للتغير والتبدل والمستقبل. ما تتطلع إليه الدولة الأسدية هو بالضبط منع التغير، وهو تأبيد الحاضر ومنع المستقبل من القدوم. تعمر قليلاً أو كثيراً، لكنها ليست حليفة للزمن.

أستخدم عبارة الدولة الأسدية في وصف هذا الكيان، وأراها أنسب من عبارة السلطة أو النظام، أو النظام الأسدي، فضلاً عن عبارة النظام السوري. فهي من جهة تبرز الطابع المشخص والسلالي لهذا النمط من الحكم، ومن جهة ثانية تضمر أمثلة تاريخية معروفة من تاريخنا مثل الدولة الأموية والعباسية والحمدانية والبويهية والأيوبية والسلجوقية والعثمانية… ولا يبعد أن حافظ الأسد فكر في نفسه كملك لسورية وبان لسلالة. وفي كل حال، تتضمن كلمة دولة في عبارة الدولة الأسدية تصور سلطة قائمة على الشوكة والغلبة، يتولى تصريفها الدهر، ويخضع تداولها للأيام (هي الأمور كما شاهدتها دول/ من سره زمن ساءته أزمان، يقول أبو البقاء الرندي)، وليس بحال تصور الدولة الحديثة كمؤسسة حكم عامة، تقوم على المساواة الحقوقية والسياسية، وعلى قواعد حكم مُطّردة، وعلى أشكال عقابية من العنف (ليست إذلالية ولا انتقامية)، وعلى صيغ «عقلانية» مرتبة اجتماعياً للتداول السياسي، لا تترك قياده بيد الدهر.

والمسألة ليست اصطلاحية على كل حال. فبما أننا حيال دولة سلالية خاصة، لا يسعنا التكلم عن مؤسسات عامة يجب الحفاظ عليها من أجل ضمن استمرارية الدولة السورية، أو إن شئنا الدقة، هناك مؤسسات عامة انحدرت إلينا مما قبل الزمن الأسدي، لكنها موهنة، تابعة، ومفرغة من السلطة، مثل الحكومة والإدارات والمدارس والجامعات والجيش النظامي (من غير التشكيلات ذات الوظيفة الأمنية)، تشكل بمجموعها الدولة الظاهرة؛ أما ما هناك من مؤسسات ذات سلطة، الأجهزة الأمنية والتشكيلات العسكرية ذات الوظيفة الأمنية والأسرة الأسدية، فكلها خاصة، وتشكل بمجموعها الدولة الباطنة. الفرق بين الدولتين هو أن الأخيرة، الباطنة، فوق القانون، فيما الثانية تحته. يصح في القانون ذاته ما سبق لماركس قوله عن القانون البورجوازي: أداة بيد الدولة الباطنة والبرجوازية الجديدة المرتبطة بها. ووحدها مؤسسات الدولة الباطنة صاحبة القرار في شأن استخدام العنف والحائزة الحصانة، وغير المسؤولة أمام أحد. والدستور الحقيقي لها هو: كل السلطة على الكل كل الوقت، وفي غرائز مؤسساتها الخاصة نازع عداء لمجتمع المحكومين وطابع إذلالي للعنف الممارس.

ولا يحتاج المرء إلى أن يكون سيئ الظن على نحو خاص حتى يفكر في أن الأجهزة الأمريكية والروسية تريد الحفاظ على «مؤسسات الدولة» هذه لهذا السبب بالذات. المشترك بينها، وبين مؤسسات الدولة الأسدية هو النظر إلى العموم في مجتمعاتنا كحشود متطرفة، خطرة وغير عقلانية، وهي نظرة متأصلة في تراث استعماري واستشراقي معلوم. وما يترتب على هذه المناقشة سياسياً هو أن فرص انبعاث الدولة العامة في سورية مرهونة بتحطيم الدولة الخاصة الأسدية، وأولها أجهزة عنفها القاتلة. هذا «داعش» من صنف آخر مع قدرة أوسع على القتل، ومع سجل محقق أوسع بما لا يقاس من القتل والتدمير. واستبقاؤها كمؤسسات عامة ليس أوجه في شيء من استبقاء أجهزة «الدولة الإسلامية».

كان جوهر القضية السورية هو استعادة سورية من الأسديين، وهذا مشروع متعثر إلى أقصى حد اليوم. على دأب سلالات كثيرة في التاريخ، فضلت السلالة الأسدية تسليم البلد للروس وللإيرانيين وأتباعهم الطائفيين على تسوية تاريخية، تضع السوريين ككل في وضع أفضل في بلدهم. قد يبقى الأسديون في مواقعهم إلى حين، لكن خسروا السيادة ولم تعد دولتهم تتحكم بشروط إعادة إنتاج ذاتها.

على أن الصراع مع السادة الجدد مفتوح، وهم أنفسهم من يخلقون شروط تجدده المستمرة. وهذا يبقي الحاجة إلى سورية جديدة، مستقلة، لاأسدية ولا طئافية، حياً وواجباً، اليوم وفي كل وقت. سورية لا إسلامية أيضاً، فليس هناك حل إسلامي للمشكلة الأسدية وعقابيلها. إلا أن تفصيل ذلك يقتضي مقدمات مختلفة.

كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى