صفحات الناسهيفاء بيطار

حبوب الفرفشة في سورية/ هيفاء بيطار

 

 

لم يعد بالإمكان السكوت عن ذلك السرطان المُتفشي لدى جيل الشباب (ت) في سورية، وهو حبوب المُخدرات التي يُسمونها حبوب الفرفشة، وتجعل من يتعاطونها في حالة من الابتهاج والفرح والضحك، كما لو أنها تنقلهم إلى عالم آخر، لا يمُت بصلة للواقع المُحبط والوحشي القسوة الذي يعيشونه. ولم أسمح لنفسي بالكتابة عن حبوب الفرفشة (نفسها حبوب الهلوسة وخلطة من عدة أنواع من المُخدرات) لولا مُعاينتي حالات مئات من الشبان (ت) الذين يتعاطونها، ومنهم مراهقون بأعمار لا تتجاوز الثلاثة عشر عاماً. تتوفر حبوب المخدرات بمنتهى البساطة، فهي تُباع مثلاً في أكشاك بيع القهوة والكابوتشينو في شوارع اللاذقية بكثرة. ويجد المُراهق والشاب المُحبط عدة شياطين، يُغوونه بتجريب حبة فرفشة، ويقدمونها له مجاناً في المرة الأولى، أو بسعر خمس ليرات سورية فقط!

وبما أن هذا الشعب المنكوب تجرّع مصائب وكوارث، يعجز شمشون الجبار عن تجرعها، فإنه يجد من السهل عليه ابتلاع حبة هلوسة، تنقله من واقعه المُحبط، حيث كل شاب يتذكر عديدين من زملائه الذين يماثلونه في العمر، وقد تحولوا إلى أوراق نعي، ويمر في الشوارع ليجد صور أصدقاء طفولته وأصدقاء اللعب والفرح وانتظار انصراف الفتيات من المدرسة، لتتضرج الخدود بحمرة الهوى البكر، يجدونهم وقد تحولوا إلى جثث وأوراق نعي، ويشعرون أن دورهم قادم، وتقفز حبة المخدرات، بسهولة تامة، إلى حلقهم لتنقلهم إلى عالم مُغاير تماماً لواقعهم المرير، حيث يُصابون بحالة من هياج الفرح والغبطة والضحك بلا توقف، لتعقب هذه الحالة حالة شديدة من الاكتئاب، تجعل مُتعاطيها يبحث، بلهاث وإلحاح، عن الحبة المهلوسة والمُفرفشة التالية، ليتعاطاها وليستعيد مشاعر الغبطة الزائفة إياها .

عدة شبان دخلوا السجن مرات، بسبب تعاطي هذه الحبوب، وتحول بعضهم إلى الاتجار بها، وقبل أن أدين هؤلاء الشبان، كما يفعل أهلهم عادة، خصوصاً حين يكون منطقهم الوحيد يتلخص بالعبارة التالية: لم ننقص عليهم أي شيء وربيناهم أحسن تربية، فكيف يمرغون كرامتنا في الوحل، ويتعاطون هذه الحبوب السامة، ويدخلون السجن. أتفهم ألم الأهل وخيبة أملهم وإحساسهم بالخزي، لكن السؤال: لماذا يتعاطى الشباب (ت) السوريون حبوب الفرفشة أو المُخدرات؟ بعد الإجابة عن هذا السؤال، يمكن تحديد المسؤوليات وإدانة الشبان المُدمنين.

ما مستقبل الشاب السوري في بلده؟ الإجابة أكثر من بسيطة، بل بديهية، إذ أصبحت كلمة شاب مُرتبطة بالبندقية، فحتى الذين خدموا العسكرية يُطلبون للاحتياط، أي أنهم خلال أيام أو أسابيع يعودون (أو لا يعودون) إلى أهلهم جثثاً، وتلصق صورهم على الجدران يحملون البارودة، بدل القلم أو الكتاب، وتحت الصورة عبارة الشهيد البطل. الاحتمال الثاني أن يتمكن الشاب السوري من الفرار من بلد القتل سورية وأن يهرب، إما في قوارب الموت، حيث يكون احتمال موته غرقاً، وابتزازه من تجار الموت كبيراً أيضاً، وإن نجا من الموت فعليه أن يقف شحاذاً، وسط طابور بلا بداية ولا نهاية، منتظراً دوره في اللجوء. والاحتمال الثالث أن يدفع الإحباط، بسبب الواقع المعيشي وانهيار الاقتصاد السوري وانعدام فرص العمل ونزوح ملايين من المدن المنكوبة في سورية إلى الساحل السوري، حتى يبدو مشهد الساحل السوري، كما لو أنه مهرجان الجنون.

هذا واقع معيشي هستريائي يُدمر أحلام الشباب بمستقبل آمن، وهم يرون أقرانهم ماتوا عبثاً، أو غرقوا في البحر، أو تحولوا إلى متسولين على أبواب السفارات الأجنبية، لأن سفارات أشقائهم العرب ترفضهم لمجرد أنهم سوريون. كل هذا الإحباط الذي لا طاقة للجهاز العصبي لشباب في زهرة العمر على تحمله يدفعهم إلى تسكين آلام أرواحهم، والهروب من واقع ظالم قاسٍ ومُحبط إلى عالم آخر، ولو عن طريق السم وتناول حبوب الفرفشة والهلوسة، لكنهم يجدون راحة بديلة وسعادة بديلة، ولو كانت مغشوشة.

اعترف لي تلميذ في الثامن الابتدائي بأنه اشترى حبة فرفشة بخمس ليرات للمرة الأولى، وأن بائع النيسكافيه قال له إن هذه حبة السعادة. أخبرني هذا الطالب أنه لم يتوقف عن الضحك والرقص ست ساعات، وسرعان ما أدمن على حبوب الفرفشة، وصار لا يستطيع الاستغناء عنها، وتصيبه نوبات عصبية، ويصبح عدوانياً، يكسر كل ما في طريقه ويصرخ مجنوناً من الصداع، مُطالباً بالحبة التي تخطفه من الواقع المؤلم. حكى لي أن أمه لا تعرف الابتسام ولا تكف عن البكاء، لأن ولديها في الجيش السوري، في درعا وفي حلب، وأنها طالما تعرضت إلى نوبات إغماء، عندما تسمع أن فصيلة من الجيش السوري تعرضت للقتل أو الخطف. وحكى لي التلميذ أن ابن خالته مُعتقل منذ سنوات في معتقلات النظام، لأنه شارك في مظاهرات.

مسرح الجنون واللامعقول هذا هو واقع العيش في سورية، وهذا ما يدفع الشبان (ت) لتعاطي حبوب الفرفشة التي تُدمر جهازهم العصبي، فأي مستقبل لسورية الحديثة، سورية الكرامة والحرية والجيل الذي من المُفترض أن يبنيها ضحية المُخدرات؟ أما كيف يتاجر تجار الموت والمخدرات بتلك السهولة بهذه الحبوب؟ فالأمر بسيط، مجرد رشوة لجهة رسمية، ويغض الطرف عن تجار الموت وتسميم الشبان. الفساد في سورية في ذروته وضحيته الأولى الشباب، تلك الطاقة المُعطلة، والتي يسعى أطراف كثيرون إلى تدميرها عن طريق “حبة الفرفشة”، بينما يصبح الوطن قبراً جماعياً، وأرض سورية تشبعت بالدم المسفوح عبثاً وبكثافة، وعلى من تبقوا من السوريين في قفص اسمه سورية تعاطي حبوب الهلوسة، لأن أدمغتهم عاجزة عن تحمل كل هذا الترويع! لكن، من يبالي بشبان سورية وأطفالها وشاباتها؟ إنهم كباش المحرقة، والأحياء على شفير الهاوية والدمار.

قبل أن نتهم الشباب بالانحطاط والفساد والقرف منهم بسبب خيبة أملنا فيهم، علينا أن نضع أنفسنا مكانهم، ونتساءل عن أي مستقبل ينتظر شباب سورية في وطن مأساة القرن العشرين.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى