صبحي حديديصفحات سورية

حامل العصا

 


صبحي حديدي

ذات يوم، في آذار/مارس 2003، خلال خطبة افتتاح أوّل دورة في عهده لمجلس الدمى المتحركة الذي يُسمّى ‘مجلس الشعب’، شنّ بشار الأسد هجوماً عنيفاً على المعارضة السورية؛ ليس لأنها تعارض نظامه القائم على التوريث والإستبداد والفساد والحكم العائلي، إذْ كان الهجوم سيجد مسوّغه الأوّل، بل لأنّ المعارضة… لا تكفّ عن اقتباس خطاب القسم الذي ألقاه، في المجلس ذاته، ساعة توريثه! ولقد أوحى أنّ المعارضة هي السبب الوحيد في بلاء سورية، والورم الخبيث الذي يتوجب استئصاله على الفور، دون تهاون أو شفقة أو تردد! النظام، الراكد العاجز عن التبدّل والتطوّر والإصلاح، ليس جوهر المشكلة، أو أمّ المشكلات جميعاً ربما؛ بل هي المعارضة، التي تجهل معنى مصطلح الديمقراطية. والفاسدون، الذين ينهبون الوطن ويستنزفون طاقاته وثرواته، ليسوا مصدر قلق أو سخط؛ بل هم المعارضون، الذين يرون أنّ ‘الديمقراطية حلّ لعقدهم النفسية على حساب الآخرين’!

وقال الأسد (مرتجلاً، ونقتبسه هنا ـ حرفياً، بعلامات الوقف ذاتها ـ عن نصّ وكالة الأنباء السورية ‘سانا’): ‘تحدثوا عن خطاب القسم ورفعوه كعَلَم.. وجعلوه خطة تنفيذ.. بينما هو منهج تفكير.. والفرق كبير بين منهج تفكير وخطة تنفيذ.. منهج تفكير هو كيف يفكر هذا الشخص الذي ألقى الخطاب.. وهذه هي آلية تفكيره.. لا بدّ للمواطن أن يعرف كيف يفكر هذا الرئيس. هناك العديد من المصطلحات التي طرحت في خطاب القسم.. وكلها مصطلحات متداولة.. لا يوجد فيها أي مصطلح جديد.. كلها تمّ تعريفها بالشكل الذي فهمتها أنا.. فإذاً منهج التفكير بحاجة لخطط تنفيذ وليس خطة تنفيذ.. ربما تربط بجدول زمني.. ربما لا تربط.. هذا موضوع آخر’.

ولا ريب في أنّ خيار الخطابة ارتجالاً (والذي كان الأسد يفضّله في مطلع عهده، قبل أن يتنبه إلى أنّ القراءة من نصّ مكتوب هي خير وأبقى!)، جعل الأفكار تتدافع على هذا النحو الذي لا يتماسك تماماً في صيغة ملموسة. فليفترض المرء أنّ هذه مسألة أسلوبية، وليذهب إلى سلسلة من التساؤلات المستمدّة من جوهر ما يمكن أن يعنيه الأسد: هل يقصد القول إنه كان من الخطأ التعامل مع خطاب القسم كخطة تنفيذ، وكان المطلوب تجريده من صفة ‘الخطاب الرئاسي الأوّل’، واعتباره مجرّد منهج تفكير؟ ومتى تنفّذ السلطة التنفيذية أشغالها، إذاً، واستناداً إلى أيّة سياسات وخطط وتوجّهات؟ وهل يكفي أن يعرف المواطن كيف يفكّر ‘هذا الرئيس’، لكي تشتغل الدولة وتخطط وتنفّذ؟ وإذا كان منهج التفكير هذا يستلزم ‘خطط تنفيذ وليس خطة تنفيذ’، فما الذي منع الدولة من رسم تلك الخطط؟ وفي الأساس، ما جريرة المعارضة هنا؟

بيد أنّ الأسد تناسى، أو لعله نسي بالفعل، أنّ الذين تحدثوا عن خطاب القسم ورفعوه كعلم لم يكونوا في صفوف المعارضة، بل كانوا ويظلّون حتى اليوم في صفوف السلطة، وفي عداد المطبّلين لها هنا وهناك، في وسائل الإعلام الرسمية مثل وسائل إعلام أحزاب ما يُسمّى ‘الجبهة الوطنية التقدمية’. كذلك بدا الأسد وكأنه يُسقط ذريعة أساسية استخدمها الذين لم يكونوا من أنصار السلطة أو محازبيها، ولكنهم عقدوا الكثير من الآمال على وعود التغيير التي أوحى بها خطاب القسم. ولقد مضى اليوم زمن كانت فيه مقالات هؤلاء، المستبشرة خيراً على صفحات صحيفة ‘الثورة’، لا تخلو أبداً من اقتباس خطاب القسم!

كذلك قال الأسد، في الخطاب ذاته: ‘تحدثنا في خطاب القسم عن الديمقراطية وقلنا إن الديمقراطية هي أخلاق ففهموها تهجماً على التاريخ.. وتهجماً على رموزنا الوطنية التي نفتخر بها جميعا. قلنا إن الديمقراطية هي تعزيز للأمن والاستقرار. فالبعض فهمها تعميماً لعدم استقراره النفسي على الوطن ومساساً بالوحدة الوطنية. قلنا إن الديمقراطية هي صناعة وطنية. قالوا إنها عبارة عن مصطلحات نضع الوطن داخلها.. مصطلحات مستوردة. قلنا إنها حلّ لمشاكل عامة. قالوا إنها حلّ لعقدهم النفسية على حساب الآخرين’. لكنّ سوابق الوريث، حتى تلك الساعة، كانت لتوّها كافية لاستكناه طبائع هذه ‘الديمقراطية’ الذي زعم تصنيعها وطنياً، ولام المعارضة لأنها تطالب باستيرادها!

ففي المناسبة الدستورية الأولى لعهده، أي الإستفتاء الرئاسي، كانت نسبة الـ 97.29 في المئة بمثابة لطمة عنيفة ذكّرت المواطنين بما كان يتكرّر في الماضي من نِسَب مماثلة عند التجديد لانتخاب الأسد الأب؛ الأمر الذي شكّل ـ في كلّ مرّة ـ مصادرة صريحة للعقل الطبيعي والمنطق السليم، وإهانة مباشرة للمواطن السوري. وفي المناسبة الدستورية الثانية، خطاب القسم الشهير، أعلن الأسد أنه لا يملك ‘عصا سحرية لتحقيق المعجزات’. وفي الواقع لم يكن أحد يطالبه بإشهار تلك العصا، إذا كان ‘الرئيس الشاب’ قد تملّص من إلزام نفسه بإلغاء حال الطوارىء، أو إعادة تنظيم الحياة السياسية بما يكفل بعض التعددية وبعض الحريات، أو إصدار عفو عام…

واليوم، بعد خطبته الأولى في زمن الإنتفاضة، وتعاليمه الرئاسية للوزراء: الكتبة؛ لا أحد، سوى الحمقى ورهط المطبّلين المزمّرين، يفترض أنه سوف يستخدم تلك العصا السحرية، حتى لو أوقعتها المعجزة بين يديه. ولماذا يفعل، وهو حامل عصا كهربائية هي المفضّلة لديه!

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى