صفحات الثقافةمحمد أبي سمرا

“حبّ وقمامة” للروائي التشيكي إيفان كليما: لغة الحمقى وأنين الضحايا يملآن العالم


    محمد أبي سمرا

الحب والقمامة في مجتمع ذي نظام توتاليتاري (تشيكيا في الحقبة الشيوعية)، ولغته، “لغة الحمقى”، ومذكرات المحرقة اليهودية في الحقبة النازية وفي الحرب العالمية الثانية، هي الفضاء العام للشخصيات والسرد والتأملات والكنايات والحوادث الروائية ومدارها في رواية التشيكي ايفان كليما، “حب وقمامة”، الصادرة في العربية، ترجمة الحارث النبهان، لدى “دار التنوير” بيروت 2012.

كتبت الرواية في براغ بين 1983 و1986. يحضر كافكا في كتاباته الروائية وسيرته، كلازمة دائمة في نسيج القص الروائي. فكافكا وأدبه لا تغيب ظلالهما عن الادب الروائي في اوروبا الوسطى. وعلى غرار ما عمل طبيب في احدى روايات التشيكي ميلان كونديرا، الكافكوي الهوى الروائي، عاملاً في تنظيف زجاج البنايات في براغ، بعدما حرمه النظام الشيوعي في بلده من مزاولة مهنة الطب، لأنه عديم الولاء للعقيدة الشيوعية ومنظماتها الحزبية، يعمل الكاتب في رواية كليما، مجايل كونديرا، شغّيل تنظيفات في شوارع العاصمة التشيكية اياها، لكن من دون سبب وتفسير واضحين ومعلنين لخياره هذا. فبعد عمله ستة اشهر مدرّساً جامعياً في اميركا، عاد الكاتب الراوي في “حب وقمامة” الى بلده ومدينته براغ، لأن “وجودي ضمن حشد من الغرباء يخلق عندي قدراً من الاكتئاب”، برغم ان زملاءه ومعارفه “كانوا لطفاء كلهم، مبتسمين جميعاً، كما هم الاميركيون دائما”. حين سألوه لماذا يغادر “بلدهم الغني الحر الى بلد فقير لا ينعم بالحرية، حيث من المحتمل أن أُسجن او يُبعث بي الى سيبيريا”؟، يعترف لاحقا “بتشدقه” في قوله لهم انه راغب “في العودة الى موطنه، حيث يجد الناس الذين يحبهم، ويستطيع التكلم بطلاقة والاصغاء الى لغته الام”. ويضيف ايضا: “فحتى لو اضطررت الى جمع القمامة من الشوارع، فسوف اكون في نظر الناس في بلادي، كما اريد ان اكون: كاتباً”، بدل ان “أظل واحدا من اولئك المهاجرين الذين أُشفق عليهم في هذا البلد العظيم”، اميركا، التي كتب كافكا رواية عنها وسمّاها باسمها، من دون أن يزورها.

عاد الراوي الى موطنه، فكتب مسرحيات وروايات ظلت مخطوطة وجرى تداولها وقراءتها سراً في دائرة اصدقائه الضيقة، على ما ورد ايضا في بعض كتابات كونديرا ورواياته عن حقبة براغ من حياته، قبل فراره الى فرنسا العام 1975، ونشره كتبه فيها. راوي “حب وقمامة”، صاحب المسار المعاكس لكونديرا وللشخصية الاساسية في روايته “خفة الكائن غير القابلة للاحتمال”، اكتشف ان بلده غارق في “لغة الحمقى” على ما يردد في طول الرواية وعرضها، كناية عما يطغى على الوجود البشري، ويتحكم بالعقل والتدبير والتعبير والعلاقات والقيم في “الجنة الشيوعية”. خيبته هذه وظنه ان “عقله سوف يغدو خاملاً” في حال استمراره كاتبا في “عالم لغة الحمقى”، حملاه على اختيار مهنة اخرى، عامل تنظيفات، لاعتقاده ان هذه المهنة سوف تكسبه “طريقة غير متوقعة في النظر الى العالم والناس” والوجود والنفس “من زاوية جديدة”. لكنه مجدداً اكتشف، فيما هو يكنس الشوارع، انه ليس سوى “مجرد شخص يكنس الشوارع، شخص لا يكاد يلاحظه احد”. غير أن هذه المهنة – التجربة التي جعلته شخصاً مجهولاً، أخرجته من “عالم الحمقى” ولغته، ومكّنته من رؤية العالم الشيوعي وغير الشيوعي، والوجود البشري برمته، من الحضيض الوجودي السفلي الى أرفع درجات التسامي الإلهي والأرضي في الكائن الانساني المترجح بين الخطيئة والخيانة والصدق والخلاص والألم والشقاء والحب والكراهية والسعادة وعذاب الضمير والحقيقة والعبث.

خيار الراوي هذا (تحوله عامل تنظيفات)، حقيقي وواقعي قدر ما هو كناية ومجاز. لكنه على خلاف مهنة الكتابة التي تعصى “على التحديد الواضح” في مجتمع تسوده “لغة الحمقى”. ثم ما هو “الشيء الذي يميز الأدب الحقيقي عن مجرد الكتابة التي يستطيعها أي إنسان” في كل زمان ومكان؟! يتساءل الراوي الذي هيهات أن يصل الى غاية ومستقر، ويستنفد تأملاته وتقليب نظره في أحوال الوجود البشري وأقداره كلها، الكبرى والصغرى، العامة الجامعة والشخصية الفردية. هكذا لا يتوقف السرد الروائي عن الترجح الدائم بين العبث والسخرية والمرارة والتهكم السينيكي والحقيقة والواقع والكناية والمجاز، في تقصيه أفعال البشر وخياراتهم ومصائرهم. في العالم الشيوعي، حيث يعيش الناس العاديون “نوعاً غريباً من النفي” محاطين “بالممنوعات والمحظورات”، مراقَبين من “أشخاص مرئيين وغير مرئيين ومتخيلين”، لا يعود “مسموحاً” لمن لا يسلس قياده الى “لغة الحمقى” أن “يدخل الحياة إلا بصفة زائر أو ضيف، أو بصفة عامل مياوم في بعض الاعمال المحددة”، فيظل فائضاً عن الحاجة، كنفاية بشرية. لذا “ما عدت أحاول معرفة ما يحدث في أي مكان، واكتشاف وقت تغير الظروف التي أستطيع وصفها بأنها غير مؤاتية” أو مؤاتية. إنه الخواء والعبث، إذاً، حيث لا “شيء يمكن أن يرتفع بحياتنا فوق الخواء وانعدام المعنى”. في هذه الحال تصير “أهم الاشياء في الحياة غير قابلة للتناقل بين الناس، وغير قابلة للتعبير عنها بالكلمات”. أما من يعتقد أنه “يستطيع أن ينقل الى الآخرين جوهر الله، واكتشف الايمان الحق، وفاز بنظرة الى سر الوجود، فليس إلا من الحمقى الواهمين، بل هو مصدر للخطر في معظم الأحيان”. الاعتقاد هذا هو جوهر الشيوعية وسواها من المعتقدات القومية والعرقية الشوفينية – وما أكثرها في ثقافتنا وعوالمنا العربية والاسلامية – التي ترى أنها عثرت على ما هو ثابت وحقيقي ودائم في الوجود البشري. وفي كناية أو استعارة كبرى، يرى الراوي عامل التنظيفات، أن هذه المعتقدات، مثل “القمامة العصية (وحدها) على الفناء، مثل الموت” الذي هو صنو العيش في مجتمعات تنقاد الى معتقدات الحمقى. هذا فيما الحياة الفعلية، الحياة الحقة والواقعية، بل “كل قدر بشري”، كل لحظة في أي قدر بشري، هي “تجربة” فريدة “لا تتكرر”، مثل “قطرة في محيط”. “لكن من عساه يقدر على تحديد هوية تلك القطرة، وعلى فصلها عن ذلك المحيط؟ ولماذا يتعين على القصص الجديدة أن تكون مخترعة؟”، شأن رواية “حب وقمامة” المخترعة قدر ما هي أشد واقعية من الواقع في العالم الشيوعي الذي حوّل البشر قمامة في المعتقلات والمعسكرات، شأن النازية ومحارقها اليهودية. ففي الحرب العالمية الثانية وقبلها “جميع الذين كنت مولعاً بهم وجميع من أعرفهم – يقول الراوي مستعيداً ذكريات طفولته – قد ماتوا، سُمِّموا بالغاز، ثم أُحرقوا، مثلما تُحرق النفايات” البشرية. وها هو النظام البعثي الأسدي يغرق سوريا في الجثث، منذ سنة ونصف السنة، مسمياً السوريين “عصابات مسلحة”، لأنهم ما عادوا يتحملون العيش كفضلات بشرية أبدية.

بين عمله اليومي جامع نفايات، وفراره المتقطع من ملل حياته الزوجية مع امرأة تعمل محللة نفسية، وإهماله زوجته وأولاده الذين شبّوا وتزوجوا وأنجبوا، ولقاءاته الغرامية المتكررة الجارفة مع امرأة نحاتة ورسامة تمنحه علاقته بها طاقة روحية، هي وحدها تضفي على حياته القاتمة شيئاً من بريق الكينونة الصافية الممزوجة بطعم الخطيئة والخيانة والألم وعذاب الضمير، بين هذه الاحوال يترجح السرد الروائي، مستعيناً بكافكا كلازمة دائمة في تأملاته الفكرية في حوادث الوجود البشري في القرن العشرين، مرئياً من النفايات المادية لهذا الوجود: “مضى الكناسون (…) يجمعون تلك الاشياء العديمة الفائدة في أكوام تكبر، تمتد، تتفسخ، تنتفخ مثل الخميرة وترتفع نحو السماء (…) مثلما يفعل ورم سرطاني، مثلما تفعل المستوطنات البشرية. وهذا ما يجعل صعباً علينا التمييز بين ما لا يزال من أشياء حياتنا وما هو من أشياء موتنا”. ثم تولد فجأة فكرة تأملية مجنونة: “إن كتل الافكار المرمية هي الأكثر خطورة بين القمامة (…) والروح التي تلمسها تلك الافكار تروح تذوي، وسرعان ما لا يراها أحد حية من جديد”. هذه الارواح التي تذوي هي أرواح ضحايا العالم. وهم ضحايا “مَن لا أرواح لهم (الذين) لا يختفون عن وجه الارض” التي يملأونها “زئيراً مستمراً الى الابد، لكن سرعان ما يعقبه صمت الموت، صمت الخواء والنسيان”.

غير أن “شيئاً لم يختفِ ولن يختفي من هذا العالم: أرواح من قتلوا، أرواح الضحايا، ومن أحرقوا أحياء، أو جُمّدوا حتى الموت، أو ماتوا ضرباً بالعصي أو سحقوا أو شُنقوا أو جُوّعوا حتى ماتوا، أرواح من تعرضوا للخيانة أو من انتُزعوا من أرحام أمهاتهم، هذه الارواح كلها ترتفع فوق الارض وفوق البحار وتملأ الفضاء بأنين أصحابها”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى