أحمد عمرصفحات الناس

حب شامي يضرب به المثل/ أحمد عمر

 

 

سألني نوري: حرقتَ معلاقي، وأنت تقول مثل “حب أم شام لأبي شام”. ما قصة هذا الحب خال؟

قلت: أروع من قصة روميو وجولييت، وقيس وليلى، وعروة وعفراء، وجميل وبثينة، وعنترة وعبلة، وكينغ كونغ وآن دارو..

نوري: نسيت ممو زين خال.

قلت: وممو زين، وفرهاد وشيرين، وطبيبة الجلدية والسيسي (امرأة التيتانك). أبو شام، سائق سفريات، ومن الطريق أخذ لقبه، هو سائق فاسد، لكن به آثار نخوة قديمة، مفتون بشهوة النساء، متى يرَ امرأة “تدخّن” على الطريق يقف كابحاً باص السكانيا ويقلّها.. إلى سرير الندامة. الدخان علامة بيع الهوى المؤمم كما تعرف.

ارتكب ثلاث حوادث قاسية سجن بها. وفي الحادثة الأخيرة، كنت راكباً في الباص معه، مات في الحادثة سائق السيارة وزميله الضابط، فصار خصماً للدولة. سأروي لك قصتها لاحقاً. خرج من السجن بعد مدة، وهو يكرّر في كل حادثةٍ قولة حق: هذا جزاء الفسق والفجور. لكنه لم يكن يرعوي.

تزوج أبو شام بدوية عجفاء، اسمها هنود، وأحضرها إلى البيت، فاستقبلته الزوجة الأولى، قالت: مبارك يا أبا شام. كنت أريد أن تتزوج من حبيبتك الشقراء سهام، أما وقد اخترت هذه فمبارك، سأترك لك بيت “المرتاحة”، من أجل شهر العسل، وأذهب إلى دارنا في “التعبانة”.

وقبّلت العروس وجرّت بناتها وحقيبتها ورحلت.

ثم كانت الحبسة الرابعة، وهي حبسة مختلفة. كانت حواجز كتائب الحرّ تعرف خصومها من سؤالٍ بسيط هو: عدّد ركعات الصلاة. أما حواجز النظام، فلم تكن تسأل، وإنما تقرأ الاسم ومكان الولادة، وتعتقل من غير فرصة للنجاة، فاعتُقل وأيقن بالهلاك، لكنه خرج، هذه المرة، في أقصر مدة. مكث شهراً، لم ينم فيه إلا واقفاً من الزحام. دعا ربه، ونَذَر وهو الذي لم يسجد سجدة واحدة لله، أن يتوب، وسأل ربه بحبِّ نبيه، وكان سمّى ابنه على اسم النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، أن يُنجيه، فكانت المبادلة الشهيرة بين المعتقلين الإيرانيين والسوريين. ولم يطل مقامه في المرتاحة التي قصفت بالبراميل، فهرب مع العروس إلى التعبانة، فاستقبلته أم شام، وكان عندها جارة عرفت لتوها أنّ لدى أم شام ضرة، ولم تعلم بها. وهذا غريبٌ، فالنساء تشكو وتثرثر، فدعت عليها فأخرستها أم شام: اخرسي.. ينقطع لساني، ولا أدعو على زوجي، أهلا بأبي شام، البيت بيتك، فقبّل يدها، في أداءٍ لا يخطر على بال ممثل سينمائي، ولعلها كانت المرة الأولى، وقال لعروسه: قبّلي يد معلمتك ففعلت.

قال لها أبو شام الذي بدا عليه أثر الزمن، أمام الجارة والعروس: أقسم بالله، يا أم شام، أنت غالية، ولو أنّ أهل هذه المخلوقة، وأشار إلى العروس أحياء، لأعدّتها إلى أهلها، وبعت الباص مؤخر صداق، لكنها يتيمة الآن، فقد ماتوا جميعاً ببرميل. فضمّتها أم شام، وقالت: أختي الصغيرة. ولم يبد على هنود شيء من الذل أو الغيرة، وعادت لتقبيل يد أم شام، فسحبتها، وقالت: نتناصف كل شيء.

لم تحجب الغيوم البراميل عن التعبانة طويلا، فقرّر أبو شام الهرب إلى تركيا، ووصل إلى الريحانية، بعد رحلةٍ شاقة، واستقر بها مع زوجتيه، وعُرض عليه السفر إلى أوروبا، فقال: عندي زوجتان.. وأوربا لا تعترف سوى بواحدة.

قبل أيام، أرسلت له مائة دولار، فقال لي: خيرك سابق.. لكني لن أستطيع أن أردّها يا أستاذ، فقلت له: ويحك، يا أبا شام، أنا لا أقرض إلا الله. فقال: على راسي، وأظنه بكى.

ختمت الحكاية: “أجمل قصة حبٍ نبت في المرتاحة، وأينعَ في الريحانية”.

قال عن إذنك خال: حرّك السرير جوانبه، ونكأتَ الجروح.. أنا خارجٌ للبحث عن مدخّنة تقدم حب السبيل.. جهّز البيت، خال.

قلت لنفسي: عجيب أمر هذا الفتى الضّال، ما الذي حرّك في قصتي جوانب سريره الهزّاز؟ الفتى عايش في مرجوحة.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى